“أبو صيّاح”.. فنان الشعب وزعيم الحارة الشامية

سنان ساتيك

“تمام تمام.. هدا الكلام

تمام تمام.. هدا الكلام

خليك حلو.. خليك معدّل عالتمام

اسمع يا خال قول الرجال

قالوا المراجل بالفعل مو بالكلام

تمام تمام.. هدا الكلام

تمام تمام.. هدا الكلام

خليك حلو.. خليك معدّل عالتمام

طلعتْ نزلتْ.. غنيتْ فقرتْ

خليك متل ما بتعرفك كل الأنام”

يحاول رفيق سبيعي بكلمات هذه الأغنية المملوءة بشحنة انفعالية عاطفية، أن يُعبر عن شهامة الرجل الدمشقي المجبول فطريا على صفات وخاصيات مستمدة من دمشق وبيئتها، فهي ليست بلا معنى أو فائدة، بل تحمل معاني يبتغيها، وإن كانت ضمن نطاق “الطقطوقة”، فتلك الكلمات بسيطة موجهة إلى العامة، حتى لُقّب عبر أغانيه وتجسيده للشخصية الشعبية بـ”فنان الشعب”.

 

بين سوق البزورية والجامع الأموي.. الإرهاصات الأولى

يمشي الطفل رفيق سبيعي في الحارات الدمشقية القديمة، يرى الرجال في تلك البيئة المحافظة بزيّهم التقليدي وتعاملهم مع الناس، فقد ولد في زمن كان فيه كل رجال دمشق “أبو صيّاح”، وكل شيء آخر من لباس وكلام في العصر الحالي هو زيف المدنية بحسب تعبيره.

يشتمّ رائحة العطور والزهورات الشامية عندما يسير في سوق البزورية حيث وُلد ونشأ، كما أنه يتلمس التاريخ وحوادثه عبر حجارة الجامع الأموي في قلب دمشق القديمة مُجتازاً ساحته ومتأملاً جدرانه. ففي الأول من فبراير/شباط عام 1930 وُلد فنان الشعب (يقال 1932 أيضاً) في حارة دمشقية شعبية عتيقة، على بعد عشرات الأمتار من الجامع الأموي في دمشق القديمة، حيث تمرّد على المجتمع.

منذ صغره قصد المساجد رفقة أخيه في محيط ديني لحضور الأذكار والإنشاد الديني، فكان يقف بين المنشدين ويستمع إليهم مصغياً لأصواتهم، متأثراً بهم وبتلوينات أصواتهم، مما ساعده على صقل موهبته، وتمرين صوته لأداء الأغاني التي راح يستخدمها في الحفلات والأعراس الشعبية في حي البزورية.

هنا اندمج “أبو صيّاح” بالواقع الاجتماعي وتعلّم منه، لكنه شقّ طريقه بعيداً عنه، فبعد أن عمل في مهن عديدة توجّه نحو الفن والتمثيل، الذي كان يُعدّ عيباً في تلك الفترة.

رفيق سبيعي في إحدى الحفلات الموسيقية

 

سبيعي المطرود من منزله.. الشارع يصنع نجما

يُعدّ رفيق سبيعي أحد أركان تأسيس الحياة الفنية والدراما في سوريا، ففي زمن كان الممثل فيه يسمى “مشخصاتي” يجلب العار لأهله، خرج سبيعي متحدياً قرارات المجتمع باحثاً عمّا يحقق له ذاته الفنية.

إن الشعب يحتاج إلى فن يُلبي الرغبات والطموح ويعبر عن مشاكله، فكان المسرح سبيله ليقوم بالمهمة، لذلك تأسست فرق مسرحية سورية عديدة.

يجد سبيعي نفسه في البدايات يعمل ملقناً في المسرح، فيطرده والده من المنزل لأنه ابن الحارات الدمشقية المحافظة، لكنه يلجأ إلى الفنادق لينام فيها مرة، وإلى الفرّان مرة أخرى، مع استمراره في تحدي المجتمع، حتى يبتكر منه شخصية “أبو صيّاح”، التي يراها في كل شارع يمشي فيه، حيث أحسّ به وسمع ألفاظه ومصطلحاته وطريقة نطق الحروف ولباسه.

شخصية جسّدها بسهولة، دون أن يحتاج فيها إلى تحضير وغوص في تفاصيلها، فقد أمسك بتفاصيل الرجل الدمشقي ممتلكاً أدوات الشخصية الشعبية، وعابراً فيها إلى شخصية “أبو صيّاح”، لتكون نمطاً يعلق في ذاكرة السوريين، غير آبه بما يُحكى عنه، فلو توقف عنده لما خلق تلك الشخصية، وصارت لقباً يلازمه.

أما أدواته في الشخصيات الأخرى يرى أنها تحتاج إلى دخول الشخصية والتوسع فيها كي يكون متماهياً معها، حتى يتلبسها لإقناع المشاهد، لذلك تحتاج منه إلى جهد وتحضير[1].

رفيق سبيعي في إحدى البيوت الدمشقية

 

من المونولوغ إلى المسرح

مع أواخر الأربعينيات من القرن الماضي بدأ سبيعي العمل مغنياً و”مونولوجيستا”، فراح يؤدي فقرات كوميدية يرتجلها ارتجالاً على خشبة المسرح، ويهدف عبرها إلى إمتاع المشاهد وتسليته ونقد الواقع الاجتماعي، فقد دخل فن المونولوغ إلى سوريا مع الأغنية الفرنسية، وشاع في فترة الثلاثينيات والأربعينيات، وأجاد فيه سبيعي إجادة جعلته أحد رُوّاده.

يقوم المونولوغ على شعر يعتمد على تفعيلات سهلة من بحور الشعر أو مجزوئها، وهو ذو قواف واحدة أو متعددة أو نظم من الزجل، يجمع بين فصيح اللغة وعاميتها، ومنه المونولوغ الشعبي الذي اعتمده “أبو صيّاح” في تمثيلياته، مستفيداً من كونه غناء إفراديا واحدا بلا فرقة موسيقية، ويعتمد على أزجال سهلة الحفظ، فتتناول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بنقد بنّاء، وقد يبتعد الناظم عن الفكرة الأساسية ويبتدع أشياء جديدة غريبة، فلا يكون هدفه سوى الإضحاك[2].

التقطت سبيعي الفرق المسرحية التي كانت تنشط في دمشق، لما تميز به من روح حركية على المسرح وقدرة على التأثير، فبدأ العمل مع فرقة علي العريس وسعد الدين بقدونس وعبد اللطيف فتحي والبيروتي ومحمد علي عبدو، حتى تمرّس بالفن المسرحي وشارك في تأسيس عدد من الفرق المسرحية[3].

رفيق سبيعي في إحدى المقابلات الصحفية

 

ولادة “أبو صيّاح”.. مصادفة تقلب مسيرة سبيعي

انشغل رفيق سبيعي بالشخصية الدمشقية البسيطة التي تمثل الرجل الدمشقي صاحب المبادئ والأخلاق والشهامة، لذلك قدّم شخصيتين في مسرحه، هما “أبو جميل” و”أبو رمزي” لكنهما لم تستمرا، وربما كانتا الممهدتين لظهور شخصية “أبو صيّاح” التي قدمها أول مرة في خمسينيات القرن الماضي عن طريق المصادفة بحسب ما يروي، فقد تغيّب أحد الممثلين مرّة عن أداء فصل كوميدي في إحدى مسرحيات الفنان الراحل عبد اللطيف فتحي الذي كان يعمل معه ملقناً، فطلب منه أداء الدور.

هنا تخيّل سبيعي أن يضع بصمته الخاصة على الشخصية التي سيؤديها، فلم يكتف بأدائها كما هي، بل أضاف لها من روحه الفنية ورؤيته، فجعلها ترتدي الشروال الدمشقي الشهير والقميص مع بعض الإكسسوارات المستمدة من البيئة التي يعرفها جيداً.

كانت المسرحية بعنوان “حرامي غصب عنه”، وهي مقتبسة من مسرحية مصرية للكاتب أبو السعود الإبياري، نقلها عبد اللطيف فتحي إلى الشامية الذي لجأ إلى هذا النوع من الفن، وعمل على جعل الكلام باللهجة الشامية المحلية في مسرحياته.

كان من بين الحاضرين في تلك المسرحية أول مدير للتلفزيون السوري صباح قباني الذي طلب من رفيق سبيعي لاحقاً أن يعمل في التلفزيون السوري بعد تأسيسه، فقد أعجب قباني بما قدمه سبيعي في المسرحية، ولم ينس مجهوده الفني فيها[4].

 

المسرح الحر.. إرث مسرحي سوري

عام 1956 تأسّس المسرح الحرّ في سوريا الذي عمل فيه روّاد الحركة المسرحية، فقدموا مسرحيات كاملة مقتبسة عن مسرحيات عالمية شهيرة، فلم يلجؤوا فيه إلى المقاطع الناقدة والمضحكة، بل أرسوا فنا مسرحيا يحدد العناصر المسرحية الحركية، وذلك عبر نص متين وإخراج مسرحي يقوم على التفاعل والتبادل بين الممثلين، لكنهم فصلوا أحياناً بين فقراتها بأغان ترفيهية.

عام 1960 ساهم رفيق سبيعي في تأسيس المسرح القومي الذي قدّم أيضاً عدداً مهماً من الأعمال المسرحية[5]، كما أن هذا المسرح قدم أعمالاً ذات جودة فنية صارت إرثاً مسرحياً سورياً.

وفي العام ذاته حضر دورة الإخراج الإذاعي في مصر، ولما عاد عمل في التلفزيون السوري مع المخرجين المؤسسين فيه، مثل سليم قطايا وعادل خياطة، فقدّم عام 1962 أول عمل تلفزيوني له هو برنامج “نهاوند”، مع الفنان حكمت محسن[6] الذي يُعدّ مؤسس الدراما الشعبية السورية، والذي عمل معه أيضاً رفيق سبيعي في مسرحية “صابر أفندي” عام 1959 والتي حظيت بشهرة واسعة.

 

فن المُثُل العليا.. الطريق إلى التلفزيون

لم تجد شخصية “أبو صيّاح” طريقها إلى التلفزيون إلا في عام 1963، وذلك في برنامج تلفزيوني هو “7×7” الذي قدّم فيه أغنيته الشعبية الشهيرة “يا ولد لفلّك شال”.

وتشارك سبيعي لاحقاً مع دريد لحام ونهاد قلعي في عملي “مقالب غوّار” و”حمام الهنا” اللذين أبرزا شخصية “أبو صيّاح” للمشاهد، فحققت انتشاراً مكثفاً كونها وصلت إلى بيوت كثيرة عبر التلفزيون، وقد تعاون معهما سابقاً في تمثيلية “مطعم الأناقة الجوال” عام 1961، ثم إسكتش “عقد اللولو”.

في هذه الفترة لم يقتصر نشاط سبيعي الفني على العمل في التلفزيون، فقد كان مخرجاً في إذاعة دمشق، واشترك في برنامج للأغاني الضاحكة بشخصية “أبو صيّاح” ليُقدم أغنية “داعيكم أبو صيّاح معدّل ع التمام”. كما استمر في المسرح القومي، فكان يقدم الأغنيات الشعبية والمونولوغات[7]، متابعاً فيها الإكثار من القيم التي تعكس البيئة وتعامل الفرد مع الآخر، وتحمل المُثُل لأنه يعتقد أن العمل الفني إن لم يحمل مُثلًا عليا يصبح بلا قيمة.

يدعو سبيعي دائماً إلى عدم هجر العمل الإذاعي، لما له من ميزات وصفات خاصة تصقل العمل الفني، فهو يساعد الممثل على تحريك الشخصية بصوته والتعبير عن حالاتها وانفعالاتها، لذلك استمر في تقديم برنامج “حكواتي الفن” الإذاعي حتى المراحل الأخيرة من حياته.

 

“فنان الشعب”.. رائد الأغنية الناقدة

تابع “فنان الشعب” أغانيه التي تحكي عن البيئة الحاراتية الشعبية، فاشتهرت له أغنيات كثيرة تعلّق بها الناس لقربها منهم اجتماعياً، مثل “تمام تمام هدا الكلام”، و”شروال أبو صيّاح”، و”لا تدور ع المال”، و”حبوباتي التلموذات”، و”شيش بيش”، و”الحب تلت لوان”، و”الخنافس” وغيرها.

كما أدى أغنيات في أفلامه السينمائية التي كانت تنقد الواقع الاجتماعي والتغيرات التي طرأت عليه، مثل أغنية “ليش هيك صار معنا” في فيلم “شروال وميني جوب”، وأغنية “الأوتو ستوب” في فيلم “نساء للشتاء”[8]، لكن عمله في السينما لم يُضف قيمة فنية له، رغم أنه قدّم فيها شخصية “أبو صيّاح” بتفاصيلها، لأنها كانت سينما خفيفة تجارية لم تجعله يحقق عبرها دوراً يعلق في الذاكرة، فقد ساد في سوريا في تلك الفترة السينما التجارية التي سعت وراء الربح دون الاكتراث بالجانب الفني.

صَنَّف النقاد رفيق سبيعي لاحقاً بأنه رائد الأغنية الناقدة في النصف الثاني من القرن العشرين، كما عدّوه امتداداً للفنان سلامة الأغواني، لكن كان هناك فارق بينهما، إذ أن الأغواني قدّم أغنياته في قالب “المونولوغ”، أما سبيعي فاختار “الطقطوقة” واللون الشعبي بعدما بدأ بالمونولوغ[9]، مقدماً إياها عبر “أبو صيّاح” الذي يقف على المسرح مُلوّحاً بـعصاه، فكان بذلك مجدداً في رؤيته لهذا الفن، وسحبه من رؤية فنية إلى أخرى.

 

الزعيم الشامي.. ماركة مُسجلة

مع بداية التسعينيات بدأ تطور الدراما السورية، وقُدّم فيها أول عمل ضمن إطار ما صار يعرف الآن بأعمال “البيئة الشامية”، وهو مسلسل “أيام شامية” الذي كرّس رفيق سبيعي زعيماً للحارة الشامية بهيبته وقدرته على حلّ مشاكلها.

تابع سبيعي في المسلسلات اللاحقة تجسيد صورة الرجل الدمشقي “الزْكُرْت”، راسماً شخصية مُنمطة لصورة الزعيم الشامي في الدراما السورية، فكان أبرز من صوّر هذه الشخصية بلا بحث عميق لأنها جزء من يومياته، بحركاتها وطريقة نطقها ومصطلحاتها وتعابير وجهها وقسوتها وشدتها، لتتمكن من إدارة الأمور الحياتية في الحارة.

أصبح رفيق سبيعي أيقونة في هذا الدور، حتى صار كل من يُقدّم دور زعيم الحارة الشامية يُقارن به، وذلك لتمييز الفوارق الفنية بينهما، واللعب بتفاصيل الشخصية التي اعترف النقاد بأنها علامة مسجلة باسمه، ولم يفلح أحد في الوصول إلى أعماقها وإظهارها فرجة للمشاهد كما فعل رفيق سبيعي.

 

خاتمة القبضاي الدمشقي.. الفن للشعب

توفي القبضاي الدمشقي في 5 يناير/كانون الثاني 2017، وذلك بعدما مشى في الفن أكثر من ستين عاماً، بفلسفة فنية تقوم على أن يكون هذا الفن للشعب وللمواطن البسيط، وأن يكون غير مُوجّه إلى المثقفين.

المثقف بنظره لا يحتاج إليه، بل الفئات الشعبية هي من تحتاج إلى من ينطق بحالها ويُعبّر عنها، إنها تحتاج إلى شخصيات تخرج منها ومن واقعها، وتسير به إلى الحلول والحكي عن الهموم والحياة اليومية، لذلك ظلت شخصية “أبو صيّاح الزكُرْت” حيّة، حتى أتبعها بشخصية الزعيم الذي تُفكّ عنده العقد كلها.

[1] المعلومات السابقة مستمدة من بعض حواراته.
[2] صميم الشريف، الموسيقا في سورية: أعلام وتاريخ، دراسات موسيقية 7 (دمشق: منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، 2011)، ص 39-40.
[3] راجع الرابط: https://bit.ly/2QhYKda
[4] راجع الرابط: https://bit.ly/2u4ZxoS
[5] راجع الرابط: https://bit.ly/2u4ZxoS
[6] راجع الرابط: https://bit.ly/2SMc0IE
[7] راجع الرابط: https://bit.ly/2SMc0IE
[8] راجع الرابط: https://bit.ly/37rERpy
[9] راجع الرابط: https://bit.ly/37EnJx9