عُليّة التونسية.. نجمة متألقة تزين سماء الأغنية العربية

كانت القمة في الغناء التونسي محصورة بينها وبين المطربة نعمة المعروفة بدفء الصوت وحلاوة الإحساس، وظل هذا الوضع خلال كل السنوات التي تلت انطلاق شهرة كل منهما.

من يسترجع ذاكرة الموسيقى العربية، لا بدَّ أن يتوقف طويلا أمام صوت الراحلة عُليّة التونسية، فقد ترنّم بأشهر أغانيها مثل “ع اللي جرى” و”جاري يا حمودة” و”ظلموني حبابي” و”أروح له بكرة”، عددٌ كبير من نجوم الغناء العربي، مثل صابر الرباعي وفضل شاكر وأصالة نصري وغيرهم.

 

بية الرحال.. سَمية أخت هارون الرشيد

لمع نجم المطربة عليّة (1936- 1990) في تونس في مطلع الخمسينيات من خلال دراستها القيّمة في رحاب الرشيدية على أيدي خميس الترنان ومحمد التريكي وصالح المهدي المعروف بـ”زرياب”، وهو الذي أطلق عليها لقبها الفني علية تيمنا بأخت الخليفة العباسي هارون الرشيد علية بنت إبراهيم المهدي، وكانت شاعرة ومطربة.

كما أنّ الفضل يعود إلى عازف الكمان رضا القلعي الذي اكتشف باكرا مواهبها الصوتية بحكم مصاهرته لعائلة الرحّال التي كان عميدها رجل المسرح البشير الرحال، حيث كان متزوجا من شقيقتها الكبرى سميرة الرحّال التي أهداها أغنية “سميرة” من تأليفه وتلحينه وأداء الهادي القلال. وإذا كان صالح المهدي قد أطلق عليها لقب عليّة فإن صهرها رضا القلعي قد ألحقها وهي في سن المراهقة بفرقته الموسيقية التي أسسها سنة 1949 وأطلق عليها اسم “المنار” وسمّى عليّة “فتاة المنار”.

لمع نجم المطربة عليّة (1936- 1990) في تونس في مطلع الخمسينيات

غنّت بيّة الرحال (أو بهية الرحال)، التي وُلدت يوم 4 فبراير/شباط سنة 1936 بتونس العاصمة تحت لقب “فتاة المنار” حتى لا تثير حفيظة عائلتها المحافظة، خاصة عمّها عبد المجيد الرحال الذي كان كفلها بالتبني. فكانت “فرقة المنار” المحطة الأولى في مسيرتها الفنية، حيث تألق نجمها بأغنية “ظلموني حبابي” تأليف رضا القلعي وتلحينه فضلا عن أغنية تراثية أسهمت في شهرتها وهي بعنوان “يا قلبي واش اللي بكاك بالله قلي”.

فرقة المنار.. كوكبة من النجوم تتربع على الصدارة

واصلت علية مسيرتها مع فرقة المنار التي كانت تضم أبرز العازفين، منهم رضا القلعي عازف الكمان وشقيقه أحمد القلعي عازف العود ومحمود القلعي العازف على آلتي الناي والكرنيطة، إلى جانب الهادي الصنهاجي على آلة التشيلو الكمنجة الوسطى، وإبراهيم المهدي على الكمنجة الكبيرة كونترباص، وهو شقيق “زرياب”، وضابط الإيقاع الصادق كومنجي، وعازف الترومبيت البشير جوهر.

بصوتها الشجي، وفير النغم، واضح الصفاء، متين الأداء، حازت علية نجومية خاصة، فقد كانت تعرف كيف تمسك بالطبقة وكانت تعرف كيف تغني خلالها كما كانت تتمكن من تغييرها.

 

أما عن نجوم تلك الفرقة فقد كانت علية في صدارتهم، محفوفة بالمطربين الهادي المقراني والهادي القلّال إلى جانب عز الدين بدير وتوفيق الناصر وصفية الشامية ونعمة وسلاف.

وكانت علية نجمة السّهرات الرمضانية التي كانت تُحييها “فرقة المنار” في قاعة الفتح بباب سويقة، تيمنا باسم المطربة فتحية خيري (1916- 1986) التي يعود إليها الفضل في التدخل لدى الباي لفتح تلك “الكافيشانطا” التي بقيت الوحيدة التي لم تشملها التهيئة العمرانية.

فرقة الإذاعة.. ألحان شرقية وأندلسية على الأثير

المحطة الثانية من رحلة علية التونسية كانت الفرقة البلدية للموسيقى العربية التي بعثت سنة 1954، وقد تولى قيادتها الموسيقار محمد سعادة (1937- 2004)، لكنها لم تعمر طويلا وأمست نسيا منسيا، إلى أن أعاد إحياءها د. محمد القرفي سنة 1976.

وأما المحطة الثالثة فقد كانت فرقة الإذاعة التي انبعثت سنة 1957 غداة تَوْنَسة الإذاعة الوطنية التي كانت تعرف بفرقة المحطة في عهد أول مدير لها وهو البشير المهذبي بعد الاستقلال سنة 1956 وانتقال مقرّها من ساحة العملة إلى شارع الحرية.

فكانت علية من أبرز عناصر المجموعة الصوتية التي انبعثت نواتها الأولى في فبراير/شباط 1957 إلى جانب الفرقة الموسيقية الأولى والثانية بإشراف الفنان علي السريتي (1918- 2007). وكان البشير قد بادر بانتداب الفنان المصري فهمي عوض باقتراح من علي السريتي ليلقن المجموعة الصوتية كنوز الموشحات الشرقية والأدوار المصرية والقدود الحلبية.

القمة في الغناء التونسي كانت محصورة بين علية التونسية وبين المطربة نعمة

وما زال صوت علية بارزا في تلك التسجيلات الصوتية الموجودة في أرشيف السمعيات الإذاعية؛ حيث كان فهمي عوض يصاحبها على القانون في المفردات الصوتية التي يسندها إلى علية ونعمة وصفية الشامية.

كما كان خميس الترنان (1890- 1994) يُلقن بدوره المجموعة الصوتية مآثر التراث العربي الأندلسي أيْ “المالوف” الذي كان تولى تدوين نوباته الموسيقار محمد التريكي فحقق الرقم القياسي في المحافظة على التراث بمعدل 13 نوبة بتونس مقابل 12 بالجزائر و11 بالمغرب و10 بليبيا.

وكان عبد الحميد السلايتي ملحن أغنية “الكبش يدور” قد أشرف من موقعه بوصفه أول رئيس لمصلحة الموسيقى الإذاعية في مقر الإذاعة الجديد على سلامة تلك التسجيلات التي حافظ عليها عندما تولى رئاسة مصلحة قسم الوثائق السمعية بالإذاعة، فملأت علية الوطاب بما لذ وطاب من مآثر التراث المغاربي، إلى جانب كنوز الرصيد التراثي المشرقي قبل مغامراتها مع صُروف العولمة وظروف العالمية.

ضبط الطبقات وزخرفة الصوت.. صراع على القمة

كانت القمة في الغناء التونسي محصورة بين علية التونسية وبين المطربة نعمة، المعروفة بدفء الصوت وحلاوة الإحساس، وظل هذا الوضع خلال كل السنوات التي تلت انطلاق شهرة كل منهما. هذا الصوت الشجي، وفير النغم، واضح الصفاء، متين الأداء، منح علية نجومية خاصة.

كانت علية تعرف كيف تمسك بالطبقة، وكانت تعرف كيف تغني خلالها، كما كانت تتمكن من تغييرها، وعبر قدرة واضحة على التصرف والابتكار، وتضيف إلى هذه القدرات معرفتها بكيفية وتوقيت وضع الحلي والزخارف الصوتية عند الكلمة ذات المعنى الذي يحتمل ذلك في الغناء.

وقد لمع نجمها على الصعيد المغاربي بأغانٍ من ألحان الفنانين المغاربة، مثل أحمد البيضاوي وأحمد بن عبد السلام، إلى جانب الألحان الليبية لكاظم نديم وحسن العريبي.

فرقة العصر.. أغانٍ تسري سريان النار في الهشيم

في المحطة الرابعة من مسيرتها الفنية استقلت علية بفرقتها الموسيقية التي كان يقودها الفنان حسن الغربي باسم “فرقة العصر”، ولقبت عليّة في حقبة الستينيات بمطربة الجيل قبل انتقالها في السبعينيات إلى القاهرة، فذاع صيتها من خلال العشرات من الأغاني التي راوحت بين الأغراض الوطنية مثل “بني وطني يا ليوث الصدام” شعر عبد المجيد بن جدو (1918-1994) ولحن الشاذلي أنور (1925-1995) تخليدا لمعركة الجلاء في بنزرت.

كما غنت علية من ألحان “زرياب” عدة أغان لعل أبرزها “نظرة من عينيك تسحرني” شعر أحمد خير الدين (1906-1968). ولحَّن الفنان خميس الترنان أغنية محمد المرزوقي (1916-1981) “غزالي نفر”، كما غنت من ألحان محمد التريكي أغنية “مابنك” شعر حمادي الباجي (1940-1995).

وأدت علية القصائد العصماء لأبي القاسم الشابي (1909-1934) “قد سكرنا بحبنا وانتشينا” ألحان صالح المهدي الذي لحن لها أغنية تغزل فيها بابنتها فاتن، تأليف الشاعر عبد المجيد بن جدو، إلى جانب رائعة “الساحرة” لجعفر ماجد لحن محمد رضا، الذي لحَّن لها أيضا أغنية “ما نحبش فضة وذهب” كلمات محمد سلام. وقد تعاملت أيضا مع منور صمادح في قصيد “تقوى الشاعر” التي لحنها أحمد حمزة.

تميزت علية التونسية بصوت شجي، وفير النغم، واضح الصفاء

وتبقى أغنية “مالالا” التي لحن عبد الحميد ساسي (1934-1984) أغنية الموسم التي سرت سريان النار في الهشيم، وهي من كلمات محمد اللجمي. و”يا ليل ارحم خاطري” تأليف محمد بوذينة وأغنية “سوق السيارة” التي لحنها عبد العزيز عبد الله، إلى جانب قصيدة “رباه” التي لحنها محمد سعادة من شعر مختار سحنون. ولحَّن لها محمد البجاوي “خلي يقولوا أشي يهم” تأليف محمد الجزيري السلايمي. أما علي شلغم فقد لحّن لها أغنية “استر يا ستّار” من شعر أحمد خير الدين.

وغنّت عليّة كذلك من ألحان ونّاس كريم قصيدة “عش يا فؤادي بالأمل” من شعر المختار الحشيشة، وأغنية “الحب ليعة حارقة وقوية”. ومن شعر المذيع محمود صابر غنت أغنية “يا وخياني” بلحن ونّاس كريم. ومن الأغاني التربوية غنّت “اقرأ يا ولدي وتعلّم” من شعر محمد النوري ولحن موريس ميمون الذي لحَّن أيضا أغنية “عروستنا” من كلمات محمد المولدي.

مطربة الجيل.. رحلة إلى عاصمة الشرق العربي

بعدما أحيت أم كلثوم حفلا في تونس عام 1968 استمعت مع الماجدة وسيلة قرينة الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة، فغنت علية في حضرة أم كلثوم “يا حبيبي كل شيء بقضاء”. فأعجبت أم كلثوم بصوتها وشجعتها على القدوم إلى مصر، حيث بوابة النجومية والشهرة العربية.

وفي مصر، شاركت في حفلات الأسبوع الثقافي التونسي التي أقيمت في القاهرة والإسكندرية وشاركت عليةُ المطربةَ نعمة والمطرب أحمد حمزة والملحن الشاذلي أنور وفريق الكورال الغنائي التونسي في تقديم ملحمة التحية التونسية لشعب مصر، ويقول مطلعها “يا مصر إليكِ من الخضراء سلام الألفة والحب”.

 

بعدها عادت علية لتشارك في مهرجان الغناء العربي، فشاركت فرقةَ الموسيقى العربية بقيادة عبد الحليم نويرة في غناء إحدى أغاني أم كلثوم، فحازت الإعجاب الكبير ونالت تقدير كل من استمع إليها. وعادت أم كلثوم لتشيد مرة أخرى بصاحبة هذا الصوت المقبل من تونس عندما تحدثت عنه في واحد من برامج سامية صادق رئيسة التليفزيون في تلك الحقبة من الزمن.

القاهرة.. تهافت الملحنين المصريين على الجوهرة

من يتأمل قائمة الأغاني التي سجلتها عليّة في تونس يلاحظ تعاملها مع الفنانين المصريّين قبل استقرارها في القاهرة سنة 1971، ومن ذلك أنّها غنّت “دامعة عين دامعة” من لحن بليغ حمدي وشعر بن جدو، إلى جانب عدد من الأغاني لحنها الفنان المصري المولد والتونسي المدفن سيد شطا مثل “يا ظالمة توعد وتخالف”.

لذلك لمع نجم علية عندما حطّت الرحال في القاهرة، لا عن طريق أغنية “جاري يا حمودة”، وإنما بسحر أدائها لدور الموسيقار المصري داوود حسني وموشح بيرم التونسي “اعطفي عدل قوامك” الذي لحنه الهادي الجويني.

وقد تهافت الملحّنون المصريون على صوت علية فلحّن لها محمّد الموجي “طرح الهوى”، ولحّن لها الملحن الفلسطيني المولد والمصري المنشأ رياض البندك أغنية “لا ملامة”. كما شاركت مطربةً وممثّلة في عدّة مسرحيات وأفلام سينمائية.

حلمي بكر.. ثنائي يصنع أنجح علاقات التعاون

ومن ألحان حلمي بكر حققت علية نجاحا كبيرا وهي تقدم الأغنية الوطنية “يا حبايب مصر” من كلمات مصطفى الضمراني، وقد سجلتها قبل حرب رمضان (أكتوبر 1973)، فإذا بها تصبح حديث الأسماع عندما ترددت عبر الإذاعات المختلفة مع بداية عبور الهزيمة في نهار السادس من أكتوبر عام 1973، مما دفع الرئيس المصري الرّاحل محمّد أنور السادات إلى منحها قلادة النيل تقديرا لمسيرتها الإبداعية.

كما غنت عددا من الأغاني من تلحين حلمي بكر الذي ارتبط بها خلال تلك الفترة من أعوام السبعينيات، فكانت الأغنية العاطفية “ع اللي جرى.. لما تيجي وأنا أحكي لك” من أنجح مجالات تعاونهما الثنائي.

وكما نجحت علية في اللون الوطني فقد نجحت أيضا في اللون العاطفي، وهذا ما حققته أيضا في الأعمال التي غنتها من ألحان بليغ حمدي، ومن أوضحها أغنية “داري يا ليبي دارك” عندما وقّعت الأطراف العربية ميثاق طرابلس وقيام اتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسوريا وليبيا، وعلى المستوى نفسه من النجاح حققت علية نجاحا مماثلا وهي تغني من ألحان بليغ حمدي أغنيتها العاطفية الحزينة “ابكي والناس سامعة”.

“ولادة وابن زيدون”.. نجومية تخترق أسوار المسرح والسينما

لم تكن علية حديثة العهد بالفن الرابع (الموسيقى) والفن السابع (السينما) كما أشار إلى ذلك المخرج السيّد راضي، باعتبارها قد مارست المسرح في تونس، فقد لعبت دور “أزميرالدا” في مسرحية “نوتغو دام دو باري” إلى جانب والدها بشير الرحال والفنان الكوميدي محمد الهدي.

كما مثلت في الفيلم السينمائي القصير الذي أخرجه عمّار الخليفي بعنوان “حبّ وغيرة”، وغنّت فيه أغنية “خلّي يقولوا آش يهمّ” من ألحان محمد البجاوي (شهرته محمد ساسي)، وهو الذي تقاسم معها دور البطولة إنشادا لا تمثيلا في المسرحية الغنائية “ولّادة وابن زيدون” من تقديم الفرقة البلدية للتّمثيل.

وشاركت أيضا في مسرحية “أم عباس” للكاتب محمد مرزوقي وكاتب السيناريو علي عبد الوهاب إلى جانب الزهرة فايزة والحطاب الذيب، ومثلت كذلك بجانب المغني محمد نوح والفنانة الاستعراضية صفاء أبو السعود في فيلم “المزيكا في خطر” من إخراج محمود فريد سنة 1976.

بعد ذلك عادت علية إلى تونس مرة أخرى في عام 1988، وتوفيت هناك يوم 19 مارس/آذار سنة 1990 بينما كانت تستعد لإحياء حفل عيد الاستقلال يوم 20 مارس/آذار. فقد أصيبت بنوبة قلبية أودت بحياتها، ونظّمت لها جنازة تليق بمقامها وخرج موكبها من مقرّ الرّشيدية.