حياة الفهد.. صرح الدراما الكويتي

أسماء الغول

 

شُغفت الطفلة حياة الفهد بالسينما، إذ كانت تتسلل إلى صالتها غير البعيدة عن منطقة سكنها في المرقاب بالكويت حيث شاهدت لأول مرة فيلما سينمائيا كان من بطولة فريد الأطرش في خمسينيات القرن الماضي، ثم اعتادت أن تذهب لتشاهد مزيداً من الأفلام دون أن تخبر أحداً بحبها الجديد.

وفي أحد أيام عمل الموظفة حياة في مستشفى الصباح الكويتي حيث كانت تعمل هناك كي تساند عائلتها، زارت “فرقة أبو جسّوم” مستشفى الصباح ولم تكن حياة وقتها تبلغ الخامسة عشرة بعد، لكنها فتاة قوية الشخصية تعرف تماماً ما تريده، وكان بصحبتها زميلتها في العمل أمينة الشراح التي أصبحت إعلامية معروفة فيما بعد، وسألهما الفنان أبو جسوم خلال الزيارة إذا كانتا تحبان العمل في التمثيل يوماً ما، فأجابته الشراح على الفور؛ بأنها تريد أن تكون مذيعة وصديقتها حياة تريد أن تكون ممثلة.

وهكذا خاضت حياة بعنادها حربا لإقناع والدتها كي تنضم إلى الفرقة وتحترف مهنة التمثيل، لكن والدتها لم توافق بل عاقبتها، ومع ذلك لم تيأس إلى أن ساعدها شقيقها وأقنع والدته التي وافقت بشرط أن يذهب بصحبتها إلى الأستوديوهات والمسارح، وهذا ما كان.

 

أديبة لم تكمل تعليمها

ومثلت أول مسرحية لها بعنوان “الضحية” عام 1963 مع الفنان منصور المنصور ومن تأليفصقر الرشود، بينما كان أول عمل لها في التلفزيون مسلسل “عائلة بو جسوم” عام 1964، وحصلت وقتها على أول أجر لقاء التمثيل يبلغ 30 ديناراً كويتياً، وكانت وقتها العملة الكويتية صدرت حديثاً بعد عقود من التعامل مع العملة الهندية “الروبية”.

وكأن الفن كان مقدراً لهذه الطفلة التي لم تكمل تعليمها الابتدائي، لكنها اعتمدت على ذكائها فتعلمت الأدب العربي واللغة الإنجليزية، كما كتبت الشعر، فصدر لها ديوان شعري باسم “عتاب” في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وكتبت السيناريوهات والأعمال التلفزيونية أيضاً، وكأن ينابيع الفن داخلها تفجرت وصبت في نهر واحد من العطاء.

واستطاعت حياة الفهد على مدار 56 عاماً إنجاز أكثر من 120 مسرحية ومسلسلا تلفزيونيا وإذاعيا وأفلاما سينمائية وسهرات تلفزيونية، وأن تدخل إلى حياة أجيال عربية كاملة، فقد طُبعت لها في الذاكرة أدوار وأعمال من الصعب نسيانها كـ مسلسل “إلى أبي وأمي مع التحية” وتم تقديمه على جزأين عامي 1979 و1982، وهناك المسلسل الكوميدي الشهير “خرج ولم يعد” عام 1980، وقد كان أحد أعمالها المشتركة في البطولة مع الممثلة سعاد العبد الله، ومثله “رقية وسبيكة” عام 1986، و”خالتي قماشة” عام 1983 الذي شكلت فيه أيضاً ثنائية أخرى مع الممثل الكويتي غانم الصالح.

 

بين الكوميديا والتراجيديا.. تمرد على النمطية

وعلى الرغم من التزام حياة الفهد بالأعمال الكويتية المحلية فإنها دخلت قلوب جنسيات عربية متنوعة، وأبدعت في التراجيديا كما في الكوميديا، وبقت تكرس نفسها للتميز إلى آخر أعمالها في مسلسل “بياعة النخي” عام 2016 الذي يعتبر طفرة في تميزه خلال العقد الأخير من الدراما الكويتية، وكذلك مسلسل “حال مناير” عام 2015 الذي يناقش فعلا انتقاميا جماعيا تقوم به عائلة فقيرة من طبقة غنية.

وهناك المسلسل الكوميدي “رمانة” عام 2017 الذي يؤكد خفة دم الفهد الحاضرة دوماً مهما تراكمت أعمالها التراجيدية، وفيه الفكاهة الأصيلة والتلقائية معاً، ويُذكّر بدورها في المسلسل الكوميدي “خالتي قماشة” إذ كانت تلعب فيه أيضا دور الأم المستبدة رغم أنها كانت لا تزال في الخامسة والثلاثين من عمرها، لكن هذه هي حياة الفهد التي لم تخشَ يوماً دوراً أو تتردد خوفا من أن يسيء إليها، كما لا تحب أن يعتاد عليها المُشاهد العربي بنوع واحد من الأدوار، فإذا قدمت الحزن تُتبعه بالكوميديا، وإذا قدمت كوميديا تُتبعها بالمأساة، وفي كل أحوالها نادراً ما وضعت المكياج، فهي تعرف ما يتطلبه أداء الدور، وأهمية أن يكون الممثل على طبيعته.

طبيعية.. وسط طوفان من الاستعراض

ومن المهم النظر اليوم إلى ما يحيط بهذه الممثلة صاحبة التاريخ والموهبة، وكيف تبدو وسط عدد كبير من الفنانات الجديدات اللواتي ينصب اهتمامهن على شكلهن وملابسهن في المسلسل وليس على أداء أدوارهن، مما يجعل العمل الكويتي اليوم يبدو منافسة لاستعراض عمليات التجميل والأزياء وتسريحات الشعر والمكياج، وهو الأمر الذي لا يمت للتمثيل بصلة بل يجعل المسلسل أقرب إلى برامج الواقع، فهو يعرض آخر مستجدات ما وصل إليه أنف ووجنات وشعر تلك الممثلة أو هذه، في سباق محموم على التجميل والبذخ وإبراز السيارات والمنازل والأثاث دون مبررات درامية، بل على العكس غالباً ما يتناقض مع الدور والموقف بشكل مريع.

وبذلك تصبح مكونات النص والإخراج والحبكة باهتة أمام الهدف الرئيسي الذي يتحول إليه المسلسل وهو إبراز جمال الممثلة وكواليس عمل هذا المسلسل، إلى درجة أن فيديوهات “السناب شات” التي يقوم ببثها الممثلون والممثلات من أستوديوهات العمل تصبح أكثر مشاهدة من العمل نفسه، كنافذة أخرى للاستعراض وجمع أكبر عدد من تعليقات الإعجاب والمعجبين، في منافسة لا تعطي الاحترافية والحرص على الموهبة والعمل الجاد أي أولوية.

 

الدراما الكويتية.. تدهور مريع

وهنا يطرأ تساؤل قوي: هل ضعف الإخراج والأوراق المكتوبة والمواضيع المتشابهة هي العوامل التي أحبطت الجيل الشاب من الممثلين في الكويت وفشلت في إبراز مواهبه، أم أن اهتمامات هذا الجيل طغت على الإبداع في العمل الدرامي الكويتي الذي تدهور كما لم يحدث طوال عقود من الزمان؟

وتمثل هذا التدهور في مسلسلات عديدة كمسلسل “بركان ناعم” عام 2013 و”لن أطلب الطلاق” في العام نفسه، وأغلب الأعمال الدرامية للممثلات ميساء المغربي وأمل العوضي وبثينة الرئيسي، والتي تغلب عليها السطحية وانعدام المنطق في بناء الشخصيات ومصيرها، وتمثيل طرفي الشر والخير بشكل مطلق كما في حكايات الأطفال، مما يدل على سذاجة في الأوراق المكتوبة، وعدم نضج الشخصيات وتطورها وبعدها عن الواقع، الأمر الذي يصبح أكثر بروزاً عند تنفيذ العمل.

وربما بدأ هذا الانحدار مع مسلسل “عديل الروح” عام 2005 وقد كتبته الكويتية فجر السعيد التي طالما أتحفت الدراما الكويتية بالأفكار الواقعية القريبة من الأزمات المجتمعية الحقيقية، كما أنها كتبت واحدا من أقوى أدوار حياة الفهد في مسلسل “جرح الزمن” عام 2001 الذي غنت مقدمته المطربة العريقة رباب، وحملت بعده حياة الفهد لقب سيدة الشاشة الخليجية. لكن فجر السعيد فشلت في تقديم دراما قوية وفكرة متماسكة في مسلسل “عديل الروح”، كما بدأت معه موضة التركيز على فساتين وهيئة الممثلات، وبرزت فيه الممثلة الإماراتية بدرية أحمد في بداية مشوارها مع عمليات التجميل، الأمر الذي دفع جريدة الحياة اللندنية وقتها إلى وصفه بـ”متجر الملابس” وفن “التشويه”.

 

بين الدراما الهادفة ودراما الأزياء

وهذا التدرج في اهتمامات الكاميرا الكويتية من إبراز قدرات الممثلين في الدراما الهادفة إلى دراما عرض الأزياء وتصوير الوجوه و”الماركات”، جعل مشهدا لممثلة تظهر على سرير المستشفى أو في مأساة وهي بكامل مكياجها يمر عادياً على المخرج والمُشاهد والناقد، وغالباً بشفاهٍ منتفخة ووجوه شمعية من الصعب معها تقمص التعبير المناسب للدور.

وبذلك يتم تفصيل المسلسل لإرضاء نرجسية هذه الممثلة الجميلة أو تلك ممن لا تمتلك في الغالب موهبة حقيقية، وهناك من تمتلك الموهبة لكنها أيضاً تقع في نفس الفخ من النرجسية كالممثلة ذات الأصل العراقي هدى حسين التي تراجعت شعبيتها خلال عقد من المسلسلات المتشابهة لإصرارها أن تبرز فيها كنجمة وحيدة وذات سيادة على البقية، مما جعلها لا تقدم أعمالا تستحق المتابعة، وكان آخرها مسلسل عطر الروح عام 2018.

فهذه المسلسلات تتكرر فيها الحوارات والمواضيع والقصص المجتمعية؛ كالزواج الثاني، وحياة المراهقات في المدرسة أو سكن الجامعة، والحب الضائع.. في تفاصيل غير مقنعة وكأن كاتبا واحد يكتبها جميعهاً.

وربما هذا يعود إلى أن المسلسل الكويتي يدور في فلك معين من الأفكار والمواضيع نتيجة الرقابة الفنية والسياسية الشديدتين، فلا تخوض الدراما الكويتية في “تابوهات” حساسة مجتمعياً كزواج “المتعة” الذي تجيزه بعض الفرق الدينية هناك، أو الإدمان، أو أزمة “البدون” (أي بدون جنسية كويتية)، أو الحرب السياسية في البرلمان الكويتي بين القوى العلمانية والإسلامية.

ووسط هذا كله، بالتأكيد ستبقى حياة الفهد صرحاً ليس من خيال كما تقول “أم كلثوم” في أغنيتها الشهيرة “الأطلال”، بل صرحاً من أعمال قوية مستمرة، تقود أعمالا تلفزيونية عكس التيار الدرامي الكويتي الحالي الذي دمر التاريخ العريق للتمثيل والتلفزيون في هذه الدولة التي كانت سباقة إلى التنوير والوعي بأهمية الفن في المنطقة الخليجية بل العربية أيضاً.

 

مع حصة قلم.. عثرات وهنات

غير أن هذا لا يعني أن الوضع السائد لم يؤثر على أعمال الفهد وأن صورتها لم تهتز، فمثلا مسلسلها الأخير “مع حصة قلم” عام 2018 كان ضعيفاً وفيه كثير من العثرات والحبكات الفرعية غير المنطقية والهنات الكبيرة التي لا تغتفر، أهمها الأخطاء العلمية في كيفية تقديم مرض “الزهايمر” وأعراضه التي أُصيبت بها حصة التي قامت بدورها حياة الفهد.

وجزء كبير من ضعف المسلسل يعود إلى الإخراج غير المتماسك وفقر الرؤية، فهو مثله مثل الكتابة يعاني أزمة عميقة في الأعمال الدرامية الكويتية، فعلى سبيل المثال؛ ماذا كان ينقص رواية عظيمة كـ”ساق البامبو” للكاتب الكويتي سعود السنعوسي ليتم تقديمها بضعف شديد في مسلسل يحمل العنوان ذاته، على الرغم من التكاليف الكبيرة للإنتاج والتصوير في عدة دول والاستعانة بممثلين من جنسيات مختلفة؟

الإجابة تكمن في الإخراج الذي لم يقدم رؤية متقدمة لتنفيذ العمل، وحين اجتهد المخرج في بعض مناطق قضى على فكرة الرواية الرئيسية التي هي سياسية بالأساس ولا تتعلق بالحب المستحيل بين الحفيد الفلبيني وابنة عمته الكويتية كما حاول المخرج تصويرها، فيبدو أنه فضل عدم التعمق في مشكلة “البدون” كما تفعل الرواية، كما أنه لم يساعد الممثلين والممثلات لإبراز قدراتهم، فقد كان أداء ممثلة قديرة كسعاد العبد الله فيه كثير من الصراخ والتشنج وتسطيح الشخصية، كما أن الممثل الكوري وون هوتشونغ الذي لعب دور البطولة، يبدو أنه اعتقد أن دوره يتطلب أن يبقى عاقد الحاجبين طوال حلقات المسلسل.

إذن من الممكن القول إن أسباب تراجع الدراما الكويتية يعود إلى الإنتاج الخليجي والعربي المشترك الذي قدم أعمالاً ضعيفة، فعلى الرغم من الاستعانة بممثلين كبار والكلفة الإنتاجية الضخمة فإن الدراما الكويتية أثبتت تاريخياً أنها كلما كان إنتاجها متواضعاً وغارقا في المحلية كانت أفضل. ثم من أسباب تراجع الدراما الكويتية أيضا الإصرار على إبراز الفنانات والتركيز عليهن مما جعل الممثل الرجل يبدو باهتاً وتابعاً لما يتطلبه دور نجمة العمل، وكذلك النص والإخراج والفكرة.

يضاف إلى ما سبق ضعف الكتابة الذي يتطلب استحداث طرق جدية لتحسينها عبر ورشات عمل جماعية لكتابة نصوص مقنعة وتنتمي للحقيقة عبر الاقتراب من المجتمع ومشاكله، والبعد عن أدوار الملائكة والشياطين المطلقة، والمواضيع المكررة؛ كترتيب الزواجات بين العائلات، ونهب الميراث، ومشاكل المراهقات، والحب المظلوم، وعصيان الوالدين وهي مواضيع عامة لا تنتمي إلى خصوصية المجتمع الكويتي بتركيبته الصعبة والمعقدة والتي فهمتها حياة الفهد منذ صغرها بذكائها وأدت مختلف الأدوار التي تعبر عن إشكاليات هذه التركيبة بشجاعة، وهو ما جعلها على الدوام سيدة الشاشة الخليجية الوحيدة التي دخلت السينما في طفولتها ولم تخرج منها أو عنها حتى اللحظة.