حسين صدقي.. عقل في الأستديو وقلب في المسجد

أسامة صفار

رغم المحاولات المضنية التي بذلها صدقي لاستخدام "السينما" من أجل "الآخرة"، إلا أنه أعلن ندمه في النهاية

سبعة أطفال لم يتجاوز أكبرهم الـ18 عاما، أما أصغرهم فكانت في الثامنة من عمرها، تعانق أيديهم سريرا يرقد فوقه واحد من أشهر نجوم السينما المصرية، بينما تقف الأم وعيناها معلقتان بعيني الرجل الذي يحتضر. استدعى المريض ابنه بصوت خافت وقال “احرق كل ما يصل إلى يديك من أفلامي ما عدا فيلم “سيف الله خالد بن الوليد”، وأوصيك وإخوتك بتقوى الله”، ثم صمت الفنان حسين صدقي.

الصمت هذه المرة لم يكن بأمر المخرج أو السيناريست، إنه أمر إلهي، فقد صعدت روحه إلى بارئها بعد حياة حافلة بالنضال والكفاح انحيازا للقيم والدين باستخدام السينما التي خذلته، فاتخذ آخر قراراته قبل أن يلقى ربه بدقائق قليلة وأملاه على ابنه.

 

السينما من أجل الآخرة

اختصر صدقي الأزمة التي تعيشها الأمة العربية والإسلامية سواء على المستوى الفردي أو الجمعي منذ انطلاق التحديث في بدايات القرن العشرين في تناقضاته التي عاش بها، ورحل بعد أن أزاحها عن روحه ونفسه، وتلك الأزمة تتعلق بقيم دينية حاكمة لا يصحّ التلاعب معها، وحياة مفعمة بما تشتهيه النفس الإنسانية، وحين يقرر الفرد أن يجمع بين الاثنين فهو يحوم حول حمى يكاد أن يسقط فيه.

ورغم المحاولات المضنية التي بذلها الرجل لاستخدام “السينما” من أجل “الآخرة”، فإنه أعلن ندمه في النهاية، مُعترفا بذلك التناقض الذي تصور أنه سقط فيه. ولا يقف حسين صدقي وحيدا في تلك المساحة، لكن معه الكثير من الذين يقفون حائرين ممزقين وباحثين عن مقاربة تجمع بين القيمة والقامة، وهي نفسها الأزمة التي قد تكون واحدا من أسباب ولادة ونمو الاتجاهات المتطرفة التي يفرزها يأس من إمكانية الاعتدال والتوازن، كما أنها دون شك تُعدّ سببا مهما لتوقف البعض عن الفعل، أيّ فعل، حتى الجمود والضمور، وهو تقريبا ما تعيشه الأمة على المستوى الجمعي.

عاش حسين مع زوجته وأبنائه في "فيلا" بالمعادي 16 عاما

صدقي.. اعتذار عن دور “مُحرّم”

صادف ميلاد حسين صدقي وتفتح وعيه بدء التحولات الكبرى والانبطاح أمام الغرب، واستيراد القيم والسلع معا، وكانت السينما كصناعة قد بدأت في التبلور ومعها جيل منسحق أمام الغرب، وبدلا من أن يحاول بناء صناعة تنتمي لثقافته ومنظومته القيمية؛ بدأ في التقليد، وبين تصورات صدقي عمّا ينبغي أن يكون عليه الأمر وما هو عليه فعلا؛ ظلّ حائرا حتى رحيله.

ولعل مشهد بداية احترافه وترشيحه لأول بطولة مسرحية هو الأغرب في تاريخ التمثيل في العالم، إذ أرسل الفنان يوسف وهبي دعوة إلى الشاب حسين صدقي كي ينضم إلى فرقته بعدما سمع عن تألقه ليقوم بتجسيد أحد الأدوار في مسرحيته الجديدة، وفي أول لقاء بينهما أبدى يوسف وهبي إعجابه به، وأسند إليه دورا هاما في المسرحية الجديدة.

أخذ حسين صدقي يقرأ الدور الذي سيقوم بتجسيده ليحفظه، ويستعد للاشتراك في البروفات، وفي اليوم التالي حدث ما لم يكن يتوقعه يوسف وهبي من رد فعل حسين صدقي، حيث علت وجهه الدهشة عندما فوجئ به يرفض الدور والاشتراك في المسرحية، وبابتسامة ساخرة سأله يوسف وهبي عن سبب اعتذاره فأجابه صدقي قائلا “إن الدور الذي سيقوم بتجسيده لن يقدر على تمثيله، حيث سيقوم بالانزلاق مع زوجة أبيه”. ضحك يوسف وهبي وأوضح له بأن ذلك تمثيل، لكنه رفض بشدة واعتبر القيام بهذا الدور “حرام”، ولم يترك له الفرصة لمناقشته وانصرف على الفور.

بدأت حياة صدقي الفنية في فيلم "تيتاوونج" عام 1937 من إخراج أمينة محمد

تنشئة متدينة وبناء لمسجد

ولعل نشأته تبرر ذلك الصوت حيث ولد يوم 9 يوليو/تموز عام 1917 بحي الحلمية الجديدة في القاهرة لأسرة متدينة، وتوفي والده وهو لم يتجاوز الخامسة، فكانت والدته التركية لها الدور الأول والأهم في تنشئته ملتزما ومتدينا.

ربطته صداقة قوية بالشيخ محمود شلتوت الذي وصفه “بأنه رجل يجسد معاني الفضيلة ويوجه الناس عن طريق السينما إلى الحياة الفاضلة التي تتفق مع الدين”، وارتبط أيضا بصداقة قوية مع الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر وقتئذ، وكان يستشيره في كل أمور حياته.

عاش حسين مع زوجته وأبنائه في “فيلا” بالمعادي 16 عاما، وهناك بنى مسجدا افتتحه الرئيس الراحل محمد نجيب في أبريل/نيسان 1954 بحضور رئيس الوزراء آنذاك جمال عبد الناصر، وجموع قيادات مجلس الثورة، بالإضافة إلى الشيخ شلتوت، وفيما بعد حمل الميدان الذي بُني فيه المسجد اسمه.

يقول ابنه كابتن طيار “حسين” في حوار صحفي في أغسطس/آب 2017 إن “والده مَن خطب الجمعة يوم الافتتاح، لأن هناك صورة تجمع بين مجلس قيادة الثورة كاملا وشيخ الأزهر ينصتون إلى الخطبة، وهناك صورة أخرى يظهر فيها والده على المنبر يوم افتتاح المسجد”.

بلغ رصيده صدقي الفني حوالي 32 فيلما سينمائيا عالج من خلالها العديد من المشكلات أبرزها "ليلى في الظلام"

السينما والدين.. علاقة تخدم الشعب؟

بدأت حياة صدقي الفنية في فيلم “تيتاوونغ” عام 1937 من إخراج أمينة محمد، ومن ثم أسس شركته السينمائية “أفلام مصر الحديثة”، والتي كانت باكورة إنتاجها فيلم “العامل”.

ومنذ دخوله عالم الفن في أواخر الثلاثينيات عمل على إيجاد سينما هادفة بعيدة عن التجارة الرخيصة، وعالجت أفلامه بعض المشكلات مثل مشكلة العمال التي تناولها في فيلمه “العامل” عام 1942، ومشكلة تشرد الأطفال في فيلمه “الأبرياء” عام 1944.

وكان يرى أن هناك علاقة قوية بين السينما والدين، لأن السينما -كما يقول- من دون الدين لا تؤتي ثمارها المطلوبة في خدمة الشعب، وبلغ رصيده الفني حوالي 32 فيلما سينمائيا عالج من خلالها العديد من المشكلات، ومن أبرزها “ليلى في الظلام”، و”المصري أفندي” و”شاطئ الغرام”، و”طريق الشوك”، و”الحبيب المجهول”. كما عمل في أغلب الفرق المسرحية لرواد المسرح المصري أمثال “جورج أبيض” و”مسرح رمسيس”.

يعد فيلم "العزيمة" هو الأهم في مشواره الفني، فهو أول فيلم واقعي في تاريخ السينما المصرية

“العزيمة”.. على لائحة أهم مئة فيلم في العالم

ويعد فيلم “العزيمة” هو الأهم في مشواره الفني، فهو أول فيلم واقعي في تاريخ السينما المصرية بشهادة عدد كبير من النقاد الذين اختاروه ليكون ضمن قائمة أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، واعتبره الناقد الفرنسي الكبير جورج سادول أحد أهم مئة فيلم في العالم، وقال عن مخرجه “سينمائي مصري بمرتبة عالمية”.

وتدور أحداث الفيلم داخل حارة شعبية، حيث يعيش محمد وفاطمة في الحارة نفسها وتربطهما قصة حب، يتخرج محمد ويبحث عن عمل، ويتفق مع صديقه على تأسيس مشروع خاص قائم على أن يأتي هو بالفكرة والجهد وصديقه برأس المال، لكن يخسر صديقه الأموال في القمار، ويساعده والد صديقه في العمل بإحدى الشركات، حيث يتزوج محمد من فاطمة، وفي شهر العسل يقع في مشكلة بعمله يُفصل بسببها، ويضطر لقبول عمل بسيط دون أن يخبر زوجته، والتي تكتشف الأمر فتتهمه بأنه خدعها وتطلب منه الطلاق، وفي نهاية الفيلم يحقق محمد حلمه بتكوين مشروع خاص بعدما يصفح والد صديقه الثري عن نجله، ويمنحه المال اللازم للمشروع، فيذهب محمد ليعيد زوجته لعصمته قبل زواجها من شخص آخر.

“العزيمة” تأليف كمال سليم وبديع خيري، وبطولة فاطمة رشدي وحسين صدقي وزكي رستم وماري منيب وأنور وجدي وعبد العزيز خليل وعباس فارس، وإخراج كمال سليم.

 

“الشيخ حسن”.. عن توتر مسلم مسيحي

جاء فيلم “الشيخ حسن” عقب توتر بين المسلمين والمسيحيين في مصر عام 1950، وذلك بعد أن تزوجت الأميرة فتحية فؤاد شقيقة الملك فاروق رجلا مسيحيا، ولم يسمح بعرض الفيلم إلا بعد أربع سنوات، أي بعد تخلّي فاروق عن العرش ونفيه إلى إيطاليا.

تناولت أحداث الفيلم قضية الزواج المختلط بين الديانتين الإسلامية والمسيحية، وذلك من خلال مسألتين مرفوضتين من الناحية الأمنية، من شأنهما التأثير على سلامة الوحدة الوطنية والتماسك بين طوائف المجتمع المصري، من خلال المقارنة بين الأديان بصفة عامة، لأن مجالها البحث العلمي المعتمد على أصول المعرفة، والثانية أن المقارنة المرفوضة من حيث المبدأ والمزايدة على حب الله والدين، ويقوم حسين صدقي بدور الشيخ حسن المسلم الذي يقع في غرام بنت مسيحية تدعى “لويزا” (تؤدي دورها ليلى فوزي)، حيث يتزوجها بعد هروبها من بيت أهلها، لتعلن إسلامها قبل وفاتها في نهاية الفيلم.

أُوقف فيلم "العامل" مع بداية عرضه بأمر من الملك فاروق

“العامل”.. عن روح عمالية ثائرة

وأُوقف فيلم “العامل” مع بداية عرضه بأمر من الملك فاروق، ويعزو البعض سبب المنع إلى الروح العمالية اليسارية الثائرة في الفيلم، حيث لم يسمح بإعادة عرضه إلا بعد حذف بضعة مشاهد منه.

تقوم أحداث الفيلم الذي كان أول عمل ينتجه صدقي على شخصية شاب متحمس يدافع عن حقوق العمال لدى أصحاب المصانع وشركات الإنتاج، ما يدخله في صدامات ومؤامرات مع أصحاب المصانع والمال.

تتبدّل الأحوال ويصبح للعامل البسيط سلطة الطبقة الكادحة وقدرتها على التغيير، ويتحوّل إلى زعيم يدافع عن حقوق العمال ويعلّمهم أصول الدفاع عنها، وحقوقهم في الإضراب والممارسات العمالية المختلفة.

جرى تصوير الفيلم في مصنع حقيقي وفي بضعة أستوديوهات تابعة للدولة كانت قد افتتحت حديثا عند تصوير الفيلم، وقد فقدت جميع نسخ الفيلم من الأرشيف المصري.

 

“يسقط الاستعمار”.. توثيق لمعركة مع الإنجليز

وإلى جانب فيلم “العامل” المفقود، كان الفنان حسين صدقي قد أنتج ومثّل في عدّة أفلام تتناول الطبقات العمالية والمهمشين والمقموعين، ولطالما واجهت أفلامه المنع أو العرقلة، من ذلك فيلمه “يسقط الاستعمار” عام 1952 الذي انتقد الدور السلبي للقصر وتخليه عن الفدائيين، لذلك رفضه الملك، ولم ير الفيلم النور إلا بعد قيام ثورة يوليو.

في شهر ديسمبر/كانون الأول عام 1952 عُرض الفيلم المصري “يسقط الاستعمار” بسينما رويال ولوكس بالقاهرة وركس بالإسكندرية، وهو من الأفلام الحربية التي أنتجها وأخرجها الفنان حسين صدقي لحسابه الخاص وخسر فيه كثيرا.

أعد حسين صدقي الفيلم حول فترة المعركة مع الإنجليز بعد أن قام بتوثيق أحداثها، وانتقد في الفيلم الدور السلبي للقصر وتخليه عن الفدائيين، وانتهى من تصويره عام 1947 إلا أن الملك فاروق رفض عرض الفيلم، حتى إنه قبض على حسين صدقي وسُجن بسبب هذا الفيلم الذي ظلّ حبيس الأدراج خمس سنوات، وذلك حتى قامت ثورة يوليو/تموز 1952. وكانت هناك صداقة بين بطل ومنتج ومخرج الفيلم حسين صدقي مع بعض قادة الثورة بعدما أفرج عنه، وكان أن أصدر مجلس قيادة الثورة قرارا بعرض الفيلم في ديسمبر/كانون الأول 1952، وقرر حسين صدقي اعتزال الفن عام 1956، وطالبه البعض بالترشح للبرلمان، وبالفعل خاض التجربة لكنه لم يكررها.