فاتن حمامة.. السيدة التي هاودها الفن مغرما لا مرغما

إسراء إمام

 

“مرة زميلتي في المدرسة قالت لي وإحنا بنتخانق، إنتِ فاكرة نفسك مين، إنت حتة ممثلة، ماردتش عليها، لكن روّحت متضايقة ومخنوقة، ويوميها حلفت إني أخلي أي حد يحترم مهنة الممثلة”.

الحقيقة أن هذا القسم الذي قطعته فاتن أحمد أحمد أحمد حمامة وهي طفلة والذي جاء مترتبا على مشاركتها في فيلم “يوم سعيد” (1940) مع الموسيقار محمد عبد الوهاب وعمرها سبعة أعوام، امتد وصاحبها طوال سنوات حياتها الفنية، وكانت له وفية، بينما كان هو صانعها والمحدد الأول لهويتها كفنانة، ولهذا عندما أطلقوا عليها لقب “سيدة الشاشة العربية” بدا الأمر منطقيا حتى وإن لم يكن منطوقا من قبل، وإنما متفق عليه ضمنيا بغير تصريح.

تجربة “فاتن حمامة” تجربة تستحق التأمل والتحليل، فهي فنانة ظلمتها شخصيتها المهيبة، والجدالات التي كثرت حول تبني أعمالها الفنية قضايا ما، بينما نسي المعظم تقريبا الوقوف أمام مدرستها في التمثيل وإعطائها القدر الكافي من الثناء.

في السطور المقبلة، سأحاول أن أتحدث عن “كل فاتن” بلا استثناء، وليس بعض بعضها الذي استهلكه الآخرون من قبل وأفنى فيه جهده دون التفات لبقيتها الملفتة كإنسانة جميلة، وحدوته لفنانة راقية باقية عنيدة وعتيدة، وممثلة متميزة تراجع الحديث عن قدراتها في مقابل التناول الدائم لشأنها ومكانتها واختياراتها.

 

سيدة الشاشة العربية.. لماذا؟

في لقاء مع التلفزيون الكويتي في السبعينيات قالت “إحنا عندنا أنواع مختلفة من الجمهور في العالم العربي، فيه الجمهور اللي هيفهم إن ده تمثيل، وفي الجمهور اللي بيصدقك، بيعتقد إنك زي الدور”، فرد محاورها بنبرة نافية “لا.. نادرا وجود هذا”، فلاحقته مؤكدة في تصميم واضح “لا مش نادر لسه موجود”.

هذه هي عقيدة فاتن حمامة منذ بدايتها، والتي اعتنقتها عندما رددت القسم الذى بدأنا به المقال. ورغم أن هذه العقيدة كافرة بماهية الفن الحقيقية التي تجبر الممثل على أداء كافة الأدوار دون انتظار تأويلات الجمهور وأحكامهم، فإن إصرار فاتن عليها كان في صالحها شئنا أم أبينا، ولهذا تقبل الجمهور لقب “سيدة الشاشة العربية” لأنها فعلا ظلت في نظرهم “سيدة”، سيدة وقور، لم تطلّ عليهم يوما في هيئة تُدينها، ولأنها مثلما أصرت أن “الجمهور ده لسه موجود” بل ويمثل شريحة ليست هينة من الناس، رضي الكل عن فاتن ممتنين، معطرين الأفواه احتراما حينما يخوضون في ذكرها.

 

فاتن.. أقتل وأسرق لسبب

لهذا السبب لم تقبل فاتن حمامة لعب أدوار الشر، ولا يوجد تقريبا في تاريخها دور يمكنك أن تجد فيه خصلة جلية مناقضة للطيبة سوى دورها في فيلم “لا أنام” (1957)، وهو الدور الذي يمكننا أيضا أن ندرجه في الخانة التي تحدثت عنها بخصوص هذا الموضوع فقالت “ما فيش بنى آدم شرير للنهاية، كلنا فينا الشر والخير، وأنا أقبل أعمل دور واحدة بتعمل شر، لكن لسبب، إنما أبداً ما ألعبش دور واحدة بتقتل أو بتسرق أو بتعمل شر من غير سبب”. والحقيقة أن شر “نادية” في فيلم “لا أنام” له عدة أسباب وليس سببا واحدا، فهو الدور الذي قد تتعاطف معه حتى وإن كرهته أو ألقيت على كاهله ذنبا فعلته.

التزام فاتن بعقيدتها التي اشترطتها على نفسها لم يقف عند هذا الحد، بل تمادى لتخوفها التام من لعب أدوار قد تخرجها من عباءة المظهر المتحفظ الذى طالما أغرمت به والتحفته دوما أمام نظر الجمهور، فالأمر لم يكن قرارا عاديا وإنما هاجسيّ بجدارة.

وفي هذه النقطة لابد من التطرق لهذه القصة التي تخص المسرحيات التلفزيونية التي قدمتها فاتن من تأليف توفيق الحكيم في فترة السبعينيات، وسأختم هذه الجزئية بالفقرة التالية على لسان فاتن المَرِح الطفولي، فهذه الكلمات وحدها ستجعلك على يقين بأن تلك المرأة لم تكن ثمة طريقة لاشتغالها بالفن إلا من خلال تجنيها عليه أحيانا، كما أنكم لا تملكون أمامها سوى أن تتقبلوها مغرمين لا مرغمين.

“المسرحيات اللي عملتها للتلفزيون واتعرضوا كانت خمسة، لكن في الواقع هم ستة، لأن فيها واحدة شِلتها في بيتنا وقفلت دولابى عليها وقلت لا يمكن هوريها، الدور بتاعها دور غريب عليّ أوي، دور مونولوغست اسمها “توحة” راح عليها الزمن، وحاقدة على الفنانين بحالهم، وعملت عمايلها في حياتها كلها. الدور كان بالنسبة لي تحد، في أول تصوير قعدت أحضّر للبس، حطيت أربع باروكات فوق بعض، ولبست لبس شكله غريب أوى، والمكياج كان أحمر هنا وأخضر هنا، والرموش الطويلة كمان بقى. لما عملت المكياج ولبست اللبس ده ماعرفتش أخرج من أوضتي، يقولوا لي تفضلي البلاتوه جاهز، أنا أبداً مش قادرة أطلع، ولما روحت على الأستديو علشان أصور المشاهد، دقات قلبي كنت سمعاها لغاية بيتنا، جيت أقول أول مشهد كان صوتي مرعوش ومش عارفة أقوله، رُحت ورا الأستديو وابتديت أقول لنفسي إني لازم أعمله، أنا فاشلة، ويوميها كنت خايفة لدرجة إني دعيت ربنا حاجة تحصل في الأستديو علشان ما أتهانش قدام زملائي وقدام العاملين. ووالله ربنا استجاب لدعائي، يومها ماسورة ميا ضربت في الأستديو والتصوير وقف، ما كنتش مصدقة نفسي، ولما رجعت البيت فضلت أفكر أكمل المسرحية ولا ما أكملهاش، وفي الآخر قلت لازم أكملها لأن ده معناه إن أنا خوافة وإن أنا مش قادرة على الدور، رُحت بعد كدة الأستديو واستجمعت شجاعتي وعملتها، وأعتقد إني عملتها مش بطالة لدرجة إن اللي هيشوف الدور هيقتنع إن دي أنا، فخجلت وقلت لا يمكن حد يشوفها غيرى أنا”.

 

مدرسة فاتن.. اتبع قلبك

سُئلت فاتن عن أمسية شعرية ألقت فيها عددا من أبيات الشعر لـ”أحمد شوقي”، وعن سر مهاجمة الكثيرين لها لأنها لم تقل الشعر بالشكل الشاعري المعتاد الإلقاء به، فقالت إنها دوما تميل لاتباع الإحساس، تنصت لنغمة إحساسها فتقول، بينما لا يعنيها المظهر الذي يجب أن تتخذه نغمة الكلمات، ولا تضعه في اعتبارها.

والحقيقة أن توصيف فاتن البسيط عن طريقتها الخاصة في إلقاء الشعر هو ملخص وجيز عن شكل المدرسة التمثيلية التي انتمت إليها أو كانت رائدتها تقريبا، وهي الانسياق التام بشكل عفوي خلف الإحساس. ففاتن على الرغم من أنها كانت امرأة ذكية فاحصة لكل ما حولها ومُطوّعة إياه داخل أي تفصيل لدور تلعبه، فإنها ظلت ممثلة شديدة التلقائية، طبيعتها الخاصة هي التي تغلب عليها في النهاية أمام الكاميرا، فمع اختلاف أدوارها من فتاة أرستقراطية لأخرى معدمة، ومن امرأة راقية لأخرى شعبية، ظلت فاتن هي فاتن، بينما الذي يتغير هو إحساسها، الطريقة التي تشعر بها حيال الشخصية، ومن هنا يأتي تفردها.

أنت تصدق مثلا أن فاتن حمامة هي “نعمة” في فيلم “أفواه وأرانب” (1977) لأنها عرفت قبلك من هي “نعمة”، صدّقتها وصادقتها ومن ثم كانتها. فلن تجد فاتن يوما مغالية في لغة جسدها تبعا لمحاكاة شخصية معينة، وإنما تكتفي باتباع قلبها، وسرعان ما تجد نفسك ثالثا بينهما، تؤمن بهما ولا تجد مفرا من التورط معهما. ولهذا تقوم فاتن بتوصية أي مخرج تبدأ العمل معه على فيلم ما فتقول “من فضلك، حاول تبتديلي بالمشاهد البسيطة، لحد ما ألاقي نفسي جوا الشخصية”. وفي سياق آخر، يمكننا أن نترجم قولها هذا إلى المعنى الذي استخلصناه عن أدائها قائلين: من فضلك، ابدأ بالمشاهد البسيطة كي أجد عندها الدليل الذي سيقود قلبي إلى الشخصية.

 

“حمامة”.. بين الرقة والحدة

وعن لسان حال فاتن، أو أداتها الأثيرة التي تجتاز بها المسافات بيسر إلى المتفرج، نجدها تتمركز بدرجة كبيرة في صوتها، هذا الصوت العذب الدقيق الرقيق الذي يتنامى إليك كنقرة خاتم ألماس على سطح كأس نحيف السمك. النبرة التي تتردد في سحر، وتتربع داخل قلبك، تتكئ على الحروف في أبهة، تحتد في عزة، وتتمايل في خفة، وتتألم في حرقة. هذه اللكنة الأصيلة والطيعة والخفيفة والمقنعة، المتباطئة بلذة عند حرف “الراء”، في عثرة لم يعبها أحد، بل أصبح يعهدها وإن لم يميزها أبدا، لأنها من سمات لغة السيدة.

نعم، صوت فاتن شيء جميل في حد ذاته، له رنته الشجية في نفس المتفرج، يألفها من دون وعي، وإن وعَى فهو من المريدين. ولكن دور هذا الصوت لم يقتصر على هذا المنحى السريالي في التأثير على المشاهدين، لكنه أيضا يملك طابعه الفني، فمن خلاله يتدفق إحساس فاتن بشكل عجيب، يتقافز ليعبر بأريحية عن حالة الشخصية، دالا عليها في فزعها وسعادتها وسكونها واستقامتها وأرقها وغضبها.

وبالجمع بين الملاحظتين في الفقرات السابقة، فيما يخص الصوت، والسعي في حيز الإحساس، يمكنك أن تعيد مشاهدة أكثر من مشهد لفاتن، منهم مثلا مشهد الجواب في فيلم “يوم مر ويوم حلو” (1988) حينما تنهار الأم فجأة بينما كانت تملي ابنها الصغير ليكتب شكواها من ديون زوجها المتراكمة التي قسمت ظهرها، أو مشهد الصدمة التي تمر بها المرأة الصعيدية حينما يخذلها ابنها القاهري ويرفض الأخذ بثأر أبيه، والذى كانت تعيش من أجل أن تبلغه طوال سنواتها الماضية في الفيلم التلفزيوني البديع “أغنية الموت” (1973)، أو المشهد في فيلم “الخيط الرفيع” (1971) الذي تهتاج فيه “منى” وتمزق ملابس “عادل” حينما يتمادى في عنادها والبعد عنها بعدما يحالفه النجاح في عمله، وهي التي ساندته وكانت سببا رئيسيا في نجاحه. حينها سيمكنك تأمل مثل هذه الطاقة الحية التي تظهر عليها صعودا وهبوطا، بمنتهى التلقائية وهي تنتقل من حالة لأخرى في رفة عين، ولا يسعك سوى أن تصدقها مأخوذا ومنصتا إلى هذ الصوت الذكي الذي ينقل إليك ما يحدث بداخلها على أكمل وجه.

منهج فاتن حمامة في الفن لم يختلف كثيرا عن نهجها في الحياة، فهي الطفلة الأنيقة التي تحب الضحك والبساطة وتضفي لمسات من البهجة في أي مكان توجد فيه، تميل إلى الحكي بدقة وتحب النكتة وتعشق البوح، فإن تأملتها في أي حوار دار معها تمعنت في شكل جلستها، والطريقة التي تشتعل بها الكلمات في فمها حينما تُقبل على قولها، ستؤمن بكمّ الحيوية التي تسكن هذه السيدة، وفي الوقت ذاته ستندهش من مقدار الذكاء المتقد الذى يرصّع دماغها، ويجيد التصرف مع الطاقات التي تحملها، مُسيطرا عليها وواضعا إياها في نصابها الصحيح، حتى لا تستحيل إلى اندفاع قد يستهين به الآخرون.

إنها رغم كل تسامحها صارمة، ومع كل رقتها حادة وحاسمة، وقد روت أنها خلال تصوير فيلم “أريد حلا” (1975) استفزها ممثل لم تذكر اسمه قد حضر إلى الأستوديو ليعمل على مشهد لم يكن مُلما بحفظ حواره، فلم تنسه أبدا، وقالت بتأكيد “كرهته خالص، وقلت لا يمكن هتعامل معه تاني”.

إنها امرأة تكاد تكون مثالية تقريبا، تتقيد بالأصول والعيب، والأدب بالطبع. تنزعج من الأصوات العالية، وحينما جمعها لقاء ما مع الممثل الكويتي “خالد النفيسي” وهو المعتاد على استخدام طبقات عالية من صوته في الحديث بعادية، نبهته بخفة دم إلى أن صوته يخيفها.

كانت فاتن تلجأ كثيرا إلى استخدام لزمات تخصها داخل حوار أفلامها -بغير قصد طبعا، ولأن مدرستها الطبيعية في الأداء تجرها إلى ذلك- فإنك يمكن أن تتخيل مثلا أن جملتها “عيب عليك يا قليل الأدب” لـ”يحيى الفخراني” حينما يدير سيارته ويبتعد متجاهلا توسلها في فيلم “أرض الأحلام” (1993)، قد تكون جملة ارتجالية نابعة من إحساس فاتن التي ارتبطت تماما بشخصية “نرجس” وشعرت بمدى تحرجها وانكسارها من فعلة كهذه.

 

عندما تكون الشهرة مصدرا للألم

صادقة لا تخشى شيئا سوى عدم احترامها لنفسها، فتجدها تقص قصة خوفها من دور المنولوغست (التي ذكرتها على لسانها كاملة في الفقرات السابقة)، دون أن ترتاب من تعرية كل هذه الهواجس التي دارت بذهنها، وخصوصا ما قالته بشأن فزعها من الإهانة أمام زملائها. نفس الأمانة تدفعها للإجابة ببساطة عن سؤال ما إذا كانت تضع أنفها في تفاصيل العمل، فتقول بكل بساطة “أتدخل في كل حاجة”، ومن ثم تبرر موقفها بكل حقيقة وتقدم لك أسبابها المنطقية لفعل ذلك، وبعدها تترك لك حرية الحكم.

ولكن ما إن تستغرق في تأمل وجه فاتن ذي الضحكة الواسعة حتى يمكنك أن تلمح بسهولة تلاشي بهجته وطفولته في غضون ثوان كأن ما فيها من شجن مخبوء يدهمها في لحظة ويأتي على سعادتها فتراها دوما في هذه المتوالية دون هوادة، ما بين نقطة الانتهاء من إجابة من يحاورها، وبين توقيت استماعها لسؤاله التالي.

وهذه المسحة المنطفئة تحضر على وجه الخصوص إن حضرت سيرة الشهرة، ففاتن كانت تكره كونها مشهورة رغم حبها لكونها فنانة، فالشهرة كانت مصدر وجع يبدو أنه كبير بالنسبة لفاتن حمامة، فسّرته هي بأنها مقيدة طوال الوقت لا تقوى على أن تكون امرأة عادية تتجول في الشوارع بحرية وتشاهد واجهات المحلات وتأكل “جيلاتي”، ولكن شيء ما في داخلك قد يشي لك بأن الأمر أكبر من تلك المسألة.

على أية حال، يمكننا أن نستدل على كرهها للشهرة من خلال توصيتها لأبنائها دوما بألا يعملوا في الفن. وحينما قالت لها مقدمة الإذاعة في إيجاز “سجلي كلمة في أوتوغراف نادية ذو الفقار”، أجابتها دون تردد وبنغمة آفلة متألمة “ابتعدي عن الشهرة”.

الفنانة المصرية فاتن حمامة التي عُرفت بتميزها وعنادها الذي أوصلها لما هي عليه

 

آخر كلمتين

قالت فاتن حمامة عن المسرح: لا أقتنع أبدا بأن التمثيل المسرحي أصعب من السينمائي، لأن تمثيل المسرح فن، بينما تمثيل السينما صنعة وفن. وعن اختيارها للقصص التي قد تلعب بطولتها، تقول: لا أقبل بالمعالجات القصيرة لأنها قد تكون فخا، فالسيناريو هو خير دليل على جودة العمل، أما المعالجة فقد ينتج عنها قصة رائعة، وقد ينتج عنها قصة رديئة جدا.

وفي أول أفلامها “يوم سعيد” طلبت من المخرج محمد كريم تغيير محمد عبد الوهاب بممثل آخر، لأن عبد الوهاب كان يسخر من تصديقها للاعتقاد الذي حضها محمد كريم على الإيمان به، بأن لونها سيتحول للأسود إن نظرت إلى الكاميرا وهي تمثل.

ثمة كلمات خاصة بمفردات فاتن الخاصة كانت تستخدمها بكثرة في حوار أفلامها، منها “لدرجة” و”تقبى”.