“عمر الخيام”.. صاحب الرباعيات التي غنّتها الأندلس

“يا عالم الأسرار علم اليقين

يا كاشف الضر عن البائسين

يا قابل الأعذار عدنا إلى

ظلك فاقبل توبة التائبين”

بمثل هذا الشعر اشتهر عمر الخيّام صاحب “الرباعيات” وحجة الرياضيين، حتى ذاع صيته غربا قبل أن يتردد صدى ذلك شرقا.

ويعرض فيلم “عُمر الخيام.. حجة الرياضيين” -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “العلماء المسلمون”- حياة عمر الخيام وإنجازاته كواحد من أبرز العلماء المسلمين الذين تركوا بصمة في التاريخ، وأضافوا للبشرية خدمات واختراعات مميزة في مجالات متعددة.

وُلد “غياث الدين أبو الفتوح عمر بن إبراهيم الخيام” في عام 440 من الهجرة، الموافق لعام 1048 من الميلاد، في مدينة نيسابور عاصمة إقليم خراسان في عهد الدولة السلجوقية. وبينما ورث الخيام اسمه من والده الذي كان صانعا للخيام، فقد ورث من سماء نيسابور ونجومها التي تكاد تلمس قمم الجبال، عشق النجوم والفلك.

الرباعيات.. شعر غير تقليدي بمعان تأملية

لم تكن قصائد الخيام تقليدية، فقد نُظمت بطريقة تُسمى “الرباعيات”، وهي لون شعري عرفه العرب في المشرق والأندلس، وكل رباعية تتكون من أربعة أشطر؛ الأول والثاني والرابع على قافية واحدة، والشطر الثالث من قافية مختلفة.

تُخفي عن الناس سنا طلعتك

وكل ما في الكون من رحمتك

فأنت مُجلاه وأنت الذي

ترى بديع الصنع في آيتك

بقيت رباعيات الخيام خاملة حتى اكتشفت في القرن التاسع عشر من قِبل الشاعر الإنجليزي “إدوارد فيتزجيرالد” الذي ترجمها إلى الإنجليزية، ومنها تُرجمت إلى لغات أخرى، وكانت قد تُرجمت إلى العربية مباشرة من الفارسية.

الرباعيات هي أربعة أبيات من الشعر متشابهة القافية عدا البيت الثالث

ويصف “فيتزجيرالد” شعر الخيام -الذي كان قد مر عليه آنذاك نحو 800 عام- قائلا: إنه شعر معجز في معانيه التأملية وإيقاعاته الموسيقية، والغريب في الأمر أن هذا الشاعر لم يكن يحترف الأدب، وإنما كان عالما في الرياضيات والفلك، وكان موسوعيا شأن علماء عصره.

مقالات الوجود.. وجه فلسفي ثالث للشاعر الرياضي

يرى الباحث في تاريخ الحضارات محمد قجّة أن شعر الخيام يقترب من الشعر المشرقي والأندلسي الذي يغلب عليه التأمل الفلسفي، إذ يطرح أسئلة ويحاول الإجابة عليها. ويلفت إلى أن كتاب “الرباعيات” هو الوحيد الذي كتبه الخيام باللغة الفارسية، على عكس كل كتبه الرياضية التي كتبها بالعربية.

رغم أن الصورة المعروفة عن الخيام تتلخص في ذلك الرياضي الفذ والشاعر المميز صاحب “الرباعيات”، فإن هناك جانبا ثالثا للرجل، وهو مقالاته الفلسفية التي تُرجمت ونُشرت في مصر قبل نحو قرن من الزمان.

الخيام يكتب في “الشك الديكارتي”، وهي مجموعة الأسئلة التي يطرحها الإنسان حول وجوده

وتدور مقالات الخيام في الفلسفة حول فكرة الوجود والكون والحيرة الفلسفية التي سُميت فيما بعد بـ”الشك الديكارتي”؛ وهي مجموعة الأسئلة التي يطرحها الإنسان حول وجوده، وقد حاول الخيام أن يجيب عليها في أربع رسائل فلسفية؛ واحدة باللغة الفارسية، وثلاثة بالعربية، وعناوينها متقاربة: مقالة في الوجود، مقالة في سر الوجود، مقالة في كيفية الوجود.

“رسائل الخيام الجبرية”.. عبقرية رياضية تلهم عصر النهضة الأوربية

لقد تميّز الخيام في علوم الرياضيات، خصوصا الجبر، وقدّم إنجازات كبيرة، أبرزها تصنيف المعادلات الجبرية إلى معادلات مفردة ومعادلات مقترنة. ولاحقا اهتم كثير من العلماء الأوروبيين بإنجازات الخيام واستفادوا منها على مدى قرون، وصولا إلى إصدار كتاب بعنوان “رسائل الخيام الجبرية”.

يقول رشدي راشد أستاذ تاريخ العلوم بجامعة دنيس ديدرو الفرنسية إن الخيام هو أول من صاغ نظرية لحل معادلات من الدرجة الثالثة بواسطة القطوع المخروطية، وبهذا فقد قدّم للمرة الأولى بدايات الهندسة الجبرية. ويُوضح أستاذ تاريخ الرياضيات سامي شلهوب أن الخيام قسّم معادلات الدرجة الثالثة إلى عدة معادلات؛ كل واحدة إلى شكل مخروطي معين، وبأخذ تقاطعهم ينتج الحل، معتبرا أن هذا سبق ذكي ومتقدم جدا في وقته.

الخيام هو أول من صاغ نظرية في الهندسة الجبرية، وأول من وضع أسس الهندسة التحليلية

ويعتبر أستاذ تاريخ الرياضيات مصطفى الموالدي أن الخيام هو أول من صاغ نظرية هندسية جبرية، وأول من وضع الهندسة التحليلية التي نجد جزءا منها في كتاب “رينيه ديكارت” المُسمى “علم الهندسة”.

ويمكن مقارنة الخيام بـ”ديكارت”، حيث يشير الدكتور رشدي راشد إلى أن الجزء الأول من كتاب “الهندسة” -على أهميته- لا يتجاوز ما كتبه الخيام، بل هو شديد الشبه به. ويضيف أن الخيام كتب أيضا كتابا مهما في الرياضيات اسمه “شرح ما أشكل من مصادرات إقليدس”.

وقد قدّم الخيام ثلاثة أمور مهمة جدا وأساسية في تاريخ الرياضيات:

  •         أولها: بدايات الهندسة الجبرية.
  •         الثاني: مناقشة مصادرة التوازي.
  •         الثالث: إعادة إقامة نظرية التناسب على أساس الكسور اللامتناهية.

عمر الخيام.. جدل بين شخصية الشاعر والفيلسوف

يتساءل الدكتور رشدي راشد ما إن كان الخيام الرياضي والفيلسوف هو نفسه الشاعر، مشيرا إلى أنه وجد اختلافا كبيرا بين الأسلوبين عند تحقيق كتبه، فأسلوب الخيام الرياضي واضح ودقيق وعميق، وبدايات كتابه في الجبر تشبه مقالاته الفلسفية، أما أسلوب الشاعر فمختلف تماما، لافتا إلى أنه لا يوجد دليل مؤكد على أنهما شخصية واحدة. لكن الباحث محمد قجّة يرى أن “رباعيات الخيام” بمثابة ترجمة لفكره الفلسفي.

قليل هو ما نعرفه عن حياة الخيام، ويميل رومانسيون إلى أن يكون الشاعر هو العالم، والعقلانيون إلى نفي ذلك. وسواء كان الشاعر هو ذاته العالم أم لا، فما تزال أمامنا أسئلة كثيرة حول شخصية خلّدها التاريخ لإسهاماتها في العلم وفي الشعر، حتى ولو كنا لن نتأكد بشكل نهائي أنهما شخص واحد.

وزارة السلاجقة.. مملكة تجمع ثلاث شخصيات تاريخية

يُشاع عادة أن عمر الخيام كان زميل دراسة مع حسن الصبّاح مؤسس الطائفة الإسماعيلية، أو من يعرفهم الأوروبيون باسم “الحشاشين”؛ تلك الطائفة التي أرهبت بلاد فارس في القرن الحادي عشر، وكان كذلك زميل نظام الملك، وهو أحد أشهر الوزراء السلاجقة في عهد ألب أرسلان وابنه ملك شاه، وإليه تُنسب النهضة السياسية والعلمية في ذلك العهد.

ولكن واقع الأمر يقول إن نظام الملك كان يكبر عمر الخيام بحوالي ثلاثين عاما، وأن حسن الصبّاح درس بمدينة الري وليس في نيسابور، مما يعني عدم صحة هذا القول الشائع. ولكن مما لا شك فيه أن نظام الملك ربطته علاقة قوية بالاثنين، وأنه قربهما إليه في عهد ملك شاه، وأن الخيام عرف الصبّاح معرفة شخصية وقوية.

قلعة ألموت بنيسابور التي اتخذها حسن الصبّاح (زميل الخيام في الدرارسة) مقرا لجماعته الإسماعيلية (جماعة الحشاشين)

وفي هذا السياق، يذكر الباحث في تاريخ الحضارات محمد قجّة رواية يرى أنها قد لا تكون دقيقة، ومفادها أن الثلاثة تعاهدوا أنه إذا تولى أحدهم منصبا أن يسأل الآخرين عن رغبتهما. وحينما استلم نظام الملك الوزارة في بغداد عند السلاجقة استدعى الخيام وسأله إن كان يريد أن يُعيّنه واليا على نيسابور، فأجابه الخيام أنه لا يريد الحكم أو الولاية، ولكنه يريد أن يشتغل بالعلم، فرصد له نظام الملك مبلغا من المال يعينه على متابعة بحوثه الفلكية والفلسفية.

أما حسن الصبّاح فقد أسس طائفته، وأصبح من أشد أعداء السلاجقة، الأمر الذي أدى إلى نفيه، ومن ثم اختفى الصباح في مصر، قبل أن يعود مجددا ويستولي على قلعة ألموت ويتخذها مقرا لجماعة الإسماعيليين، ومركزا لعمليات الاغتيال التي دبرها وذاع صيتها.

مصرع نظام الملك.. حروب تنثر عقد الأصدقاء الثلاثة

وتمر الأيام، ويبقى الخيام منكبا على دراساته في مرصد أصفهان، وعلى تصحيح التقويم الفارسي، وهو يعيش في الرعاية المادية لنظام الملك، بعد أن عيّن له مبلغا شهريا للصرف كي يتفرغ لعلمه. أما نظام الملك فقد كان مهموما بإرساء وتقوية دعائم الدولة، وإليه يُنسب تأسيس المدارس النظامية التي تُعد من أقدم الجامعات في العالم، وأمر بالصرف عليها من ديوان السلطنة.

وبموازاة ذلك ظل الصباح والإسماعيليون كالصقور يهبطون من قمم الجبال إلى المدن ليشيعوا الذعر باغتيالاتهم التي طالت “كونراد مونفيراتو” الذي تركه الملك “ريتشارد” مسؤولا عن بيت المقدس، حتى جاء اليوم الذي طال فيه خنجر الصبّاح نظام الملك ذاته.

وقد أدت هذه الأحداث، وغيرها من الحروب والصراعات، إلى اختفاء “الرباعيات”، كما اختفت مئات الآلاف من المخطوطات العربية والفارسية.

“الشيخ الرئيس معلمي”.. نابغة الفنون يقفو طريق ابن سينا

كشأن علماء ذلك العصر، كان عمر الخيام عالما موسوعيا، ولذلك نجد له آثارا في الطب والتاريخ، وإن كانت قليلة، إضافة إلى آثاره الكثيرة في الفلك والرياضيات. كما كان الخيام عمليا وميدانيا في أمور الفلك، فقد كلّفه ملك شاه السلجوقي ببناء مرصد أصفهان، وبتعديل التقويم السنوي، فقدّم تقويما جديدا كتبه بالفارسية وأسماه “روزنامة”، وقد وُصف بأنه دقيق جدا.

يقول الخيام عن رسالته عن الكون والتكليف: هذه مسألة قد تحيّر فيها الكثير من الناس حتى لا يكاد يكون عاقل إلا ويعتريه في هذا الباب تحيّر، وإننا -أسوة بالشيخ الرئيس أبي الحسين بن عبد الله بن سينا، أعلى الله درجاته- قد أمعنا النظر فيها، وانتهى بنا البحث إلى ما قنعت به نفوسنا، والشيخ الرئيس مُعلّمي، وإن لم أدركه.

وفي هذا السياق، يشير الدكتور رشدي راشد إلى أن الخيام تأثر بابن سينا في عمله ضمن ما يمكن تسميته “الفلسفة الأرسطية الإسلامية”. ويرى أستاذ تاريخ الرياضيات مصطفى الموالدي أن الخيام دمج بين المنطق والفلسفة والأدب والرياضيات والفلك، فقد فهم أن الرياضيات تقوم على المنطق، والمنطق قريب من الفلسفة، ولذلك كان له إنتاج مميز في كل هذه الفنون.

“سيكون قبري في موضع تُؤرّجه ريح الشمال بشذى الورد كل ربيع”

ردا على ما أثاره البعض تجاهه بأنه قليل التدين نظرا لآرائه الفلسفية ورباعياته، فقد أدّى الخيام فريضة الحج، وأوضح بأن هذه الرؤية الفلسفية التي تقوم على التأمل والتساؤلات لا يُشترط أن تكون رديفة لعدم التدين أو ضعفه.

إن لم أكن أخلصت في طاعتك

فإنني أطمع في رحمتك

وإنما يشفع لي أنني

قد عشت لا أشرك في وحدتك

تُوفي الخيام في مدينة نيسابور عام 526 للهجرة الموافق 1131 ميلادية.

ضريح الفلكي الرياضي الشاعر عمر الخيام في نيسابور

وقد ورد على لسان البيهقي قوله: التقيت عمر الخيام في مدينة بلخ سنة 506 هجرية، وقد نزل معززا مكرما في سراي الأمير أبي سعيد، وكنت متصلا بهذا الأمير، وجالست حجة الحق عمر الخيام فسمعته يقول: “سيكون قبري في موضع تُؤرّجه ريح الشمال بشذى الورد كل ربيع”، وقد بدا لي أن هذا الأمر يستحيل، ولكني كنت أعرف أنه لا يقول جزافا، فلما بلغت نيسابور سنة 530، وقد خلت أربع سنوات على وفاة عمر الخيام، ذهبت لزيارة قبره يوم الجمعة لأرى الورد حوله.