رابح درياسة.. عندليب الجزائر الذي وحد الشعوب المغاربية بفنه

يونس مسكين

في وقت تنتج فيه السياسة جميع أسباب الفرقة والشقاق بين الإخوة المغاربيين، يظل الفن والثقافة آخر القلاع التي تتحصن فيها فكرة الوحدة. ففي يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 2021، انطفأت النجمة القطبية التي كان وميضها بارقة أمل في صمود هذه الأخوة في وجه الخلافات، حين توفي الفنان الجزائري الشهير رابح درياسة، مخلفا أسى وحزنا في الأقطار المغاربية كلها.

جمع رابح درياسة في فنه بين الأصيل والمعاصر، وبين الوطني والمتغزل، وغنى للأم والأجداد والأحفاد، للمجاهدين والفلاحين والممرضات.

 

 

استقبله ملك المغرب الراحل الحسن الثاني، ومؤسس تونس الحديثة الراحل الحبيب بورقيبة، وكرّمه الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة عام 2000، وبموته حزنت تونس الخضراء، وانكفأت الوردة الجزائرية البيضاء على نفسها، وتدثّر المغرب بثوب العزاء.

في عمره الذي ناهز 87 عاما، عاصر رابح درياسة شيوخ الفن الجزائري وتتلمذ على أيديهم، ثم لقّح إرثهم الفني بلمسة فنية معاصرة فأنتج فنا فريدا لا يتقنه غيره، فقد خبرت أنامله فن الرسم والتشكيل في مجال المنمنمات فراح يرسم قصائد الشعر العامي ويطوّع ألحان التراث الشعبي ليشدو معه الملايين من جزائريين وعرب ألحانا عمّرت عقودا طويلة.

سليل مدينة الورود.. بدايات المطرب المقاوم في الإذاعة

عرفه الجمهور رابح درياسة أساسا كمغن، لكنه في الحقيقة فنان متعدد المواهب، فهو رسام تشكيلي أولا ثم ملحن وكاتب شعر عامي. وقد ارتبطت مسيرته الفنية بالأغاني التي قدّمها في وقت مبكر من حياته، لدرجة أن اقترن بها اسمه، خاصة منها أغنية “نجمة قطبية” و”العوامة” و”الممرضة”.

هو ابن أصيل لمدينة البليدة الملقبة بمدينة الورود التي أسسها الأندلسيون شمال الجزائر، بعد تهجيرهم من بلادهم بدءا من القرن الـ16 للميلاد.

 

ورغم الجذور الشعبية لغنائه، فإن رابح درياسة نحت لنفسه شكلا خاصا من الفن يمكن التعرف عليه بمجرد سماع النغمة الأولى من أغانيه. وبعد اعتكافه في محراب الوطنية أثناء مرحلة الثورة الجزائرية، انطلق رابح يطوف بين أقطار العالم بعد الاستقلال داعيا الجالية الجزائرية إلى الاحتفال والفرح. وتعيد بعض المصادر لحظة انطلاقته الفنية إلى العام 1953، حين شارك في برنامج إذاعي شهير وقتها، اسمه “من كل فن شوية”، حيث فاجأ الجمهور بجمال إبداعه.

وقد زاوج رابح درياسة في بداياته بين رسم اللوحات ورسم القصائد الشعرية العامية التي كان يمنحها لفنانين آخرين يقومون بغنائها، قبل أن يكتشف حنجرته الفنية وينطلق مغردا في سماء الفن الشعبي الجزائري، وكان أول ما اهتم به منذ 1954 تخصيص موسيقاه لتكون دعما للمجاهدين، فكانت عن الحرية والاستقلال، عن النضال من أجل الكرامة، عن الجزائر المقاوِمة.[1]

إرث غني بالمجازات واللغة الشعبية.. فنان الشعب

بمجرد دخوله عالم الفن كرسام للمنمنمات، سطع نجم رابح درياسة بداية عقد الخمسينيات بفوزه خلال ثلاث سنوات متتالية في مسابقة كبرى في هذا المجال، كانت تحتضنها الجزائر العاصمة، قبل أن يفتح له الفنان محمد الحبيب حشلاف، أبواب الفن الغنائي باستضافته إياه في حلقة من برنامجه الإذاعي.[2]

وإلى جانب إبداعه نصوصا شعرية جديدة، أعاد رابح درياسة الحياة إلى نصوص ضاربة جذورها في عمق التاريخ القديم للأدب الشعبي الجزائري، خاصة منها بعض النصوص التي تستقي من الدين، وخلّفها شيوخ جزائريون كبار.[3]

 

فقد كان رابح درياسة يحرص على نسج قصائده وتلحينها بنفسه، مستندا في ذلك إلى معجم بسيط من حيث مفرداته، مرتبطا أشد الارتباط بالبيئة الجزائرية الشعبية، مع توظيف مكثف للتصوير الشعري من خلال تقنيات التشبيه الذي كان يضفي طابعا جماليا خاصا على موضوع الغناء سواء كان شخصا أو وطنا، إلى جانب الاستعارات والمجازات كمثل وصفه الفتاة الجميلة بالحمامة أو الغزال، أو المجاهدين الجزائريين بالسباع.[4]

وخلّف رابح درياسة ما يناهز 100 أغنية، جلها يعود ظهورها إلى عقود مضت، دون أن ينال الزمن من قوة وجاذبية هذا الإرث الفني، فقوة الفن الذي أبدعه درياسة تعود إلى ملامسته لمشاعر وأحاسيس البسطاء من عامة الجزائريين، وهو ما يجعله فنان الشعب بامتياز.

“يا عبد القادر”.. التغني بأمجاد أمير الثائرين

رغم الطابع الشعبي لغنائه، فإن رابح درياسة يعد أكثر من تغنوا بالوطن الجزائري بين فناني بلاده، وذلك منذ عهد الاحتلال الفرنسي، وقد تميزت إنتاجاته بكونها شملت مختلف أوجه الجزائر، سواء الثقافية والاجتماعية والتاريخية والسياسية والاقتصادية.

ومن أشهر ما غناه عن الوطن ما تردد على ألسن الجزائريين في فجر الثورة ضد الاستعمار، وتحديدا أغنية “حزب الثوار” التي حاول من خلالها تحفيز الجزائريين على الثورة والانتفاض، وأغنية “يا عبد القادر” التي أعاد فيها التغني بأمجاد عبد القادر التاريخي للمقاومة الجزائرية عبد القادر الجزائري وأهم معاركه.[5]

رابح درياسة يغني للقائد عبد القادر الجزائري

 

ومن بين أشهر أغانيه التي تتغنى بالجزائر والجزائريين، توجد أغنية “أولاد بلادي” التي يقول فيها[6]:

يحياو أولاد بلادي، ويحياو بنات بلادي، وشنانة في الحساد، أحنا أولاد الجزائر، خاوا في كل بلاد

أولاد الشرق الغالي، وأولاد الغرب العالي، وأولاد الوسط أمجاد، وأولاد الصحراء الباهية، والقبايل الاسياد

أولاد بلادي راية، وبنات بلادي غاية، والسر عليهم زاد، مثل الغزلان شرادة، ما يحكمهم صياد

أولاد بلادي خاوا، ما تفرقهم عداوة، وما يغويهم عناد، ضحاو على الجزائر، جابوها بالجهاد

صوت يغني للسلام والأخوة والوحدة

لم يقتصر التغني بالوطن عند رابح درياسة على بلاده الجزائر، بل خصص جزءا كبيرا من مساره الفني للتغني بالوطن العربي الكبير والعالم الإسلامي والمغرب العربي، حيث بصم مساره بالإعلاء من شأن الوحدة والتآزر بدل الفرقة والشتات.

ففي أغنيته التي تغنى فيها من أجل الوحدة المغاربية، تحت عنوان “تحية المغرب” يقول رابح درياسة عن الجار الغربي لبلاده:

المغرب الحبيب وطن المسرة
والرباط وردة جميلة بين أزهار

 

وفي مقطع آخر يلتفت فيه الراحل رابح درياسا نحو الجارة الشرقية، ليقول متحدثا عن تونس:

دار المحبين تونس الخضرا
عندي فيها احباب عز من البصار

وبين هذا الجار الغربي والآخر الشرقي، لا ينسى رابح درياسة التغزل بمعشوقته الأولى بلاد الجزائر، حيث يقول في القصيدة نفسها:

والجزائر فاتحة مثل الزهرة
وردة بيضاء عطورها عمت لقطار

اتحاد المغرب العربي.. عندليب يغرد في كل الآفاق

الطابع المحلي لأغاني رابح درياسة لم يمنعه من التحليق في سماء عوالم أخرى، حيث شكله فنه مصدر إلهام لمطربين آخرين من خارج الجزائر، كما جذبت سهراته جماهير غفيرة في مصر وسوريا والمغرب وتونس.

ورغم شبه اعتزاله الفني في نهاية الثمانينيات، كان رابح درياسة يصدح بحنجرته الذهبية في سهرة فنية نظمها في المغرب سنة 1989، استهل فيها أغنيته الخالدة “نجمة قطبية” بموال يصوّر الجزائر كوردة بيضاء تتوسط أخرى حمراء إلى الغرب (المغرب) وجنة خضراء إلى الشرق (تونس). كانت الظرفية السياسية وقتها تشهد حراكا شعبيا ورسميا مشتركا يميل إلى الوحدة وتأسيس اتحاد المغرب العربي الذي يضم المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا، ولم يكن هناك أفضل من رابح درياسة للتغني بهذا الحلم الوحدوي الكبير.[7]

 

حتى حين كانت الخلافات تشتد بين الجزائر وأحد جيرانها، كان رابح درياسة يحافظ على رسالته الإيجابية في التقريب بين الشعوب وتجاوز الخلافات، حيث ينشد متحدثا عن المغرب:

يا مغرابي يا خويا
ياك أنا وأنت اخوان؟

محال ما تصير عدوي
تسمع لكلام العديان

وحدتنا في دين الله
والعقيدة والقرآن

يدي في يدك فيها خير
يسعد مغربنا الكبير[8]

“الأصالة ثم الأصالة”.. قاموس الدين والحب والوطن

يرصد الدارسون لفن رابح درياسة الحضور الكثيف للمعجم الديني في أغانيه ومواويله، حيث غالبا ما كان يبدأ سهراته وألبوماته بمقدمة دينية أو ابتهال، من قبيل: “باسم الله نبدأ كلامي يا حضرا، والصلاة على النبي طيب الاذكار”، أو: “نبدأ بالصلاة على الرسول، والرضا على صحابو الفضول، بوبكر وعمر زيد قول، وعلي هزام الكافرين، عثمان وسعد والسعيد، طلحة والزبير الوكي”.

يقول الراحل رابح درياسة في حديث صحفي نادر: “الأصالة ثم الأصالة هي التي تسمح للفنان بأن يمتع المستمعين من بلدان أخرى”، مضيفا أنه خدم الجزائر أولا من خلال تشبعه “بثقافتنا مثل أغنية نجمة قطبية، ولم أواجه مشكلة اللهجة، حيث فُهمت بشكل جيد، أما من يذهب إلى الشرقيين ليغني الشرقي فإنني أعتبر بأن غناء فنان جزائري أغاني شرقية أمام صباح فخري لن يبهره، بل يعد عيبا”.[9]

 

لم يكن هذا الالتزام يمنع رابح درياسة من التغني بالجمال والحب، محتفظا في ذلك بنهجه المؤمن بضرورة ترك الأثر الإيجابي. ومن بين أشهر أغانيه في هذا المجال تلك التي يتغنى فيها بالممرضة ويقول:

سمرا ولبستها بيضا
تسبي الوالع بالريضا
عييت ما نكتم في قلبي سرها ونبوح
قولولها الممرضة
منها العشاق مريضة
هي تداوي في المرضى وحبيبها مجروح
تشفي المرضى بالنظرة
واللي نظر ليها يبرى
يا لالي يا لالا

“أعتبر نفسي الآن من جنود الخفاء”.. عزلة الفنان الغامض

حرص الراحل رابح درياسة طيلة حياته على منع تسريب أي من تفاصيل حياته الشخصية وأسرار مرحلة ما قبل احترافه الفن، وكل ما تنقله بعض المصادر هو يتمه المبكر، إذ فقد والدته وهو ابن 12 عاما، ثم ما فتئ أن فقد والده بعد ثلاث سنوات، مما جعله يتحمل مبكرا مسؤولية رعاية إخوته الخمسة، وقد حمله بحثه الجاد عن شق طريق النجاح والتألق على أن يحترف فن الرسم والتشكيل الذي منحه جوائز مبكرة في الجزائر وفرنسا مستهل الخمسينيات.

وكان الراحل في أعوام حياته الأخيرة يقدم نفسه في هيئة أقرب إلى الاعتزال، حيث يردّ على مخاطبيه الذين يصفونه بالفنان قائلا: أنا كنت فنانا، لكنني حاليا في مرحلة يمكن وصفها بأنها راحة، أكتب الأغاني للشباب وألحن، وأعتبر نفسي الآن من جنود الخفاء، ولست فنانا كما كنت.[10]

بينما يصر ابنه ووريثه الفني عبد القادر درياسة، على أن والده ظل فنانا إلى آخر أيام حياته. يقول درياسة الابن في أحد استجواباته الصحافية: لا أستطيع الحديث في مكان والدي، لأن الأمر قد يغضبه، ورغم عدم ظهوره على شاشات التلفزيون ولا حتى في الاحتفاليات الفنية، فإنه لم يعتزل الفن يوما، لأنه ما زال يرسم في المنزل، ويكتب كلمات الأغاني.[11]

 

ورغم نجوميته ونجاحه الباهر، ظل رابح درياسة مصرا على ممارسة الفن في إطار ما هو مقتنع به ويحقق متعته الشخصية، رافضا إغراءات الاحتراف وتحويل الغناء إلى حرفة تدر الربح المالي. وكانت لمسة المزج الأنيق بين الأصالة الفنية ومسايرة تطورات العصر نابعة من وعي فني لديه، بدل أن يكون خضوعا منه لإكراهات السوق الفنية ومتطلباتها.

يقول درياسة: أنا لا أغني شيئا لا أؤمن به، وأثناء غنائي في تلك الفترة (فترة التبشير بالثورة الزراعية) كانت ظروف سياسية واقتصادية معينة جعلت كل الجزائريين يؤمنون بالثورة الزراعية، وكانت تمثل أملا اقتصاديا في حينها.[12]

“كان صوت الجزائريات والجزائريين”.. فترة رمادية في حياة العندليب

بعد إعلان وفاته مستهل أكتوبر/تشرين الأول 2021، بادر الصحفي والكاتب الجزائري حميدة عياشي إلى كتابة تدوينة مطولة عبر حسابه الشخصي في موقع فيسبوك، حكى فيها تفاصيل لقاء قال إنه جمعه برابح درياسة عام 2006، وخلص إلى أن هذا الفنان اضطر إلى الانزواء والاختفاء من الساحة في سياق ما شهدته الجزائر منذ السبعينيات من تحولات سياسية، مشددا على أنه اختزل في كونه بوقا للرئيس الجزائري السابق الهواري بومدين، وبالتالي حرم من الإذاعة والتلفزيون.

وقد وصفه عياشي في تدوينته قائلا: لقد كان صوت الجزائريات والجزائريين في فترة الرومانسية الاجتماعية والثورية، غنى أحلام الجزائريين ووحدتهم، ووعيهم الوطني العفوي، وافتخارهم بأنفسهم وماضيهم، ورغبتهم التواقة في صناعة المعجزات.[13]

 

المصادر

[1] https://www.aljazeera.net/news/arts/2021/10/8/رابح-درياسة
[2] https://www.youtube.com/watch?v=QwSUN_vqekw
[3] https://www.youtube.com/watch?v=QwSUN_vqekw
[4] مهاجر جمال، الاتجاه الوطني في الأغنية الشعبية رابح درياسة أنموذجا.. دراسة تحليلية، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في الثقافة الشعبية، جامعة أبي بكر بلقايد، تلمسان، الجزائر، السنة الجامعية 2011-2012
[5] مهاجر جمال، الاتجاه الوطني في الأغنية الشعبية رابح درياسة أنموذجا.. دراسة تحليلية، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في الثقافة الشعبية، جامعة أبي بكر بلقايد، تلمسان، الجزائر، السنة الجامعية 2011-2012
[6] https://www.arabmelody.net/audio/a4618af7
[7] https://www.youtube.com/watch?v=nlEIqaUYPds
[8] أغنية “يا المغرابي يا خويا”
[9] https://www.annasronline.com/index.php/2014-08-17-13-22-10/vip/16838-2015-07-26-18-11-54
[10] https://www.annasronline.com/index.php/2014-08-17-13-22-10/vip/16838-2015-07-26-18-11-54
[11] https://www.echoroukonline.com/أبي-لم-يعتزل-الفن-ولم-يرفض-يوما-دعوة-من
[12] https://www.annasronline.com/index.php/2014-08-17-13-22-10/vip/16838-2015-07-26-18-11-54
[13] https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=1552657538442835&id=100010958101249