حمادة سلطان.. مونولوجست الرئيس!

ياسر ثابت

في سبعينيات القرن العشرين، لم يكن هناك أحدٌ بوسعه منافسة الشيخ عبدالحميد كشك في شهرته في عالم الكاسيت، إلا المونولوجست حمادة سلطان.
مفارقة عجيبة وغريبة، لكنها كانت ترمز إلى التحولات الاجتماعية في مصر من ناحية، وإلى أهمية المونولوجست ومفهوم النكتة في حياة المصريين زمان.. والآن.
 الفنان حمادة سلطان -الذي رحل عن عالمنا في العام 2015- حمل لقب (صاروخ النكتة)، فقد كان أسرع من يُلقي النكات التي مست عصب الحياة في مصر والعالم العربي حينـًا من الدهر، وأضحكت الكثيرين على واقعهم وحياتهم بل وعلى أنفسهم.
الأطرف من ذلك، أنه كان أول من يضحك على النكت التي يلقيها!

كان حمادة سلطان أسرع من يؤلف النكات لسرعة بديهته وخفة ظله

جاء حمادة سلطان بعد سلسلة طويلة من نجوم هذا الفن من أمثال محمود شكوكو -الوحيد الذي صنعوا له دمية باسمه تباع في الأسواق- وفكري الجيزاوي وإسماعيل ياسين، وعاصره وجاء بعده كثيرون مثل سيد الملاح وأحمد غانم ونبيل فهمي وحلمي المليجي وفيصل خورشيد وعادل الفار ومحمود عزب، وأيضـًا ظهرت أسماء نسائية قليلة في هذا المجال، أبرزهن ثريا حلمي ولبلبلة، غير أن حمادة سلطان ظل مشهورًا بخفة ظل وسرعة بديهته ليستحق فعلًا لقب “صاروخ النكتة”.
وإذا كان هذا الفن قد عرف نجومـًا كبارًا، بدأوا حياتهم بأدائه، من بينهم يوسف وهبي ونجيب الريحاني وحسن فايق، فإن الطريق للسينما كان يبدأ من المونولوج، وأشهر مونولوجست فتحت له السينما أبوابها هو إسماعيل ياسين، ولم تتوقف السينما عن الاستعانة بنجوم المونولوج مثل محمود شكوكو، وأحمد الحداد، وأحمد غانم، وسيد الملاح، وحمادة سلطان.

رأى السادات في نكات حمادة سلطان تعبيرا رمزيا عن مدى رضاء الشعب عن سياساته

ارتبط هذا الفنان الضاحك بعلاقة وطيدة مع الرئيس السادات، فكان الأخير يطلبه بالاسم في أوقات بعينها لكي يتوجه له في منزله ويقضي معه أوقاتـًا طويلة، مما أثار ردود فعل عديدة حول الأسباب التي تدفع الرئيس للإصرار على لقاء (مونولوجست). لم يفطن أحد على الإطلاق للسر خلف هذه اللقاءات، وهو أن السادات كان يدرك تمامـًا أن النكات التي يلقيها حمادة سلطان تعكس ما يدور في الشارع المصري من هموم وآراء شعبية حول كل القضايا بما في ذلك اتفاقية السلام التي أثارت ضجة متباينة عام 1977، مما دفع السادات بمطالبته بالتوجه له ليسمع منه النكات التي تم تأليفها عن هذه المبادرة.. فيضحك السادات بشدة! 
وكشفت جيهان السادات أن زوجها الرئيس الراحل كان يحرص بشدة على لقاء شخصيات معينة في أوقات الأزمات السياسية الكبرى، ومن بين هؤلاء (المنولوجست) حمادة سلطان صاحب براءة اختراع 15 ألف نكتة، والرجل الوحيد الذي كان قادرًا على إضحاك السادات في أحلك الظروف، ولهذا استحق بجدارة لقب (منولوجست الرئيس)!

اسمه الحقيقي محمد محمد عبدالغالي. من مواليد أغسطس عام 1941. نشأ في مدينة أسوان وكان أبوه رجلًا بسيطـًا لا يسمع عن الفن أو السينما، جاء للقاهرة واصطحبه معه هو وأشقاؤه الكبار (أحمد) و(عبدالمنعم)، والأصغر الكابتن مصطفى عبدالغالي الذي لُقِّب (بالمايسترو الصغير) أثناء لعبه بالأهلي وكان ضابطـًا في الجيش وعمل مديرًا فنيـًا لمنتخب فلسطين الكروي.
أقام مع أسرته في حي شبرا العريق، وكان من جيرانهم الفنان الكبير  يوسف شعبان الذي ربطته به فيما بعد صداقة عميقة. سعى الأب لكي يكون ابنه أحد طلبة الأزهر الشريف فألحقه بالكُتَّاب لكي يتعلم القرآن، لكن الأمر تغير تمامـًا بعد التحاقه بمدرسة (النيل الإعدادية) التي كان من بين مدرسيها السيناريست المعروف عبدالحي أديب والملحن فؤاد حلمي، وداخل هذه المدرسة تغير كل شيء وقرر الاتجاه للفن.

لحمادة سلطان أكثر من 15 ألف نكتة مسجلة باسمه

في هذه المدرسة بدأ مشواره مع الفن (كهاو) وفي نفس المدرسة تكونت فرقة (الدراويش) على اسم الفرقة المسرحية الإسكندرانية التي كانت تحمل نفس الاسم، وشاركت فيها المطربة الكبيرة المعتزلة شادية، وشيئـًا فشيئـًا أصبح حمادة أهم عضو بالفرقة، وكانت (الدراويش) ظاهرة رائعة بها خط كوميدي وبداخلها نمت موهبته.

قد يندهش البعض حين يعلم أن حمادة سلطان كان يتطلع إلى أن يكون مطربـًا وكان يتنافس في الغناء هو ومحرم فؤاد والجندي، وكانت بدايته من خلال برنامج الهواة في الإذاعة بعيدًا عن النكتة وفي فرقة “ساعة لقلبك” الشهيرة. وفي هذا الوقت كانت النكتة ذات قيمة كبيرة ومهمة في حياة الفنان المشهور أحمد عبدالفتاح الجمل الذي اكتشفه في فرق الهواة فكانت نتيجته الأول على 180 هاويـًا، واللجنة كانت مكونة من مخرج الواقعية صلاح أبو سيف والكاتب محمد عفيفي والراقصة ثريا سالم. أخذ يرى أن النكتة مرتبطة بحكاية الشعب بأكمله فقرر عمل مونتاج لهذه الحكاية من معاناة الناس، ومن هنا نشأت فكرة السرعة، ولم يستوعب زملاؤه الفكرة في حينها لكنه اشتهر فيما بعد بلقب (صاروخ النكتة).
كان أول أجر حصل عليه هو 50 قرشـًا في اليوم الواحد لمدة 15 يومـًا في كازينو عابدين قبل أن يكون مركز شباب عابدين، وقدمه الإذاعي فؤاد عمر في برنامج إذاعي شهير.
في البداية، غضب والده الرجل الصعيدي البسيط بعد أن فوجئ به يختار هذا الطريق، إلا أنه بمرور الوقت اقتنع تمامـًا بل كان يحرص على الاستماع للنكت الجديدة من قبل أن يلقيها على الجمهور. 
في هذا الوقت من بداياته تزامل واقترب بشدة من أحد نجوم فرقة ساعة لقلبك وهو (سلطان الجزار) وتعلم منه أشياء كثيرة وأهم ما تعلمه منه كيف تُصنع النكتة وكيف تُلقى فاقترن اسماهما لفترة طويلة، ومن هنا جاءت التسمية: حمادة سلطان. وحدث هذا بعد أول حفل شارك فيه وكان في مدينة بني سويف حيث كان هناك برنامج اسمه (السامر) يُقام بمناسبة العيد الوطني في المدينة وكُتبت في هذا الحفل شهادة ميلاده وسط عمالقة كبار شاركوا في الحفل مثل عبدالغني السيد ومحمد الكحلاوي وشريفة فاضل وآخرين. 

أعجبت أم كلثوم بحمادة سلطان وطلبت منه أن يؤدي فقرة ثابتة في كل حفلاتها.

تأثر حمادة سلطان بكثيرين وفي مقدمتهم محمود شكوكو وإسماعيل ياسين. إلا أن تأثره الأكبر كان بفكري الجيزاوي، الذي اشتهر بالمنولوج وتقليد الفنانين وإلقاء النكت .. كما اشتهر بنبرة صوته التي عشقها ساكنو المناطق الشعبية. وأحب الجمهور له تحديدا تمكنه ببراعة من تقليد نجوم الغناء الشعبي، أمثال محمد طه والريس متقال والفنانة خضرة وشفيق جلال. لمع نجم فكري الجيزاوي في المناطق الشعبية، وكذلك محافظات الوجه البحري والقناة، قبل ظهور حمادة سلطان.
 وذات يوم، اتصل المونولوجست محمد الجنيدي بحمادة، وأبلغه قائلًا: إن أم كلثوم تريد أن تراك بعد أن شاهدتك في التليفزيون، وطلبت أن تشارك في حفل كبير ستقيمه. اعترى حمادة سلطان شعور بالخوف والرهبة، لكنه حين ذهب إليها قالت له: (ما تقدمه فن جيد ولك أسلوب متميز في الأداء، حافظ على تلك الرعاية القوية بينك وبين جمهورك). وظلت هذه الكلمات نبراسـًا في حياته الفنية.
غير أن أم كلثوم ربما تكون قد غضبت منه في أحد الأيام. ففي إحدى الحفلات دعته لمشاركتها، وخطر له أن يداعبها ويقلدها فقدم في الحفل جزءًا من أغنية “أنت عمري” بطريقة فكاهية ساخرة دون أن يخبرها فعلم من آخرين أنها غضبت بشدة، بعد أن استمعت لضحكات الجمهور وهي خلف الكواليس. يومها شعر حمادة بصعوبة الموقف وهرب من الأبواب الخلفية خوفـًا منها!
الطريف أنه فوجئ بها تتصل به في اليوم التالي لتسأله عن سبب اختفائه بعد الوصلة وعرفت منها أن الفقرة أعجبتها وجذبتها وطالبته بتكرارها في كل الحفلات.
خلال الستينيات والسبعينيات، شارك حمادة سلطان في إحياء أفراح رؤساء ووزراء وكبار رجال الدولة، ومعظم أبناء مشاهير المجتمع، وفي مقدمتها كل أفراح أبناء الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وكل أبناء الرئيس السادات بالإضافة إلى ابن وزير الداخلية شعراوي جمعة وابنة المدعي الاشتراكي المستشار أحمد عبدالقادر.

إسماعيل ياسين كان من أشهر من قدّم فنّ المونولوج

بدأت علاقة حمادة سلطان بالرئيس الراحل أنور السادات بعد حرب 6 أكتوبر وذلك في حفل زفاف عريس من عائلة المشير أحمد إسماعيل على عروس من عائلة محمود أبو وافية (عضو مجلس الشعب) في نادي الرماية بالهرم. ويومها كان السادات شاهدًا على عقد القران ومعه زوجته جيهان. وعندما جاء وقت تقديم فقرة حمادة سلطان بدأ في إلقاء النكات على الصعايدة فوجد أحد الجالسين من الوزراء يقول له: (إيه يا أستاذ مفيش نكتة عن (المنايفة) أي أهل المنوفية، وكان السادات منهم، فقال حمادة على الفور: يا سيادة الوزير (أنت عايز توديني في داهية) فضجت القاعة بالضحك بما في ذلك الرئيس السادات.
ومن النكات التي ألقاها يومها (مرة واحد بيلعب شطرنج.. العسكري رفض يتحرك إلا لما ياخد شلن) فضحك السادات وفوجئ بعد انتهاء فقرته بممدوح سالم (وزير الداخلية آنذاك) يطالبه بالتوجه فورًا إلى الرئيس، فتوجه له وهو مرعوب وتحدث معه 10 دقائق ثم وجده يسأله عن خلفية هذه النكتة التي قالها فأجابه: (يا ريس، العساكر فقراء ولا يحصلون على رواتب كافية وأجورهم بسيطة) فنادى الرئيس على ممدوح سالم والمشير أحمد إسماعيل وقال لهم (أبقوا زودوا أجور العساكر) فقاموا بتغيير قانون الأجور، وبعدها بأيام ارتفعت أجور العساكر فأصبح حمادة فخورًا بأن نكتة قالها تسببت في ذلك. 
يقول حمادة سلطان: النكتة من الصعب أن تُؤلف أو تُكتب. نعم هناك مؤلفون لفن النكتة ويتقاضون أجورًا عن هذا ولكن أفضل وأهم أنواع النكت هي بنت الموقف الذي نعيشه ونراه ولهذا أنا أقوم بانتقاد السلوكيات الخاطئة، والنكتة أنواع.. اجتماعية وسياسية. لقد قدمت خلال مشواري مع فن النكتة الذي قارب نصف قرن من الزمان 17 ألبومـًا فكاهيـًا ونحو 15 ألف نكتة كلها مسجلة باسمي، ولكن للأسف هناك من سرقوا الكثير منها ونشروها على الإنترنت دون الرجوع إلى مما دفعني لرفع دعاوى قضائية ضدهم.