سيد سعيد.. أسطورة “القبطان” وبورسعيد

د. أمــل الجمل

أثناء تكريم سيد سعيد في مهرجان تطوان السينمائي

هو أحد أبناء مدينة بورسعيد، رمز التصدي والإصرار على الحياة، تلك المدينة التي تعرضت للعدوان الثلاثي عام 1956 وظلت صامدة تقاوم حتى بعد احتلالها. صحيح أن المخرج المصري سيد سعيد -الذي رحل عن دنيانا الخميس 18 أبريل/نيسان الجاري- تركها وهو ابن الثامنة عشرة من عمره، لكنه يعترف بأنها ظلت عالقة بروحه، وبقي تأثيرها التفاعلي فيما يقول ويفعل نابضاً بالحياة. يعترف بأنه مدين لها بهويته كفنان، فنشأته في تلك المدينة لم تُشكل فقط تجربته الإنسانية والإبداعية، ولكنها كانت الحاضنة الأولى والمنصة الدفاعية له فيما يحمل من أفكار وأفعال، وفيلم “القبطان” -من بطولة النجم الراحل محمود عبد العزيز- خير دليل.

كان سيد سعيد حين يبدأ سرد حكايته عن -أو مع- بورسعيد يحكي بأسلوب وروح الفنان التي تستوطنه الأسطورة، يفعل كما لم يفعل أحد من قبل، لأنه كان يمزج الأسطورة بروح وأحاسيس الشاعر المتصوف. مسلسله “تمساح البحيرة”، فيلمه “القبطان”، كتاباته، يومياته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، رسائله للأصدقاء، قصصه القصيرة، أشعاره، وروايته “القابوطي”.. تتخذ جميعها من الأسطورة ملمحاً أسطورياً ساحراً أثناء سرد التفاصيل التي تُجسد بورتريه لتلك المدينة ذات الطابع الكوزموبولوتاني (متعددة الثقافات ومنفتحة على العالم) مثلها مثل المدن ذات الطابع الكولونيالي (أي المهيمن أو المسيطر)، وهو ما يعني وجود جنسيات مختلفة وبالتالي ثقافات متنوعة.

نجد أن سيد سعيد أثناء الحكي عن تقسيم بورسعيد الجغرافي -سواء في الرسائل أو حتى في ثنايا فيلم “القبطان”- يُجسد أيضاً ملامحها الديمغرافية خصوصا عبر ثلاثة أحياء سكانية مُحددة الملامح: أولها حي الإفرنج ببيوته المُصمتة بلا صدى، رغم ارتفاعها المزهو، ورغم جمالها الذي يصلح لأن يكون طابعا بريديا بسكانه من الأجانب، وتصويره لنظرتهم الاستعلائية المشوبة بالخوف من سكان حي العرب -المواجه لهم- ببيوته على الطراز الفرنسي المُهجنة بملامح من الطراز العربي الإسلامي بشرفات خشبية، والذين بدورهم كانوا ينظرون لسكات حي الإفرنج بمزيج من الانبهار والكراهية باعتبارهم جزءاً من الاستعمار.

أما حي المناخ فيُعتبر عشوائيات مدينة بورسعيد، ولا يفوت سيد سعيد أن يحكي عن قرية “القابوطي” على حدود بحيرة المنزلة بكل ما للاسم من ملامح وبناء أسطوري، وهو ما اتضح بشكل قوي في روايته المعنونة بـ”القابوطي” التي كانت أساسا لسيناريو فيلمه الروائي الطويل الأول “القبطان”.

 

جيل الستينيات.. زمن الأحلام

ينتمي سيد سعيد لجيل الستينيات، حيث زمن الأحلام والطموحات الكبيرة، جيل عاش وقائع وأحداثا ومعارك، ونجاحات وإخفاقات، خاض معارك عن السينما كيف يغيرون صورتها عن الوطن، ومعارك عن الناس كيف يبدلون أحوالهم.

إنه ينتمي لجيل كان يندفع نحو التجديد والتجريب ومساءلة الواقع، كان جيلاً متمردا على الواقع، خصوصا بعد نكسة 1967، وهو ما انعكس بدوره على الفن والتقاليد الجمالية السائدة آنذاك، وطرح مفهوما خاص للفن بدأ بمراجعة العلاقة بين الواقع والفن، والعلاقة بين الإبداع والتلقي.

آنذاك صدرت له مجموعة قصصية مشتركة مع محمود بقشيش سماها “الموجة” من تقديم محمود أمين العالم. بدأ سيد سعيد حياته بكتابة القصة القصيرة إذن، وإن التحق بكلية الحقوق لكنه لم يتآلف معها ونفر منها وسرعان ما وجد وظيفة في هيئة الاتصالات حيث كان يعمل تشيكوف مصر الكاتب الراحل إبراهيم أصلان.

تأثر سيد سعيد بكل تلك الأجواء، وكثّف من حضور الندوات وعروض الأفلام وحفلات الموسيقى الكلاسيكية، وتكونت لديه صداقات قوية مع شخصيات مبدعة مثل الغيطاني وأصلان وعبد الحكيم قاسم وسيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي ومحيي الدين اللباد وغيرهم.. معهم عاش تجارب واكتسب خبرات إنسانية ومعيشية وثقافية متراكمة، مما مهد ظهور رغبته الملحة في اقتحام عالم السينما، فالتحق بالمعهد العالي للسينما وحصل على بكالوريوس شعبة إخراج عام 1975. فارتبط بصداقات مع أساتذته ومنهم المخرج والمونتير كمال الشيخ، ومدير التصوير عبد العزيز فهمي، والمخرج شادي عبد السلام، وبعد تخرجه تم تعيينه مخرجاً بالتلفزيون المصري.

 

تعظيم سلام.. في هجاء الخصخصة

قدم المخرج سيد سعيد للتلفزيون مسلسلي “رحلة إلى الشمس”، وهو عمل مخصص للأطفال إنتاج عام 1981، و”تمساح البحير” عام 1995 الذي قام بتأليفه وإخراجه، إضافة إلى بعض الأعمال السينمائية القصيرة منها “الشاهد والقضية” عام 1975، والفيلم التسجيلي الطويل “تعظيم سلام” عام 2011 من إنتاج المركز القومي للسينما وبنك مصر.

وقد نشب خلاف طويل على فيلم “تعظيم سلام” جعله يتعطل عن العرض العام، إذ لم يُعْجِب الفيلم القائمين على بنك مصر الذين على ما يبدو كانوا يتوقعون فيلماً تسجيلياً دعائياً، لكن المبدع الراحل قدم شريطاً وثائقيا بمثابة شهادة حيَّة عن طلعت حرب رائد النهضة الاقتصادية الحديثة بعد محمد علي باشا، وكأن الفيلم في حد ذاته إدانة للعصر الحالي ولكل مسؤول ساهم في تراجع هذا البلد الذي يمتلك ثروات وخيرات تكفي لإنقاذه من أي مشكلات.

يكشف “تعظيم سلام” عن العوامل التي أثرت بقوة في عجلة الاقتصاد المصري لفترات طويلة بطرق إيجابية، وذلك من خلال الكيانات الإنتاجية الضخمة ومنها شركة غزل المحلة، واعتماد سياسة الاكتفاء الذاتي بتشجيع التصدير والبعد عن الاستيراد.

يحكي الفيلم عن الكيانات الاقتصادية العديدة التي حلم بها طلعت حرب وواجه أثناء تشييدها حرباً كبيرة، لكنه انتصر وحقق حلمه بإنشاء بنك مصر الذي دعم وساهم في تأسيس هذه المؤسسات، إذ كانت تلك المساهمة من بنك مصر تمتد لمختلف القطاعات ومنها القطاع البحري والغذائي والثقافي والفني.

اعتمد سيد سعيد في بناء سيناريو الفيلم على سرد تفاصيل ثرية توضح كيف تم إنشاء وتكوين هذا الكيان الاقتصادي الذي شيده طلعت حرب، بحرصه ودقته في الاهتمام بكل التفاصيل وفي مقدمتها احتياجات العامل ومراعاة شكل حياته وتأثيرها على العمل.

“تعظيم سلام” فيلم وثائقي في مديح تجربة طلعت حرب، لكنه في الوقت نفسه وثيقة إدانة للخصخصة وبيع القطاع العام إبان النظام السابق والتي أدت إلى تدمير الصناعة والتجارة المصرية، وهو ما أدى بدوره إلى تسريح العاملين بتلك المنشآت الوطنية ومن ثم تدمير الحياة الاجتماعية لعائلات مصرية كثيرة.

إلى جانب وعيه ونشاطه السياسي المتجذر في الفكر اليساري، فإنه أيضاً كان كاتباً ومثقفاً كبيراً له إسهامات نقدية في مختلف الفنون

القبطان.. عزلة واغتراب

إلى جانب وعيه ونشاطه السياسي المتجذر في الفكر اليساري الذي أضفى دلالات وأبعاد على أسلوبه الإخراجي في أعماله السينمائية، سواء الروائية مثل القبطان أو التسجيلية مثل تعظيم سلام، فإنه أيضاً كان كاتباً ومثقفاً كبيراً له إسهامات نقدية في مختلف الفنون يُميزها عمقها الفكري وأسلوبها المتصوّف في المعنى والمبنى.

كان سيد سعيد بالنسبة لكثير من أصدقائه رفيق الأيام الصعبة والأحلام المجنونة، وكان السند والحصن الذي يحتمي به الكثيرون في أوقات الشدة وفق تعبير المخرج الراحل محمد كامل القليوبي.

لكنه في أيامه وشهوره الأخيرة -بعد أن رحل كثير من أصدقائه- كان بين حين وآخر يعبر عن وحدته وعدم رضاه، وهو ذاته يعترف متسائلاً: لماذا أصبحتُ أميل للعزلة وأشعر بالغربة؟ إضافة إلى غيرها من التساؤلات التي طرحها المبدع الراحل ضمن رسائله إلى الناقد الكبير كمال رمزي والتي صدرت -بمناسبة تكريمه من المهرجان القومي الثاني والعشرين للسينما المصرية عام 2018- بكتاب يحمل عنوان “سيد سعيد، القبطان، في بحار الحقيقة المراوغة”.

وتبدو شخصية سيد سعيد في الكتاب قوية واضحة إذ أضاء كثيرا من المناطق الغامضة أو تلك المحاطة بالظلال في شخصيته، بينما تتوارى في أدبٍ جم شخصية الناقد السينمائي المحترف وشديد الحساسية كمال رمزي، إذ يبدو أنه آثر أن يترك المساحة للقبطان كي يُفضفض ويُخرج ما في جعبته من أسرار وأفكار ومشاعر، فتركه يقول كل ما يريد طالما كان الكتاب تكريميا له وعنه، فلا بد أن يخرج بالشكل الذي يليق به ويُرضيه. وهنا يكتفي رمزي بالتعليق على مدينة بورسعيد بذكر الأفلام السينمائية التي دارت أحداثها فيها أو عنها، إضافة إلى بعض يوميات التسكع الظريف مع سيد سعيد في باريس عندما جمعتهما الإقامة سويا في غرفة مشتركة نتيجة ضعف الإمكانيات المادية.

يُضاعِف من قيمة الرسائل وأهميتها أنها تُضيء ما كان معتما أو محاطاً بالظلال في أعمال سيد سعيد الإبداعية خصوصا فيلم القبطان حيث نتعرف على الشخصيات الحقيقية التي ظهرت باسم الملّواني والمحمدي بالفيلم، فهما أعز صديقين في طفولة المخرج، كان اسمهما النمس الذي سرق له الكمنجة وكاد أن يُحبس من أجل أن يوفر آلة موسيقية لسعيد يعزف عليها بمدرسته الابتدائية، وسمارة بحكايته الموغلة في قاع القهر الاجتماعي والسياسي بأقسى أشكاله والذي تحول إلى لص في عصابة بينما انتحر والده الشرطي المُهان.

قدم المخرج سيد سعيد للتلفزيون مسلسلي "رحلة إلى الشمس"، وهو عمل مخصص للأطفال إنتاج عام 1981، و"تمساح البحير" عام 1995 الذي قام بتأليفه وإخراجه

بناء أسطوري وصوفية مرهفة

اللافت أن أسلوب سيد سعيد الروائي وسرده القصصي ورسائله وبناء فيلمه القبطان.. كأنه يجسد شخصيات أسطورية. إنه يمتلك موهبة وملكة صوفية مُرهفة في إقامة بناء سردي شاعري يجعلنا نشعر بأن الأمر مُلتبس علينا، ويجعلنا نتساءل: هل ما يحكيه حقيقة أم خيال أم أسطورة تمزج الواقع بالخيال؟ هذا ما يبدو جليا عندما يحكي عن أصدقائه وأسرهم، وأسماء الشخصيات التي حملتها شوارع أو قرى في بورسعيد كما في حكاية شارع أبو دوما، وقرية القابوطي.

يبدو هذا الجانب بوضوح أيضاً وهو يحكي عن والدته التي يعترف أنه “يدين بحياته كلها لهذه الأم التي لم تكن مجرد أم”. ثم يرسم هالة أسطورية أخرى عن جده عندما اخترق المنطقة المُحرم دخولها على الصيادين المحليين من قِبَل الأجنبي المحتل والتي انهالوا عليه بوابل من الرصاص، فهرب منهم ولكن الأهالي وجدوه ميتاً على الشاطئ في الصباح، أما ختام الحكاية فهي أن أهالي بورسعيد جميعهم أكلوا أنواعاً من السمك لم يأكلوه في حياتهم من قبل مما اصطاده هذا الجد في تلك الليلة.

الأمر ذاته يتكرر بوتيرة وصيغة أخرى عندما يحكي عن والده الذي يعترف بأنه لفترة طويلة ظلت مشاعره تجاهه متناقضة مرتبكة وغامضة إلى أن أعاد تقييم تلك العلاقة وبدأ يفض غموض الشخصية، إذ يستعيد من طفولته مشهداً يُضيء منطقة جميلة من فيلم القبطان، ففي إحدى الليالي أصاب سعيد وهو في الخامسة من عمره حمى شديدة، وفي ظل عجز الوالدين وبكاء الأم وانهيارها وتوقعهما الاثنين أن الطفل يحتضر، فجأة يحمله الأب ويظل يجري به إلى أن يصل إلى شاطئ البحر فيُلقي بالابن فيه ويتركه، بينما يحتجز الأم التي كانت تصرخ خوفاً وفزعاً إلي أن جاءت مياه البحر وكادت تغرقه، ثم فجأة انتفض الطفل ووقف وكأن الحمى زالت عنه.  

يكشف فيلم "تعظيم سلام" لسيد سعيد العوامل التي أثرت بقوة في عجلة الاقتصاد المصري لفترات طويلة بطرق إيجابية، وذلك من خلال الكيانات الإنتاجية الضخمة

البحر.. قوة إلهية

إذا كان البحر في “القبطان” لسيد سعيد حاضرا في أغلب مشاهد الفيلم حيث نراه في الخلفية لتحديد المكان وهويته، كما أن القبطان تلك الشخصية الأسطورية التي لا نعرفها على وجه الدقة ويحيط بها هالة من الغموض والتي تذكرنا بشخصية زوربا اليوناني ولا ندري هل هي شخصية حقيقية أم خيالية، هناك بالفيلم جُملة تصفه بأنه سليل البحر، فهو قريب دوما منه، وهو يصطاد أو يغني أو يرقص عندما يصيبه الحزن أو الفرح.

لكن يظل أهم مشهد له دلالة وبُعد كوني تلك اللقطات التي تتضمن الطفل الفلسطيني الضائع عندما كان مريضاً ويحتضر فيضعه القبطان على شاطئ البحر، ثم يبتعد عنه قليلاً ليتأمله وينتظر قدوم موجات من البحر لتُعيد للطفل الحياة، لأن القبطان يرى أن الإنسان يتكون من الشمس والماء والطين، وأنه في ظل الشمس العلوية التي تغطيه والطين الذي يتوسده الطفل ستأتي أمواج البحر لتشكل العنصر الثالث، ومن هنا تنبثق الحياة مجددا وهو ما حدث بالفعل.

إلى جانب مشهد آخر نرى فيه البطلين الشابين الحبيبين؛ الحبيب الذي قتل الضابط الإنجليزي والحبيبة التي تواطأت على إخفائه، فبعد إطلاق الرصاص عليهما من جنود الاحتلال الإنجليزي نراهما يجريان كالطيور المحلّقة باتجاه البحر، وكأن القتل حرر الأرواح من الجسد المنهك فأسرعت للقاء البحر واستكمال الحرية. 

عند المخرج سيد سعيد في “القبطان” يبدو البحر في نصه التحتي وكأنه قوة إلهية يلجأ إليها الجميع: الظالم والمظلوم، الضحية والجلاد، العدو الغاشم والأهالي الذين يعانون الاحتلال، كما أنه كان وطنا للاجئين الفلسطينيين في أعقاب هزيمة 1948.

سيد سعيد أحد أبناء مدينة بورسعيد، رمز التصدي والإصرار على الحياة، تلك المدينة التي تعرضت للعدوان الثلاثي عام 1956 وظلت صامدة تقاوم حتى بعد احتلالها

الرحيل.. في هدوء

من تصاريف الأقدار أن يَكتب المبدع سيد سعيد كلمات صوفية رقيقة قبل رحيله بأيام قليلة -وتحديداً يوم ١٣ أبريل/نيسان- على صفحته بموقع فيسبوك، وكأن صاحب “القبطان” كان يستشرف نهايته ويشعر باقتراب الأجل، أو لعله قرار بالغياب وعدم الرغبة في البقاء إذ يقول:
في هدوء مسالِم
سوف أنسحب من عالمكم المحكَم
عاريا بلا كلمات
وها أنا في طريقي
مستكشِفا حياه أخرى
أرشق الإشارات
في صحراوات ليل بلا نوافذ
منتسِبا إلى برودة ظلي
ظلي الذي ظل يلازمي
ولكنه الآن يُنكرني.