طاهر حناش.. رائد السينما الذي حاربته فرنسا وخذلته الجزائر

لو نظرنا إلى الأمر في سياقه الزمني وأسقطنا عليه الشرط التاريخي لخرجنا بنتيجة تفيد بأن هذا أمر من الصعب حدوثه، أو بعبارة أكثر عدلا “من المستحيل”؛ لأن المعطى يتعلق بمعادلة العلاقة بين “المستعمِر والمستعمَر”، لكن رغم هذا فقد استطاع أن يبرز نفسه ومواهبه بين صنّاع السينما الفرنسيين ويتجاوزهم في الكثير من الأحيان، فمن يكون هذا الجزائري الذي كان أول مصور ومخرج ومنتج قبل الاستقلال، ثم أصبح نسيا منسيا بعد ذلك؟

كان الفرنسي الغازي يعتقد بأنه هو صاحب العقل والتفكير، وينظر للثاني صاحب الأرض على أنه بليد وسقط متاع، ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن يقدم له الدور ولا الوظيفة ولا السلطة التي تسمح بأن يتساوى معه، ولا حتى الفرصة المناسبة التي يثبت من خلالها قدراته ومواهبه.

كبرت هذه النظرة العنصرية وتجسدت في المجتمع المستعمر حتى أصبحت ثقافة لدى أغلبيتهم، لكن رغم هذه المعطيات القاسية فإن مصورا ومخرجا ومنتجا جزائريا استطاع التغلغل بينهم، وأظهر موهبته التي تفوقت على الكثير منهم، لهذا وجدوا أنفسهم مرغمين على أن يعملوا ويتعاونوا معه في الكثير من الأعمال، حتى أنهم قدموا له اعترافا مكتوبا كان فيه أول عربي وشمال أفريقي يحصل على بطاقة صانع أفلام تحت رقم 7951.

ولكن هل جاء الاعتراف بهذه الموهبة الفذة جزافا؟ لا لم يكن اعتباطا، بل أتى بعد أن قدّم الكثير للسينما، كمصور وممثل ومخرج ومؤطر في مواقع تصوير الأفلام، ثم كمنتج فيما بعد، لقد قدّم جهدا استثنائيا في الفن السابع كان أكبر من أن يخفوه عن الأعين والعالم، لهذا لا يزال التاريخ السينمائي يتحدث عنه وعن إنجازاته، رغم أن البحوث التي أُعدت حوله قليلة لا تعكس ما قدمه الرجل، سواء قبل استقلال الجزائر أو بعدها.

من هنا وجب أن نطرح سؤالا جوهريا عن هذه الشخصية السينمائية الجزائرية الخالصة والرائدة في مجالها، وهو كالتالي: هل صنف وكرم كأحد الرواد؟ لتكون الإجابة لا، والأقسى والأمر تهميشه ومحاربته وتجاهله تماما ورميه في غياهب النسيان، وهو المكان المظلم الذي لا يسلم منه كل من كان صاحب موهبة حقيقية، لكن الوقت وحده كفيل بانتشاله منه، ووضعه في سك الحقيقة التي لا تُحابي أحدا.

تشارلي تشابلن كانت الشخصية التي تأثر بها الطاهر حناش في صغره

أفلام “تشارلي تشابلن”.. عشق السينما منذ الطفولة

ولد طاهر بن قويدر بالحنّاش المعروف فنيا باسم “الطاهر حناش” يوم 26 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1898 في محافظة قسنطينة شرق العاصمة الجزائر، وهي إحدى المدن التي تملك رصيدا حضاريا وثقافيا وفنيا ضاربا في التاريخ.

في هذا الفضاء تشكل وعي الطاهر حناش الذي كان ينتمي إلى أسرة ثرية، فقد كان والده يملك مصانع وعددا من المصالح التجارية -وإن كان أفلس فيما بعد-، مما جعله يدخل المدارس ويتعلم ويكتشف العلوم ومبادئ الأشياء، وقد أبان منذ صغره ميله الواضح للاختراعات والاكتشافات العلمية، وأظهر فضولا كبيرا نحو الأشياء.

وحسب ما ذكرت بعض المصادر فإنه كان يهتم كثيرا بمبادئ الميكانيك والسفن والقطارات، أما علاقته بالسينما فقد اكتشفها صدفة وهو ابن عشر أو إحدى عشرة سنة، إذ اكتشف وقتها أفلام “تشارلي تشابلن” أول مرة، وأصبح من أهم رواد قاعات السينما التي زاد ولعه بها بعد أن اكتشف عوالمها السحرية والخيالية.

“تعال غدا أوظفك”.. رب صدفة خير من ألف ميعاد

بعد سنوات استدعي الطاهر حناش للخدمة العسكرية الفرنسية، ليسرح سنة 1920، ومن هنا بدأ في البحث عن طريق لتحقيق حلمه في الدخول لعالم السينما، وهو ما جعله يسافر إلى فرنسا للوقوف على الفضاءات التي خرجت منها عشرات الأفلام وسافرت إلى كل جهات العالم، ثم بدأ يتسكع من مكان إلى آخر، ليُعاوده الحظ مرة أخرى عندما كان يتجول بجانب أحد الأستديوهات الباريسية، فالتقى صدفة بالمدير الذي كان يبحث عن وجوه عربية، فنظر إليه وقال له مباشرة: هل أنت عربي؟ فأجاب الطاهر أي نعم، فقال له المدير: تعال غدا لأوظفك.

وحسب المصادر التاريخية فقد كان المدير يريد منه أن يعمل في فيلم “أتلانتيس” (L’Atlantide) الذي أنتج عام 1921 للمخرج البلجيكي جاك فيدر (1885-1948)، وقد كان من الموهوبين الذين كان لهم الأثر في تاريخ السينما الفرنسية كممثل وكاتب سيناريو ومخرج عمل في العديد من دول العالم، وأحد الأسماء التي ارتبطت بالواقعية الشعرية، وشخصيا بحثت في العديد من البطاقات التقنية والفنية التي تحدثت عن الفيلم، لكن لم أجد اسم الطاهر حناش فيها.

ومن هنا وجب طرح سؤال جانبي وهو هل كان تجاهل اسمه وإسقاطه عمدا؟ خاصة وأن الفيلم مختفٍ ومن الصعب اكتشاف حقيقة هذا الأمر، لكن العديد من المصادر والمقالات ذكرت بأن الطاهر حناش عمل فيه، ولم يذكر في الفيلم إلا اسمان عربيان فقط، ومن المرجح أن يكونا جزائريين، وهما عبد القادر بن علي ومحمد بن نوي، وقد اختيرت صحراء الجزائر لتعكس أحداث العمل، وتلكم هي الانطلاقة الحقيقية لمسار الطاهر حناش في عالم التمثيل والتصوير والإخراج وصناعة السينما بشكل عام.

لقطة من فيلم “الطاحونة الحمراء” عام 1940 الذي عمل فيه طاهر حناش كمدير للتصوير

“أندريه هوغون”.. مدخل إلى عوالم الصناعة السينمائية

عمل الطاهر حناش بعد فيلم “أتلانتيس” في عدة مهن سينمائية تخص التمثيل والمساعدة والتأطير، لكنه برز كممثل مرة أخرى في أفلام “أندري هوغون” (1886-1960) الذي ولد بالجزائر، وهو مخرج مهم ترك بصمة في تاريخ السينما الفرنسية، خاصة أنه أنجز حوالي 90 فيلما من بينها العديد من الأفلام التي مثلت أو تناولت فضاء الجزائر، ومنها: “تاجر الرمال” (Le Marchand de Sable) الذي أنتج عام 1932، وقد لعب فيه الطاهر حناش دور محمد، وفيلم “الصليب الجنوبي” (La Croix de Sud) الذي أنتج في نفس العام أيضا، وقد لعب فيه دور طه بدوي.

بعد هذه المرحلة بدأت رحلة حناش في العمل كمدير تصوير في العديد من الأفلام الأخرى خاصة مع “أندريه هوغون” الذي آمن بقدراته ومواهبه، لذا عمل معه في فيلم “عضو عصابة رغما عنه” (Gangster Malgré lui) عام 1935، و”حفلات زفاف الآنسة ليفي” (Les Mariages de Mademoiselle Lévy) عام 1936، و”السيد بوجونيا” (Monsieur Bégonia) عام 1937، و”ساراتي الفظيع” (Sarati, Le Terrible) عام 1937، و”الشارع بلا فرح” (La Rue Sans Joie) عام 1938، وفيلم “الطاحونة الحمراء” (Moulin Rouge) عام 1940، وهو من الأعمال الكوميدية والموسيقية المهمة.

صانع الأفلام رقم 7951.. مكافئة نهاية الخدمة العسكرية

عمل طاهر حناش أيضا مع المخرج “ويلي روزيي” (1901-1983) في فيلمين وهما “الملائكة السود” (Les Anges Noirs) عام 1937، و”رجال الفريسة” (Les Hommes de Proie) عام 1937، لينتقل هذا التعاون في التصوير إلى المخرج “جاك دنيال نورمان” (1901-1978) في فيلمه ” أمير قلبي” (Prince de Mon Coeur) عام 1938.

كانت هذه الفترة محورية في تاريخ الطاهر حناش، فقد حقق العديد من النجاحات وبدأ اسمه يلمع كمدير تصوير موهوب، لكن أجواء الاحتلال الألماني لفرنسا أفسدت أجواء الإنتاج السينمائي، بل إن الطاهر حناش استدعي للخدمة العسكرية من جديد في القوات الفرنسية الحرة وجيش الحلفاء في الدار البيضاء المغربية لمدة ثلاث سنوات (1942-1945).

وقد عمل خلال هذه المرحلة في شعبة السمعي البصري، فصور العديد من العروض العسكرية، وأعد عشرات التقارير الإخبارية المهمة، ووثق لأحداث مهمة تاريخيا، وبعد انتهاء الحرب سُرح من الخدمة، ومن خلال ما قدم اعتُرف به كسينمائي، وقدمت له بطاقة صانع أفلام تحت رقم 7951.

رائد السينما الجزائرية طاهر حناش الذي لمع اسمه كمدير تصوير موهوب

“على أبواب الصحراء”.. أول فيلم جزائري تحت القصف النازي

من الأشياء التاريخية المهمة التي يجب ذكرها باستمرار لترسيخها في ذهن المتلقي هي أن طاهر حناش هو رائد السينما الجزائرية، فقد أخرج أول فيلم جزائري خالص تحت عنوان “على أبواب الصحراء” (Aux Portes du Sahara) سنة 1938، وينتقد فيه الوجود الفرنسي في الجزائر، وهو من إنتاج شركته الخاصة التي أسسها (TA-HA Films).

وقد كلف شركة فرنسية بتوزيعه في قاعات السينما، لكن من سوء حظ حناش أن تقصف الشركة يوم 03 مارس/آذار 1942 من قبل الطائرات النازية، وتتلف من خلال هذا القصف نسخة الفيلم ليتبخر حلمه الذي عمل على تحقيقه سنوات عمره.

وفي نفس السياق قرأت قبل أيام خبرا مهما للغاية، وهو الشروع في إخراج فيلم بعنوان “المخرج المنسي” للمصورة والمهتمة بالتراث زينب زديرة، وتتناول فيه مسار هذا المخرج، وما لفت انتباهي في هذا المشروع هو العثور على نسخة لفيلم “على أبواب الصحراء” في سينماتيك بانتاز بسويسرا، وتصاحب المخرجة زينب زديرة ابنتيْ الطاهر حناش لمشاهدة هذا الفيلم المنسي، وهي الفكرة التي ينطلق منها مشروعها السينمائي.

 

“غطاسين الصحراء”.. تكرار مسلسل منع العرض

بدأ طاهر حناش في 1952 العمل على فيلم طويل آخر تحت عنوان “غطاسين الصحراء” (Les Plongeurs du Désert)، وقد مثل فيه كل من حيمود إبراهيم المعروف باسم مومو، وجمال الدين شندرلي، وهو بالمناسبة ابن أخت الطاهر حناش، وقد أصبح فيما بعد من المصورين الذين وثقوا للثورة الجزائرية، حتى أنه هو من صور عمليات القصف بالنابالم التي قام بها المستعمر الفرنسي، وكان أحد أسباب دعم القضية الجزائرية في هيئة الأمم المتحدة، خاصة وأن النابالم محرم دوليا.

بعد الانتهاء من فيلم “غطاسين الصحراء” بدأ حناش في عرضه، لكنه تفاجأ من الاستعمار الفرنسي الذي منع عرض الفيلم مع بداية توزيعه سنة 1954، وهي السنة التي اندلعت فيها الثورة الجزائرية، ليلحق الفيلم بالعديد من الأعمال الأخرى التي مُنعت للطاهر حناش على غرار أفلام وثائقية تظهر الهوية الجزائرية وعادات وتقاليد مدينة قسنطينة.

محطة الإذاعة والتلفزيون.. بصمة في تاريخ السينما الجزائرية

تأسست محطة الإذاعة والتلفزيون الفرنسية في الجزائر 1956، وقد استقدم طاهر حناش للعمل فيها للإشراف على الوجوه الجزائرية وعملها في المحطة، وقد فتح وقتها الأبواب للعديد من الأسماء المهمة، كما ساهم في إرسال أسماء أخرى للخارج للدراسة في معاهد السينما هناك، وبعد الاستقلال سنة 1962 ساهم مع آخرين في ضمان استمرار البث وعدم انقطاعه، وتقلّد وقتها منصب المسؤول عن السمعي البصري، لتكون هذه السنوات مهمة جدا لمسار السينما الجزائرية.

أشرف حناش على تكوين العديد من الأسماء المهمة من تقنيين وممثلين، مثل العاملين في فيلم “الليل يخاف من الشمس” (1965) لمصطفى بديع، ورغم الخبرة الكبيرة التي كان يتمتع بها هذا الرائد الذي عمل وشارك في أكثر من 80 فيلما معظمها كمدير تصوير، فإنه أحيل إلى تقني بسيط في التليفزيون، وبالتالي خُفض مرتبه المالي، وبات يكلف بتصوير مباريات كرة القدم، وهو العمل الذي كان بوسع أي مصور مبتدئ من تلامذته أن يقوم به.

لقطة لرائد السينما الجزائرية الطاهر حناش خلال تصوير أحد أفلامه

بعيدا عن الأضواء.. إهمال في زوايا النسيان حيا وميتا

تقاعد حناش من العمل كتقني بسيط في التلفزيون سنة 1970، وبعدها بسنتين توفي في ولاية المدية يوم 01 أغسطس/آب سنة 1972 بعيدا عن الأضواء التي رافقته طوال مشواره الحافل، لقد توفي في زوايا النسيان المظلمة رغم أنه كان وطنيا وقدم الكثير للجزائر، وساهم من خلال الصورة في محاربة الاستعمار وظلاله، وإظهار الخصوصية الجزائرية للآخر قبل استقلال الجزائر وبعده.

والدليل أنه أخرج وأنتج عدة أعمال وطنية جرت مصادرتها أو إتلافها، وبدل تكريمه على تلك الأعمال والجهود قتل معنويا من طرف جهات وأطراف مجهولة، وقد حاولنا أن نبحث ونفتش ونسأل حتى نجد سببا واحدا يبرر التهميش والإبعاد المبرمج الذي تعرض له حناش، لكننا لم نجد سببا واحدا.

وأتمنى أن يكون هذا البحث البسيط انطلاقة لبحوث ورسائل جامعية أخرى تتوسع في عملية البحث عن مسار هذا الرائد، لتكشف عن أعماله التي طمست، وتعمل على كشف وتحديد عشرات الأفلام الفرنسية التي عمل فيها، وأُسقط اسمه منها من منطلق عنصري، كما أتمنى أن يكشف عن التقارير التي قام بتصويرها أثناء عمله في الجيش في الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى إبراز دوره كرائد السينما الجزائرية.