عطيات الأبنودي.. شريط المهمشين في مصر

أسامة صفار

عطيات الأبنودي قصة مصرية خالصة قبل أن تكون مبدعة أفلام تسجيلية وكاتبة

ثمة تداخل بين صورة المخرجة الوثائقية والكاتبة التي رحلت مؤخرا (توفيت الجمعة الموافق للخامس من أكتوبر/تشرين الأول) عطيات الأبنودي وبين صورة مصر في الذاكرة، فوجهها الذي تحول إلى لوحة تسجيلية تبتسم لآثار الكفاح والمعاناة وابتسامتها التي تطفو فوق كل ألم، وذلك الدفء والتسامح الذي تقابل به الحياة بقسوتها، والإساءات التي تلقتها عبر سنوات عملها، وذلك القوام الشاهق.. كلها تفاصيل تقول إن ثمة توحدا يجعل من تحولات هذه المثقفة والمناضلة الراحلة باسم المقهورين رجالا ونساء في مصر وفي العالم وكأنها وطن لكل القيم التي ناضلت من أجلها وفي القلب منها الوطن.

لذلك لم يكن غريبا أن تبدأ قبل رحيلها في إطلاق مشروعها الأضخم عن توثيق مصر بالكاميرا، لتلتقط تفاصيل حياة مصر التي توحدت معها عبر أعوام عمرها كله وليس عملها بالسينما التسجيلية فقط.

وللمخرجة المصرية والعالمية قصة مع الفن الذي التزم بالقيمة والمعنى من البداية، فالانحياز للمقهورين والبسطاء في هذا العالم يعني أنك تخاطر بكل وسائلك للتعبير، وأن تحاول أن تكون لسان صدق لضميرك وضمير مجتمعك فهذا لا يعني إلا أن تبقى في ممر ضيق سيئ التهوية والإضاءة وعازل للصوت، وأن تختار هذا الانحياز بكامل وعيك ثم تناضل بكل ما أوتيت من موهبة ووعي وجهد في سبيل هؤلاء.

 

عطيات.. مثقفة على يسار السلطة

وعطيات الأبنودي قصة مصرية خالصة قبل أن تكون مبدعة أفلام تسجيلية وكاتبة وواحدة من العلامات المضيئة في تاريخ السينما التسجيلية المصرية، وهي حالة من الحكمة المدهشة والإبداع والدأب، لذلك يصعب على من يرصد حياتها وإبداعها فصلهما لأسباب تتعلق بتلك النشأة القاسية والنضال ذي المسارات المزدوجة المتوازية بين التعلم والإبداع ولقمة العيش والمرأة والقيم المجتمعية، وإذا كانت عطيات الأبنودي قد عبّرت عن نفسها –في أغلب ما قدمته– بالأفلام التسجيلية، فإن قصة نضالها هي الفيلم الروائي الأكثر جذبا وإنسانية وإثارة للدهشة والإعجاب.

ويظلم عطيات الأبنودي من يخترلها في صناعة الأفلام التسجيلية أو الكتابة أو النشاط النسوي، ذلك أنها حالة تجلٍّ رائعة للمثقف المصري كما تصوره الأحلام، ذلك المثقف الذي يقف دائما على يسار السلطة –أي سلطة– حاملا معه حلمه وهمه في الوقت ذاته بمجتمع أكثر جمالا وأقل قبحا، ليستخدم كل الأدوات المتاحة وغير المتاحة في سبيل هذا الحلم، وهكذا لم تتوقف عطيات الأبنودي عن مقاومة القمع الذكوري، ولم تتوقف يوما عن مقاومة الظلم المجتمعي للفقراء وللمرأة، ولم تترك سلاحها الأكثر فعالية من يدها عبر رحلتها في هذا العالم، وهو الإبداع وإعادة قراءة الصورة طبقا لقيم مغايرة للسائد القبيح.

اهتمام عطيات بالمرأة لم يكن إلا استجابة للفصل الأهم في حياة فتاة نشأت في أسرة كانت الأم فيها هي العمود الفقري

عطيات.. نصيرة طبقة “ملح الأرض”

ولدت عطيات في أسرة مصرية بسيطة لكنها لم تكن بسيطة أبدا، فقد ظهرت عليها علامات التميز من البداية وتحولت في سنوات عمرها الأولى إلى حلم لأمها، وتمنت الأم أن تحقق ابنتها ما لم تحققه هي أو غيرها، وحملت الفتاة ذلك الحلم وترجمته طبقا للغة تعلمتها من تحولات مجتمع ولدت في ذروتها، حيث كانت في طليعة الحالمات بالالتحاق بالجامعة في بدء المرحلة الناصرية التي داعبت خيال فلاحي مصر البسطاء في الدراسة الجامعية وتحقيق القفزة الطبقية عبر التعلم.

لكن الفتاة التي التحقت بالجامعة ولم تكن قد أتمت عامها الـ16 صادفت ذلك الفقر والعوز التاريخي الذي يرثه المصريون عبر حضارة تمتد لآلاف السنين فلم تهتز للحظة، وبدلا من الانسحاب والعودة إلى “السنبلاوين” (مدينة في محافظة الدقهلية) قررت الأم اصطحاب الأسرة بكاملها والعيش في تلك القاهرة التي توجد بها الجامعة لاستكمال دراسة ابنتها، والتحقت عطيات بالسكة الحديد كموظفة حسابات بثمانية جنيهات تعتاش منها الأسرة شهريا بينما تدرس في كلية الحقوق.

هذا الفصل التمهيدي في حياة عطيات أصبح فيما بعد مصدرا ثريا لإبداع تسجيلي في أفلام صورت خلالها معاناة وتفاصيل حياة طبقة يُطلق عليها “ملح الأرض”، وخاصة في أول أفلامها “حصان الطين” عام 1971 الذي جاء ليشكل فعلا ثوريا حقيقيا في عالم السينما التسجيلية، وليصبح تدشينا لمرحلة النضج السينمائي بعد سنوات النشأة التي تميزت بالموضوعات السياحية والدعائية حيث عرضت شريطها التسجيلي الأول في “جمعية الفيلم” في القاهرة، وصوّرت في 12 دقيقة بالأبيض والأسود معاناة رجال ونساء وأطفال يعملون في صناعة الطوب عملا مضنيا ليحصلوا على قروش قليلة تحميهم من الموت جوعا بينما تسرق الظروف القاسية للعمل صحتهم وحياتهم.

وكانت التهمة الجاهزة بعد عرض الفيلم وهي “تشويه سمعة مصر”، إذ كيف تجرؤ مخرجة مبتدئة على إظهار ما لا يجب أن يظهر؟!

ولم تهتم عطيات، فقد اختارت وقررت خوض التحدي وهي تعلم جيدا أن انحيازاتها لها ثمن. وبينما تعالت النداءات بضرورة معاقبتها استكملت عطيات كمهرة جامحة مشوارها الذي بدأ للتوّ.

 

السينما وحلم الصحافة المجهض

لم تتوقف عطيات عن محاولة تحسين دخل الأسرة أبدًا، فالتقطت فرصة للعمل في مسرح العرائس، ومن ثم مُساعدة مخرج ليرتفع دخل الأسرة إلى 15 جنيها، ولتنتهي من دراستها الحقوقية وهي تعمل في مجال المسرح، لكنها دائما كانت تشعر أن شيئا ما ينقصها على خشبة المسرح لتكتشف أن السينما تُحقق لها وسيلة التعبير المثالي عما يمكن أن تقدمه، فكان التحاقها بمعهد السينما بمثابة بداية جديدة لتكون الطالبة الوحيدة التي تقدم مشروعات أفلام تسجيلية في تاريخ المعهد بينما يقدم زملاؤها أعمالا روائية قصيرة.

كانت ترى دائما أن انتماءها إلى السينما التسجيلية، وما لا يعرفه الكثيرون أن في قلب وخيال عطيات حلم مجهض بأن تتحول إلى صحفية، وقد خاضت تجربة قصيرة جدا إذ قدمت للكاتب الراحل أحمد بهاء الدين موضوعا بعنوان “يوميات كمسارية” وكان عن حياة امرأة تعمل كمسارية (وهي الموظفة التي تقطع التذاكر في الباصات والقطارات)، وهو بالفعل أقرب إلى فكرة فيلم تسجيلي، فكأنما كان الموضوع الصحفي نبوؤة بتوجهها نحو العمل التسجيلي.

ولم يكن اهتمام عطيات بالمرأة الكمسارية أو بالمرأة بشكل عام إلا استجابة للفصل الأهم في حياة فتاة نشأت في أسرة كانت الأم فيها هي العمود الفقري والفاعل الأكثر قدرة على التحرك للأمام، فقد نشأت علاقة شديدة التركيب بين الأم وابنتها عبر سنوات الكفاح والحلم بحياة أفضل.

وحين رحل الأب عن الدنيا كانت عطيات تدرس في إنجلترا، ولم تبك في حياتها سوى مرة واحدة عندما أجابتها والدتها عن سؤال: هل كنت سعيدة مع والدي؟ فقالت الأم: “ولا يوم”.

هذا الاعتراف الصاعق لم يأت إلا بعد 50 عاما من الحياة المشتركة بين زوجين أنجبا ستة أبناء، كبر الأبناء واستقلّ كل منهم بحياته وأسرته، وتعرفت عطيات يومها على أسوأ أنواع القهر، إذ تختار المرأة دور البطولة بما تعنيه من القبول بأن ينغرس السيف في قلبها حرصا على ما تراه أغلى وأكثر قدسية من سعادتها الشخصية، وتلك الأم “البطلة” والمناضلة والمكافحة هي النموذج الذي يرد في أفلام ابنتها إما كمسارية أو عاملة في “حصان الطين”، أو باحثة عن الماء في “بحار العطش”، أو كل نماذج “نساء مسؤولات”.. إنها المرأة النموذج لكنها لا تتبنى مشروعا نسويا، وإنما تعبر عن المرأة ضمن حركة مجتمعية تسعى للتكامل بين المرأة والرجل وإزالة ملامح الاضطهاد الذكوري.

عطيات.. أحلام ممكنة

تقول عطيات في حوار لها: اهتمامي بقضايا المرأة بدأ منذ كنت أدرس في إنجلترا، وكتابي القادم “أيام السفر والغربة” يتضمن جزءًا كبيرًا عن كيفية تعرضي لهذا الفكر الجديد بشأن وضع المرأة في المجتمع الأوربي وأيضًا في المجتمع المصري والمجتمعات العربية. والحقيقة أن أول أفلامي عن المرأة جاء سنة 1985 حيث اتصل بي منتج ألماني كان قد شاهد أفلامي السابقة، وطلب مني أن أُخرج فيلمًا عن المرأة المصرية كي أشترك به في مؤتمر نيروبي عن المرأة، وقد اشتركت في مؤتمر نيروبي سنة 1985 وقدمت فيلم “الأحلام الممكنة” ولقي نجاحًا كبيرًا، أما في التسعينيات فكان الاهتمام العالمي قد تزايد وأصبحت الظاهرة أكثر لفتًا للأنظار.

وقد طلبت مني منتجة كندية أن أقدم فيلمًا عن التنمية والنساء في الجنوب، كما طلبوا من مخرجات أخريات تقديم أفلام عن النساء في الشمال، وقد اخترت دولة الإمارات وأخرجت هناك فيلم “شجرة الرولا” الذي سبق أن أشرت إليه وكان ذلك سنة 1992، ثم في سنة 1995 جرت الانتخابات النيابية في مصر فقدمت فيلم “أيام الديمقراطية” عن السيدات المرشحات لانتخابات مجلس الشعب، ثم تتالت أفلامي عن المرأة “أحلام البنات” و”نساء مسؤولات” و”السلام أول المطالب” الذي أخرجته عن المرأة في السنغال.

أما عن كوني أنتمي للحركة النسائية فأنا أرفض هذا التقسيم، لأنني أرى في حركة الدفاع عن المرأة حركة اجتماعية وليست حركة نسائية، حركة متشعبة داخل كل المجتمع حيث يوجد قطاع في هذا المجتمع يشكو من ظلم واقع عليه، فحتى لو كنت رجلا كنت سأقف ضد هذا الظلم الذي يقع على نصف المجتمع، والمسألة لا علاقة لها بالرأسمالية أو الاشتراكية أو أي أيدولوجيا، ولكنها تخص “حقوق الإنسان”.

قدمت عطيات 27 فيلما تسجيليا، وحصلت على نحو 40 جائزة، وشاركت عضوا في لجنة التحكيم الدولية بمهرجان “مانهايم” بألمانيا سنة 1985، وترأست لجنة تحكيم مهرجان “أوبرهازون” في ألمانيا سنة 1990، ومهرجان قليبية بتونس سنة 1991، كما أُقيمت برامج خاصة لأفلامها في العديد من المهرجانات الدولية.