عبد الله العمراني.. بطل إشكالي على مسرح الإبداع

المصطفى الصوفي

عبد الله العمراني في لقطة مع الممثلة الإسبانية فرنانديز في فيلمه" ليالي الأندلس"

يبدو البطل الإشكالي في رواية المخرج المغربي هشام الوالي السينمائية كما تخيلها لا كما كتبها، ومنذ ولج عالم السينما سالكا بذلك طريق النجومية المشعة على خطا شقيقه رشيد الوالي؛ شاحبا متعبا إلى أبعد الحدود، يفكر مليا في تجاوز الأزمة التي حلّت به.

يبدو البطل الإشكالي في تلك الرؤية السينمائية التي بصمت على خطاب فيلمي قصير مفعم بكثير من الرزانة والحكمة في اتخاذ القرار الحاسم، واستنطاق تلك اللحظة الفرجوية التي يبتغيها الجمهور وهو ينتظر انتفاضة البطل، مهما كان تاج العلوّ والشأن العظيم مرصعا بحبات لؤلؤ ليس له ثمن، وصولجان منه تُضاء منابر العزة والحكمة والشرف العظيم.

“عودة الملك لير” على ركح (مسرح) الحياة والإبداع برؤية سينمائية فيها الكثير من الحس الإبداعي الجميل، أعادت الممثل المغربي عبد الله العمراني -الذي وافته المنية الثلاثاء الموافق لـ14 مايو/أيار الجاري بالعاصمة الرباط- إلى الجمهور بقوة من خلال هذا الفيلم القصير، والذي شكّل ثمرة العنقود السينمائي الأخير لهذا الممثل البارع.

قدم العمراني طيلة مسيرته الفنية التي امتدت لأكثر من ستة عقود فيضا من الأعمال التي تنوعت بين المسرح والتلفزيون والسينما، وهو ما جعل الكثير من المتتبعين يعتبرون أن الفنان عبد الله العمراني يُعد من أبرز الأسماء الفنية المغربية التي تلقى احتراما وتقديرا من قبل الجمهور، وذلك لما قدمه من أعمال مختلفة صال وجال فيها كفارس أصيل في حلبة فروسية تقليدية، بطريقته المعهودة التي تتميز بالبساطة والقوة والصمت البليغ أحيانا، وبنظرة فيها الكثير من الكلام.

بطل الفيلم القصير "عودة الملك لير" ومن خلال أدائه الممتع والمتألق، نال جائزة أفضل دور رجالي خلال الدورة الـ13 للمهرجان المغاربي للفيلم بوجدة

“عودة الملك لير”.. تألق واحتفاء

بطل الفيلم القصير “عودة الملك لير” ومن خلال أدائه الممتع والمتألق، نال جائزة أفضل دور رجالي خلال الدورة الـ13 للمهرجان المغاربي للفيلم بوجدة شرقي البلاد في الآونة الأخيرة، وتسلم درع الجائزة بالنيابة عنه مخرج الفيلم هشام الوالي الذي تأسف لعدم حضور بطل الفيلم، ليس لأن لديه التزاما فنيا بتصوير عمل سينمائي أو تلفزيوني جديد، بل لأنه طريح الفراش يصارع المرض الذي لم يمهله طويلا.

أداء الممثل عبد الله العمراني الرائع في فيلم “عودة الملك لير” والذي نال عنه جائزة رفيعة في مهرجان دولي يحتفي بالإبداعات السينمائية على مستوى السينما في منطقة المغرب العربي، والتي أصبحت تُعدّ موعدا سنويا لتكريم السينما المغاربية خاصة المغربية والتونسية والجزائرية والليبية؛ تُعيد إلى الأذهان العشرات من الأفلام السينمائية التي تألق فيها هذا الممثل الذي ينحدر من مدينة مراكش الشهيرة بتاريخها العريق، وبثراء سياحتها وطبيعتها الخلابة، فضلا عن خصوصيتها العمرانية والفنية والحضارية التي استقطبت كبار المخرجين لتصوير أعمالهم السينمائية سواء الروائية الطويلة أو الوثائقية، خاصة تلك التي تهتم بالتاريخ، وعصر الدولة الموحدية التي أسسها سنة 1062م يوسف بن تاشفين، لتكون هذه المدينة التي تسمى أيضا حسب بعض الدراسات والروايات التاريخية “أرض الله” أو “المدينة الحمراء” نسبة إلى لونها الذي يميز بنيانها، كذلك مدينة النخيل، حيث الزائر إليها يندهش بلوحاتها الطبيعية الساحرة التي تتلألأ مع هبّة كل نسيم، فيما ترى النخيل يتمايل هنا وهناك في صورة بهية لا تخطر على البال.

تزداد الرؤية المليحة انبهارا خاصة في فصل الربيع حين تنكشف قمم جبال الأطلس الكبير بيضاء، تذوب ثلوجها على مهل باتجاه الضواحي، فتُحيلها إلى عرصات غنّاء فيها نخل ورمان وبرتقال وتين وفواكه محلية ومناظر طبيعية وشلالات تغري السياح والمخرجين والممثلين ونجوم السينما من كل البقاع، خاصة من أوروبا، إذ إن منهم من اختار مرّاكش لتكون محل إقامته على مرّ العام.

 

“الرسالة” و”لورانس العرب”.. أعمال تألق بها

يستذكر الجمهور هنا الأعمال التي تألق فيها عبد الله العمراني، ومن أبرزها فيلم “الرسالة” لمصطفى العقاد في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، ثم فيلم “لورانس العرب” لمخرجه ديفد لاين، حيث تألق العمراني إلى جانب عدد من نجوم السينما العالمية أبرزهم الراحل عمر الشريف، والأمريكي أنطونيو كوين، وكذلك بيتر أوطول، فضلا عن أفلام دولية أخرى مثل “مريم الناصرية” لجان دولانوي، و”يسوع الناصري” لمخرجه فرانكو زفيريلي، و”رجوع الحصان الأسود” للمخرج روبير ديلفا خلال بداية الثمانينيات من القرن الماضي.

كما يستذكر الجمهور العديد من المسلسلات المغربية والعربية التي لمع فيها نجم هذا الفنان، وهو خريج مدرسة المعمورة المسرحية بالعاصمة الرباط، ويُعد من روّاد المسرح والسينما والتلفزيون المغربي إلى جانب الراحلين محمد حسن الجندي وعزيز موهوب وفاطمة بنمزيان وعبد السلام الشرايبي والمحجوب الراجي ومحمد الجم، والعديد من الأسماء الفنية التي طبعت تجربتها بالتميز والأداء المقنع والرفيع، ومن تلك الأعمال نذكر “مصر القديمة” للمخرج أنطونيو ميكائيل، و”صقر قريش” للمخرج السوري حاتم علي، وكذلك “مواكب النصر” للمخرج المصري أحمد خيضر، وغيرها من الأعمال التي جعلت من هذا الاسم هرما فنيا دون منازع.

مصطفى ظريف مدير ملتقى مشروع بلقصيري السينمائي في تصريح خاص للجزيرة الوثائقية، يرى في الفنان والممثل عبد الله العمراني ذلك المبدع المتعدد المواهب الذي برزت موهبته منذ الستينيات من القرن الماضي، خاصة في مدينة مراكش التي ولد بها وتعلم فيها الأبجديات الأولى للفن المسرحي، وقاده في المستقبل إلى خوض غمار العديد من التجارب السينمائية، سواء مع مخرجين عالميين كمصطفى العقاد في رائعته “الرسالة” على المستوى العربي، والعديد من المخرجين من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا وغيرها.

الراحل عبد الله العمراني رفقة أصدقائه منهم الممثل المحجوب الراجي الذي توفي قبل شهر

العمراني.. فنان عصامي

يقول ظريف إن عبد الله العمراني الذي انخرط مبكرا مع فرق مسرح الهواة آنذاك، وخاصة مع فرقة الأمل المسرحية التي ضمت كبار المسرحيين مثل الممثل الكبير الراحل محمد حسن الجندي؛ وجد في مدينة مراكش خلال بدايته الفنية الفضاء الخصب لصقل موهبته، خاصة أن المدينة تُعد من بين المدن المغربية التاريخية والحضارية، وتشتهر بوجود ساحة “جامع الفنا” التي صنفتها منظمة اليونسكو تراثا إنسانيا عالميا، حيث الثراء الفني العريق، وهي تحتضن كل يوم في الهواء الطلق فيضا من العروض المسرحية التلقائية والحلقات والرواة الذين يحكون الأزليات والمأثورات والقصص والسير الخارقة في الزمان والمكان.

من جهته أوضح الفنان والمسرحي عبد الجليل أبو عنان أن عبد الله العمراني خريج فرقة المعمورة وفرقة المسرح الوطني؛ هو فنان عصامي كوّن نفسه بنفسه، وطوّر نفسه وتجربته الإبداعية شيئا فشيئا، وذلك من خلال دراسته بمركز الأبحاث المسرحية خلال بداية الستينيات بالعاصمة الرباط على يد أساتذة مغاربة وأجانب، وهو ما أهلّه ليكون من بين أبرز الوجوه المسرحية والإذاعية والتلفزيونية والسينمائية مع مطلع السبعينيات بشكل احترافي، حيث درايته بمجال التأليف والتشخيص والإخراج، وكل ما يتعلق بالممارسة الفنية لأبي الفنون، قوّى من تجربته، وساهم إصراره على العطاء والتميز في التألق في كثير من الأعمال، فنال عنها جوائز قيّمة أبرزها جائزة أفضل ممثل خلال الدورة الأولى من فعاليات المهرجان الأفريقي للمسرح بالجزائر خلال نهاية الستينيات من القرن الماضي.

وشدّد أبو عنان على أن الوضع الاعتباري لهذا الفنان الذي وصفه بـ”الهرم المسرحي، والممثل السينمائي القوي”، لا يليق بفنان محترف قضى عمره وأفنى حياته على أداء أدوار الحياة بتلقائية وسخاء فني وإبداعي لا يُقدّر بثمن، وهو ما أمتع الجمهور المغربي طيلة أكثر من ستين عاما من العطاء والوقوف على المسرح، وأداء أدوار طلائعية في الإذاعة وكذلك على الشاشة الفضية وأيضا الذهبية.

 

تجارب إذاعية ومسلسلات تاريخية وأفلام

واستذكر أبو عنان العديد من التجارب الإذاعية للعمراني من خلال المسلسلات التاريخية والدينية، فضلا عن تجارب مسرحية استهلم رؤاها من المسرح العالمي، خاصة مع شكسبير وبريخيت وهاملت وغيرها، وأخرى سينمائية راكمها باكرا، واستهلها بمشاركة وازنة في الفيلم الروائي الطويل والشهير “لورانس العرب” مع ممثلين عالميين، ثم الفيلم القصير “ليالي أندلسية” لمخرجه العربي بناني في بداية الستينيات من القرن الماضي، لتتوالى مشاركات هذا الفنان السينمائية مع مخرجين مغاربة لهم باع في المجال منذ بداية الستينيات وحتى الآن.

ومن تلك الأفلام الشهيرة التي شارك فيها عبد الله العمراني وتألق، نذكر على سبيل المثال “وادٍ في الشمس” للمخرج الراحل بنشقرون العربي، ثم “مكتوب” لنبيل عيوش سنة 1997، و”أصدقاء الأمس” و”درب مولاي الشريف” لحسن بنجلون، و”عبدو في عهد الموحدين” لسعيد الناصري، و”ماجد” لعباسي نسيم، و”نساء ونساء” لسعد شرايبي، و”طيف نزار” و”السيمفونية المغربية” لكمال كمال، و”جنة الفقراء” لإيمان المصباحي، وغيرها من الأفلام المغربية التي لعب فيها عبد الله أدوارا أساسية، وعالجت مواضيع كثيرة ارتبطت بالمجتمع والإنسان والحياة والوجدان والكوميديا السوداء والأمل.

 

رحيل البطل الإشكالي

هكذا يبدو الفنان عبد الله العمراني في بورتريه رسمته أنامل تجارب سينمائية ومسرحية غاية في الإتقان والإبهار، يبدو في طلعته وابتسامته وخفة دمه المراكشية كبطل إشكالي في رواية ذلك الكاتب الذي لم يقل كلمته بعد، لكن الفنان عبد الله قال كلمته وترجل، وأدى رسالته النبيلة بسخاء فني مليء بالأحاسيس والعواطف المؤثرة.

فكم كابر هذا الرجل الفنان مواجع السنين، حيث كان يتذكر صولته الفنية على صهوات جياد مطهمات يعدون باتجاه المستحيل، تلك هي إذن بعض من الإشراقات الفنية والإبداعية لهذا الفنان الشامخ الذي سافر في الماضي مع المخرج أحمد بولان، ولامس السراب مع أحمد البوعناني، وعبر حدود الفرجة السينمائية في صمت مع حكيم النوري، وترك أثرا طيبا على الماء في فيلمه الممتع مع إيمان المصباحي ثم رحل.