حسن حنفي.. رائد علم الاستغراب وأبو اليسار الإسلامي

أمين حبلا

حين بلغ 86 سنة رحل الدكتور حسن حنفي، بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس، وأثار أكثر من عاصفة جدلية، وخاض حروبا مفتوحة مع التراث والحداثة على حد سواء.

قدم حسن حنفي نفسه باعتباره قارئا نوعيا للتراث الإسلامي، ومعيدا لبناء الأنساق الحضارية للمسلمين وفق رؤية حداثية نقدية جديدة، ورأى فيه خصومه غير ما رأى عن نفسه.

 

ولد حسن حنفي في 1935 في حاضرة المدائن المصرية مدينة القاهرة، وفي بداية الخمسينيات كانت شخصيته الغضة المراهقة قد أخذت نفسا دينيا عميقا، وبدأت ترنو إلى الحركية الإسلامية الصاعدة الممثلة بتيار الإخوان المسلمين الذي أسسه الشيخ حسن البنا رحمه الله سنة 1929.

تربى حسن في المحاضن الدينية للتيار الإسلامي الذي اكتسح يومها كثيرا من دوائر التأثير في الجامعات والمساجد، وحتى في الشارع المصري العام، وتدفق إليه آلاف الشباب الحالم بإيمان متوقد ونهضة إسلامية تعيد للمسلمين عموما والمصريين خصوصا هويتهم وكرامتهم.

حسن حنفي يبحث في القرآن والسنة النبوية عن جذور علمانية للإسلام

 

كان حسن زميلا للمرشد الإخواني الراحل محمد مهدي عاكف رحمه الله في شعبة باب الشعرية التابعة لتنظيم الإخوان المسلمين، لكنه سرعان ما غادر تنظيم الإخوان، وتبرأ من تراثهم الفكري والحركي، وتحول منهم نحو اليسار، قبل أن يغرس مداده التشخيصي في جسد التراث الإسلامي ونصوصه سواء تلك المقدسة أو التفسيرية للمقدس.

ويظهر جليا أن حسن كان مسكونا بالرؤية الإسلامية، فحتى وهو يبتعد عنها كان يعود إليها من جديد في قراءة من خارج الانتماء الحركي والفكري الذي يرى أنه كان أضيق من أفق نظراته ومجرى مداده.

“الإخواني الشيوعي”.. رحلة بين كراسي الدراسة والتدريس

حمل حسن حنفي لواء ما عرف لاحقا باسم اليسار الإسلامي، وهو تيار حداثي نشأ داخل رحم الحركات الإسلامية، وتفاوتت درجات خطابه بين المصالحة والتدرج في خطابات علي شريعتي وراشد الغنوشي وحسن الترابي، وبين الحدة وإعادة الترتيب أو تبرئة المفاهيم الفلسفية الغربية وإدماجها في دائرة الفكر والتراث الإسلامي، وهي المهمة التي اضطلع بها حنفي وسار فيها سيرا متواصلا إلى أن توقف به عداد الزمان، وأسلم الروح إلى بارئها.

 

تخرج حسن من جامعة القاهرة، ثم انتقل بعد ذلك إلى جامعة السوربون ليحرز منها شهادتي الماجستير ثم الدكتوراه في الفلسفة برسالتين جامعيتين، أعاد ترجمتها سنة 2006، ونشرهما بالعربية.

وقد تدرج “الإخواني الشيوعي” كما أطلقت عليه المخابرات المصرية -حسبما قيل- في مناصب تدريسية عليا، فعمل مدرس فلسفة بكلية الآداب في جامعة القاهرة، قبل أن ينتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية أستاذا زائرا بجامعة تمبل في فيلادلفيا.

وقد طوحت الرحلة العلمية بحسن حنفي إلى طوكيو التي وصل إليها أستاذا زائرا للفلسفة، وحاضر في جامعاتها (1985-1987)، وفي نفس الفترة التي صعد فيها نجم حسن حنفي وتعزز حضوره الفكري في الساحة العربية والإسلامية، عمل أيضا أستاذا زائرا للفلسفة في جامعة محمد بن عبد الله بفاس المغربية.

وبعد تطواف في عدد من الجامعات بالخارج عاد حسن من جديد إلى جامعة القاهرة رئيسا لقسم الفلسفة، قبل أن يتفرغ للعمل التدريسي قرابة ربع القرن الأخير من حياته أستاذا متفرغا للفلسفة في نفس الجامعة التي عرفته طالبا ثم أستاذا محاضرا وكاتبا مؤثرا وعنوان مرحلة مهمة من مراحل التدافع الفكري والسياسي تجاه التراث والحاضر الإسلامي.

وقد أخذت الفلسفة جزءا أساسيا من حياة وفكر حسن حنفي، فسعى إلى إعادة هيكلة الجهود والفعاليات المهتمة بالدرس الفلسفي في العالم العربي بشكل مؤسساتي، وقد تولى الأمانة الجامعة للجمعية المصرية للفلسفة، كما تولى أيضا نيابة رئيس الجمعية العربية للفلسفة، وكانت تسنده في عمقه الفلسفي وعلاقاته الواسعة مع الأكاديميين قدراته اللغوية التي تجمع بين العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية.

“التراث ابن عصره”.. ثورة فيلسوف اليسار الإسلامي

اعتبر حسن حنفي لعقود منظّرا أساسيا لتيار اليسار الإسلامي الذي نشأ في ظلال الحركة الإسلامية، وثورة القراءات الجزئية والتاريخية للإسلام، وغياب الولوج إلى المقاصد السامية التي تؤطر تعاطي الإسلام مع الحياة، على ما يراه قادة ومنظرو ذلك التيار.

كما كان التيار المذكور ثورة على ما يصفونه بضمور الفكر السياسي، وفقه الحريات في الفكر الإسلامي التقليدي السائد.

مشاركات في حوارات مع مؤسسات ذات أجندات حداثية

 

كان حسن حنفي أحد أكبر المنظرين لهذا التيار، لكنه تجاوز المقولات والأفكار التقليدية لهذا التيار لينتقل إلى نقد النص المقدس، والحط من مكانة الحديث والسنة النبوية في بناء المرجعية للإنسان المسلم.

أعاد حسن قراءة السنة وفق معايير جديدة، باحثا فيها عن جذور علمانية للإسلام أو أسلمة العلمانية على الأقل، ولذلك سعى إلى نقل الاهتمام العلمي من الله جل جلاله والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الإنسان، من الروح إلى المادة، من العقل إلى الطبيعة.

وقد كان المشروع التجديدي لحسن حنفي مناقضا للقراءات التراثية السائدة، فلا يرى أي مرجعية للتراث ولا تأثيرا له في متغيرات الحياة اليوم، بل يرى أنه مربوط وقاصر على زمنه الخاص، ولذلك رفع شعار “التراث ابن عصره”، وتأسيسا على ذلك أراد محاكمة التراث انطلاقا من واقعه المعاصر، ورفع الصوت عاليا بأن كل ما لا يوافق الواقع والعصر من التراث ينبغي أن ينبذ ولا يؤخذ به، ولو كان متفقا عليه بين العلماء، وفق تعبيره الذي اتسم غالبا بالجرأة والحدة، وليس التراث في نظره غير وسيلة للتجديد، والتجديد هو الهدف.

مادية النص المقدس.. علمانية الوحي التي غيرها التاريخ

يدخل في التراث عند حسن حنفي النص المقدس والتفسير العلمي له، خلافا لمن يجعلون التراث قراءة وتفسيرا وتعاملا من العقول الإسلامية مع النصين المقدسين الكتاب والسنة، وهو ما يعني أن الكتاب والسنة في منزلة أعلى من التراث.

لكن تلك المنزلة لم تكن بمنأى عن القلم الحاد الذي تعامل به حسن حنفي مع الوحي، فقد نظر إليه على أنه ظاهرة اجتماعية تاريخية، ومهمته في نظره تربوية سلوكية، والغاية منه تربية الإنسانية، وجوهر الوحي مادي لا ديني وأساسه علماني، “فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ، تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور”.

كما أن “العلمانية في تراثنا وواقعنا هي الأساس، واتهامها باللادينية تبعية لفكر غريب، وتراث مغاير، وحضارة أخرى”. كما يذكر في كتابه التراث والتجديد.

طلاق بائن بين حسن حنفي وجماعة الإخوان التي نشأ في كنفها

 

ويعتمد حسن حنفي في دراسته للقرآن الكريم، وخصوصا في كتابه “من النقل إلى العقل، علوم القرآن من المحمول إلى الحامل” شبكة مفاهيم يرى أنها ضرورية لفهم القرآن الذي يوزعه بين حوامل موضوعية مثل المكان والبيئة الاجتماعية والزمان، وبين حوامل ذاتية مثل اللغة والمعنى والأساليب والتفسير، فالوحي -بحسب رأيه- محمول تدرس علوم القرآن حوامله، وهدفه العمل.

وقد قابل العلماء المعاصرون وكثير من الإسلاميين كثيرا من آراء وتصورات حسن حنفي بعدم القبول والتسليم، بل كانت موضع تصدّ ومواجهة من عدد منهم، ومن بينهم العالم السوري مصطفى الزرقا الذي اعتبر أن حنفي سعى وبشكل حثيث إلى استنبات مفاهيم العلمانية داخل الإسلام، وبتعسف منهجي غير علمي.

علم الاستغراب.. حرب ضد الاستشراق والعلمانية الشرقية

يرى كثيرون أن إحدى أبرز الميزات التي تحلى بها الراحل حسن حنفي هي استعصاؤه على التصنيف، فحينما غرس قلمه بحدة في جسد التراث، وأعاد تشريحه بناء على رؤيته الفلسفية، عاد مرة أخرى إلى العلمانية التي حاول غرسها في هرمية النصوص الإسلامية المقدسة، ليوجه إليها سهام النقد، وخصوصا طبعتها المشرقية، داعيا إلى تأسيس جديد لعلم الاستغراب، ومنتقدا ما رآه انفصالا شديدا للعلمانية العربية عن التراث المشرقي، وارتباطها الوثيق بالتراث الغربي.

وقد أسس حسن لعلم الاستغراب في مواجهة علم الاستشراق، معتبرا أن الاستشراق الأوروبي زود العقل الغربي بمركب غرور باعتباره ذاتا دارسة جامعة للمعلومات والتحليل عن المشرق فكرا وإنسانا وحضارة، كما أنه أيضا ولد مركب نقص عند المشرقي باعتباره ذاتا مدروسة.

“علم الاستغراب” مصطلح أوجده حسن حنفي في مقابل “الاستشراق”

 

ويدرس حسن الاستغراب باعتبار أثره الشديد على الذاكرة والذائقة العربية، حيث أصبح الغرب النموذج المؤثر بقوة في مختلف مدارس الإصلاح، فليس الإصلاح الديني الذي تقدم به جمال الدين الأفغاني، ولا الإصلاح المدني والثقافي الذي تقدم به رفاعة الطهطاوي، ولا الإصلاح العلماني الذي تقدم به شبلي شميل ومن يرى رأيه؛ أكثر من رجع صدى للانبهار المشرقي بالذات الغربية وقيمها وثقافتها، ومنجزاتها الواقعية.

ويدفع حسن بضرورة التخلص من وهم الفوقية الغربية، أو اتخاذ الغرب مصدرا وحيدا للمعرفة، معتبرا أن ذلك الوهم جزء أساسي من الاستعمار الثقافي وتضخم الآخر في نظر الأنا العربية، وفي سبيل ذلك يدفع مقولات التكامل والتشابه بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، بل يرى أن التضاد والتعارض بينهما في الأصول والقيم والمآلات هو الحقيقة التي ينبغي أن يصل إليها النظر الفكري السليم.

مكتبة القلم الثري.. تراث يتجاذبه المريدون والمناوئون

شملت مكتبة حسن حنفي عناوين متعددة، فقد كان الراحل ثري الثقافة، ثرّ القلم، مسهبا في التأليف، ونشر قرابة الثلاثين من المؤلفات، من بينها كتب موسوعية تصل إلى تسع مجلدات.

ومن بين العناوين التي تصادفك في مكتبة حسن حنفي:

–      من العقيدة إلى الثورة.

–      التراث والتجديد.

–      من النص إلى الواقع.

–      من النقل إلى العقل.

–      من الفناء إلى البقاء.

–      حوار المشرق والمغرب.

–      موسوعة الحضارة العربية الإسلامية.

–      فيشته فيلسوف المقاومة.

–      مقدمة في علم الاستغراب.

–      في فكرنا المعاصر.

–      اليمين واليسار في الفكر الديني.

مكتبة زاخرة بالكتب الفكرية والفلسفية خلفها حسن حنفي عبر سني استغرابه واستشراقه

 

إضافة إلى غيرها من الكتب التي خطها مداد حسن خلال مسيرته الطويلة، وقد نالت أعماله الاهتمام والتقدير، كما أثارت الجدل والردود، ومن بين التقديرات التي حصل عليها جائزة الدولة التقديرية في مصر سنة 2009، وجائزة النيل، فرع العلوم الاجتماعية في عام 2015.

وبرحيل حسن حنفي في 21 أكتوبر/تشرين أول 2021 تفقد مصر أحد أعلامها وأقلامها البارزين، وتفقد الدراسات الفلسفية المعاصرة أيضا أحد أهم أصواتها وأكثرها جرأة على الصدح بما يرى سلامته وتماسكه، كما يفقد علم الاستغراب مؤسسه الذي لم تمهله الأيام القدر الكافي لرفع سقف العلمية في هذا المشغل الأكاديمي الجديد الذي يتأسس على المواجهة والتناقض مع علم الاستشراق الذي أسال مدادا غزيرا وجدلا واسعا، وأثرى المكتبة العربية بمؤلفات متنوعة.

ولا شك أن النقاش والحوار حول حسن حنفي لن ينتهي برحيله، بل سيتشبث به الذين رأوه عقلا عربيا متجاوزا لزمنه، مقتدرا على فهم التراث، متحررا في التعاطي مع المقدس، مستقلا في تشريح الاستغراب، أما الذين رأوه مجرد صفحة من صفحات الفكر الماركسي مكتوبة بلغة عربية، فلن يدخروا -كما فعلوا خلال حياته- أي جهد في التقليل من قيمة تراثه وما أنجز من دراسات، وبيان تناقضها، وضعف مستنده العلمي وقدرته اللغوية في التعاطي مع الوحيين والمصادر الأساسية للثقافة الإسلامية.

وبين هؤلاء وأولئك يبقى حسن حنفي صوتا عميقا من أصوات أرض الكنانة، وقلما خالدا من أقلام الفلسفة، واسما لا يمكن تجاوزه في تاريخ القاهرة وجامعتها.