عمر الخيّام.. رباعيات حائرة بخيال شعري

سنان ساتيك

 

“سيكون قبري في موضع تنتثر الأزهار عليه كل ربيع”، سمع النظّامي السمرقندي هذه العبارة من عمر الخيام[1] يحكي فيها عن حياته ومآلاتها اللتين تشابكت فيهما ظروف حياتية معقدة.

 

تاريخ مرتبك

تبدأ هذه التشابكات من تضارب تاريخ ولادة الخيام الذي يتراوح بين 1025 و1050م، والأقرب أنه في الـ18 من مايو/أيار 1048. ثم تتابع التضارب والاشتباك في مكان ولادته، حيث ولد في نيسابور، وقيل في قرية شمشاد من أعمال بلخ، وقيل في قرية بسنك من أعمال أستراباد.

الإشكالي غياث الدين أبو الفتح عمر بن إبراهيم الخيام أو الخيامي استمرت إشكالياته في نسبته لحرفته أو حرفة أبيه، وفي أنه اتخذ هذا اللقب ليثبت تواضعه، وقيل إن الخيّام قبيلة عربية قديمة، فليس للخيام أن يمتهن صُنع الخيام وهو في حاضرة[2].

لكن الثابت أن الخيام عاش في نيسابور حيث كانت حاضرة بالخيرات والعلوم، وبجامعات تُدرّس الإلهيات والفلسفة والمنطق والطبيعة[3].

أخباره مبثوثة وعلومه منشورة في كتب التراجم والعلماء، فارسي عربي مدعاة فخر لكليهما. توفي في نيسابور عاصمة خراسان عام 1123م، وقبره فيها في مدفن الحيرة المعروف بمشهد علي.

نشأ “حُجّة الحق” كما لقبه أحد تلاميذه، في وضع سياسي مرتبك؛ الخلافة العباسية ضعيفة، نزاع بين السلاجقة والبويهيين، صراع نحو بلوغ السلطة، حتى يجتمع الخيام في نيسابور مع الحسن الصبّاح ونظام الملك في حلقة تدريس واحدة فيتعاهدون على أن من كان الموفق المحظوظ فرفيقاه أخواه وشريكاه في ذلك، حتى صار نظام الملك وزير ملكشاه بن ألب أرسلان، فقرّب الصباح لكنه يُطرد من القصر ويهجره إلى قلعة بعيدة ليؤسس فرقة تناصب السلاجقة العداء.

أما الخيام فسعى له نظام الملك بـ1200 مثقال من الذهب كل عام من بيت المال، يتفرغ بها لخدمة العلم والفلسفة وممارسة الحكمة والفضيلة[4]. لكن قصة التعاهد تلك خرافة، لأنه لا يمكن أن يكونوا زملاء دراسة لاختلاف تواريخ وفاتهم، أي ليس من المنطقي أن يكونوا من العمر نفسه[5]، ومهما يكن الأمر، فمن المرجح أنهم اجتمعوا في قصر ملكشاه.

الخيّام فكّر في الإنسان ومكنوناته وخلقه في جو صوفي يعلو في الأفق

 

تساؤلات ميتافيزيقية

انزوى الخيام للتأمل في الطبيعة، فكّر فيها، وحاكى النجوم، وتكلم مع الأرقام، بنى منها معارف بشرية جعلته واسع المدارك والخيال، مستفيدا مما يصلح، طارحا ما لا ينفع، يصطدم مع علماء عصره معتمدا على البرهان العقلي والحجج والمنطق.

فكّر في الإنسان ومكنوناته وخلقه ومصيره في جو صوفي يعلو في الأفق، تناظر مع ذوي الملابس الخشنة من الخارج والرياء من الداخل الذين اتهموه بالإلحاد، ناورهم وجابههم وناظرهم، مال إلى أن الوجود فان، رأى الحاضر ماضيا والمستقبل حاضرا.

اتهم بالمادية لكونه أكثَرَ من الماديات في كلامه ومبرراته، لكنها الماديات التي تُخفي كوامن الوجود والتي ينسل منها العارف لإدراك الحقيقة والعرفان، فالمادة قديمة وخالدة والأجسام متألفة من مادة واحدة وأشكال وصور تختلف عليها، كما أن الزمن قديم[6].

يسير الخيام بآرائه جاهرا في شعره ورباعياته بها في وسط يتشرب الصوفية، فنُسب إليهم تارة بأنه صوفي يريد الخمرة الإلهية التي توصل إلى العزة الإلهية، وجُعل عدوهم تارة أخرى. يبتعد عن الرياء والترهات والبدع، رام الحقيقة الخالصة، مؤمنا بجمالية الخارج الزائل والغوص في الماديات، لكن هذا الإيمان لم يبدد أسئلته الصريحة والمباشرة عما وراء المنظور؛ ما وراء الطبيعة المشاهَدة[7]:

ويا فؤادي تلك دنيا الخيال
فلا تنؤ تحت الهموم الثقال

وسلِّم الأمر فمحو الذي
خطّت يد المقدار أمر محال

يمزج بين الكفر والإلحاد ثم يعطي الابتهال للمقارنة ولتَحكُم النفسُ وتقضي على الشك داخلها بفكر حر بعيد عن التقاليد.

ينظر إلى الحياة نظرة عبثية، ارتأى الإنسانَ لا حول له، بلا إرادة، مسلوب القوة، ضعيفا أمام تأثيرات الحياة، فغاية الحياة أن يطلب الإنسان الأمور التي تولّد اللذة وتُجنبه ما يورث الألم ما دام الإنسان يشعر بأن أساس حياته هو الإنسان[8]. ولأن الحياة فانية لا بد من استراق اللذات فيها قبل الزوال، لكن تلك اللذات لا تعني المحرمات، بل الابتعاد عن متاع الدنيا الزائل والبحث في عوالم الروح والدخول إليها واستنطاقها بتبيان الدوافع والحاجات والعلاقات بين العلة والمعلول.

شكّاك يبحث عن الحقيقة، يتأرجح بين الشك واليقين، يعتقد بوحدة الروح، ويؤمن بعدم فناء المادة، ولا يذكر من دورة الفلك إلا مجهولَين: الأزل والأبد[9].

عمر الخيام انزوى للتأمل في الطبيعة والتفكّر فيها، فحاكى النجوم وتكلم مع الأرقام

 

رباعيات لاأدرية

كم حبيبٍ كان الجليس الأنيسا

كلما جئتُ أو طلبتُ الكؤوسا

كم حبيبٍ سل الثرى والرموسا

واحدا إثر واحد ودعوني

وأسى يلهب الحشى أودعوني

فرغ البيت والمقابر ملأى

وعيوني الملأى تفيض انسكابا

أعاد القرن التاسع عشر الخيامَ إلى الحياة مع الانتباه إلى نسخة من رباعياته في لندن، فترجمها الباحثون وانتبهوا إلى فلسفتها واللغة المكتوبة بها وأفكارها، ووجدوا صعوبة في ترجمتها كونها لغة فلسفية تحتاج إلى فهم العصر، وفهم المعنى والمرامي التي يقصدها الخيام، كما أن ترجمتها العربية تختلف من نسخة لأخرى. نسختها الأصلية لم يعثر عليها، وما هو متداول رباعيات منقولة من الأم، ومنها ما هو منسوب إليها لتشابهها وتقارب روحها مع رباعياته، ففيها رباعيات كثيرة نُحلت نحلا ووضعت وضعا لأهداف تشويهية، ولرميه بالكفر والإلحاد لخلافات في الأفكار والآراء[10].

تأتي الرباعيات فلسفية مغرقة في التأمل، بشعرية خالدة تماثل عيون الشعر، تنطلق بخيال شعري جامح يدخل إلى الأعماق والمكنونات، تنبشها، تستنطقها، تتحادث مع الروح، فيحضر المعري فيها بلزومياته وأفكاره:

ولفهم الأسرار والألغاز

ذات يوم حلقت تحليق بازي

في سماء المعنى الخفي المجازي

ولحيني لم ألق في الأفلاك

لي قرينا في حلبة الإدراك

ولقد عدتُ بعدما اجتزت ذاك الـ

باب مثلي لما طرقت البابا

اللاأدرية نزعة واضحة ضمنها، فالعقل في بعضها لا يقدر على إدراك الموجودات، يعجز عن فهم قدرة الخلق، متجلية بآثار زهد وتصوف وورع وتعبد، حتى لو كثرت الخمر والكأس فيها:

قالوا امتنع عن شرب بنت الكروم

فإنها تورث نار الجحيم

ولذتي في شربها ساعة

تعدل في عيني جنان النعيم

تتمثل الرباعيات بأشطر أربعة تكون على القافية ذاتها، وأحيانا يكون الثالث على غيرها، وترتفع فيها “الأنا”، كأن “أناه” هي المنهج للدخول إلى الجنة ويجب على الآخرين السير عليه، ما جعله عدوا للآخرين الذين رأوا ذلك غلوا ومبالغة:

خير ليَ العشق وكأس المدام
من ادعاء الزهد والاحتشام

لو كانت النار لمثلي خلَت
جنات عدن من جميع الأنام[11]

الخيام برع في النجوم والأفلاك والحكمة، وكُلّف ببناء مرصد في أصفهان سماه “زيجي ملكشاهي”

 

علوم أخرى

يستنبط العلوم ويخرجها من كوامنها كي يفسرها ويجعلها قريبة لفهم العامة. اطلع على علوم عصره الذي يمور بحركات علمية، فصار فلكيا، رياضيا، عالما طبيعيا، شاعرا، فيلسوفا. وضع رسالة في الجبر والمقابلة بالعربية، ورسائل في المساحة والمكعبات وتصانيف في الطبيعة وما وراءها، وله مؤلف في تأويل الأحلام، يفسرها ويبين ماهيتها[12].

برع في النجوم والأفلاك والحكمة، كُلّف ببناء مرصد في أصفهان سماه “زيجي ملكشاهي” نسبة إلى السلطان ملكشاه، كما راجع الجداول الفلكية عبر الاعتدال الربيعي، مع انتباهه إلى ربع اليوم الذي يشكل السنة الكبيسة كل أربعة أعوام، فأصلح التاريخ الفارسي الذي ضارع به التاريخ الغريغوري، فشكل بذلك أساسا للتقويم الإيراني الحديث.

قرض الخيام بعض الشعر بحكمته المستمدة من خبراته:

سبقتُ العالمين إلى المعالي
بصائب فكرة وعلو همّه

فلاح بحكمتي نور الهدى في
ليالٍ للضلالة مدلهمّه

يريد الجاحدون ليطفئوها
ويأبى الله إلا أن يتمه[13]

لما عُثر على رباعياته انكب العلماء الإنجليز على دراسة الخيام، فأعجبوا بمؤلفاته حتى تشكلت مجموعة عرفت باسم العُمريين. وفي عام 1892 تأسس ناد باسم الخيام في لندن، كما سميت واحدة من فوهات القمر باسمه عام 1970، وأقيم نصب تذكاري له على قبره في نيسابور عام 1934[14].

عندما زار النظّامي السمرقندي قبر الخيام وجد الورود الربيعية المنثورة فوقه، والأغصان انحنت بزهورها حتى لامسته.

 


[1] أحمد رامي، رباعيات الخيام (القاهرة: دار الشروق، 2000)، ص 10.

[2] وديع البستاني (ترجمة)، رباعيات عمر الخيام، تقديم مصطفى لطفي المنفلوطي، ط 2 (القاهرة: دار العرب للبستاني)، ص 6.

[3] للمزيد عن سيرته راجع أحمد حامد الصراف، عمر الخيام (دار السلام، 1350 هـ).

[4] البستاني، 8.

[5] برنارد لويس، الحشاشون فرقة ثورية في تاريخ الإسلام، تعريب محمد العزب موسى، ط 2 (لقاهرة: مكتبة مدبولي، 2006).

[6] الصراف، ص 129.

[7] “Omar Khayyam”, Encyclopedia Britannica, accessed on 8/5/2019, at: https://bit.ly/2E21llM

[8] الصراف، ص 114.

[9] رامي، ص 21.

[10] عبد اللطيف الجوهري، عمر الخيام وقصة الرباعيات (في ضوء الإسلام)، على طريق الأصالة الإسلامية 13 (دار الأنصار)، ص 26.

[11] رامي، ص 74

[12] عمر الخيام، تعبير المنام، تحقيق عبد المنعم الحفني (القاهرة، دار الرشاد، 1991).

[13] البستاني، ص 16.

[14] “Umar al-Khayyam (Omar Khayyam)”, Muslim Heritage, accessed at 8/5/2019, at: https://bit.ly/2Jcgggv