فريد الأطرش.. أيقونة الفيلم الغنائي

 

ياسر ثابت

كانت روحه تغني أولا، وتسبقه مع العود الذي ينام في حضنه إلى عالم من النغم الشرقي الذي هزّ يوما السينما العربية وأهداها مفهوما له رونقه الخاص لما يُسمى “الفيلم الغنائي”.صنع فريد الأطرش العديد من الأفلام أو ساهم فيها بأعمال غنائية، ليقدم مشهدا مجسّما لعالم الغناء المصري والعربي في عصره الذهبي الأخير. “وإذا كان فريد الأطرش أعطى الموسيقى الشرقية أفكارا جديدة ومتطورة وممتازة وجريئة لم يعطها أي ملحن معاصر له” كما يقول بليغ حمدي[1]؛ فإن بصمات فريد تبدو أوضح ما تكون في الفيلم الغنائي.إن قصيدة “عُدت يا يوم مولدي” التي توّج بها فريد فيلمه الخامس والعشرين “يوم بلا غد” (إخراج هنري بركات، 1962)، وما أحدثته من أثر في تاريخ الغناء العربي؛ تُعد مصداقـا لما قاله الموسيقار بليغ حمدي، وكذلك لما ذكره الناقد اللبناني أنطوان بارودي حين تساءل “من كان يتوقع أن يضع فنان لحنا مثل “ليالي الأنس” في العهد الذي ظهرت فيه؟ هذا اللحن الذي خلّد فريد وأسمهان والفالس العربي”[2].

شارك فريد بسهم فيما تحقق للغناء آنذاك من ازدهار عظيم، مما يؤكد صدق مقولة الباحثة الأمريكية فرجينيا دانيلسون التي تقول “فعلت أم كلثوم للإذاعة ما فعله فريد الأطرش للسينما، فصناعة السينما ما كان يمكن أن تكون كما هي الآن لولا إسهام فريد في بنائها”.أنتجت السينما المصرية في فترات مبكرة من عمرها العديد من التجارب الغنائية والاستعراضية، لكنها ظلت تتلمس الخطا بحثا عن سمة خاصة تُميز هذا اللون من الفن، ويرجع الفضل إلى الموسيقار فريد الأطرش في تشكيل هوية الفيلم الغنائي في مصر، بالإضافة لدوره البارز في التلحين والغناء.

 

عبد الوهاب.. البداية

عقب انهيار المسرح الغنائي في مصر وحدوث الأزمة الاقتصادية عام 1930، وفي 14 أبريل/نيسان 1932 قدّم محمد عبد الوهاب أول فيلم غنائي مصري وهو فيلم “أنشودة الفؤاد”.[3]

وبعد نحو 20 شهرا وفي 4 ديسمبر/كانون الأول 1933 عُرض فيلم محمد عبد الوهاب الأول “الوردة البيضاء” من إخراج محمد كريم، ونظرا لأن عبد الوهاب كان في ذلك الوقت مطربا ناجحا ومحبوبا، فقد تدفقت الجماهير على دور السينما لمشاهدته والاستمتاع بأغانيه، وبفن السينما الجديد الذي سحر الجماهير آنذاك.

بعد ذلك توالت أفلام عبد الوهاب الغنائية وهي “دموع الحب” (1935)، و”يحيا الحـــب” (1937)، و”بور سعيد” (1939)، و”ممنوع الحب” (1943)، و”رصاصة في القلب” (1944)، و”لست ملاكـا” (1946). وشاركته بطولة أفلامه من المطربات نجاة علي وليلى مراد ورجاء عبده ونور الهدى.

جاءت الأغنية السينمائية قصيرة حتى لا تعوق التدفق الدرامي لأحداث الفيلم، هكذا خدمت السينما الموسيقى والغناء، وفي المقابل أفادت الموسيقى والغناء فن السينما عندما حققت أفلام عبد الوهاب نجاحا تجاريا ساحقـا كان له أكبر الأثر في تشجيع المنتجين السينمائيين على إنتاج أفلام غنائية لكبار المطربين والمطربات، فقدمت “كوكب الشرق” أم كلثوم فيلمها الأول “وداد” عام 1935 من إنتاج أستوديو مصر، ثم توالت أفلامها “نشيد الأمل” عام 1937، و”دنانير” عام 1940، و”عايدة” عام 1942، و”سلامة” عام 1945، و”فاطمة” عام 1947.

الشاهد أنه حينما أهلّ عقد الأربعينيات من القرن العشرين ودخلت الحرب العالمية الثانية مراحلها الأخيرة؛ كانت السينما المصرية قطعت شوطا كبيرا في طريقها لأن تكون أداة التعبير الفني الأشهر، لتُزاحم بذلك الإذاعة وتُقلص كثيرا من دور المسرح، فجذبت السينما اهتمام أقطاب الغناء في تلك الحقبة، وبتتابع الأفلام الغنائية فإن شكل الأغنية تطور ليلائم وسيلة الانتشار الجديدة.

فريد الأطرش يُطرب جمهوره على أحد المسارح المصرية

 

انتصار الشباب.. ترسيخ الفيلم الغنائي

لكن أغنيات محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهما في أفلام الثلاثينيات والأربعينيات لم تكن سينمائية بمعنى ما تحمله الكلمة من أسس ومفاهيم، لكن مفهوم الأغنية السينمائية ترسّخ وأصبح واضحا عندما قدّم فريد الأطرش وشقيقته أسمهان فيلمهما الأول “انتصار الشباب” الذي أخرجه أحمد بدرخان وعُرِض في دار سينما أستوديو مصر في 24 مارس/آذار 1941.

جاء نجاح “انتصار الشباب” كاسحا وناسخا لكل ما تقدمه من نجاح لقيه أي فيلم غنائي قبله، حيث استمر عرضه الأول سبعة أسابيع كاملة العدد في حفلات اليوم الأربعة. في “انتصار الشباب” قدم فريد 13 عملا غنائيا وموسيقيا شملت قوالب عدة، تضمنت الموّال والطقطوقة والثنائية الغنائية “الدويتو”، والثلاثي الغنائي “التريالوغ”، والأوبريت والمقطوعة الموسيقية. ومن ينسى هنا أغنية “يا بدع الورد” بكل رقتها ورومانسيتها؟

في مرحلة البحث عن هوية جاء فيلم “أحلام الشباب” كاستثمار لنجاح الفيلم الأول، وربما لا يعرف الكثيرون أن مخرج هذا الفيلم هو كمال سليم صاحب فيلم “العزيمة”، وكتب له الحوار بديع خيري، وكان الفيلم الأول الذي تقوم ببطولته مديحة يسري، وحقق نجاحا ليؤكد صواب الرهان على فريد الأطرش.

وجاء الفيلم الرابع في هذه المرحلة “جمال ودلال” عام 1945 كمفاجأة غير سارّة لفريد الأطرش، فكان أول فيلم يفشل تجاريا لفريد. الطريف أن الفيلم كتب له السيناريو وأخرجه الممثل إستيفان روستي، وكان أول تجاربه في إخراج الأفلام الغنائية، وفشل الفيلم على الرغم من استخدام طريقة مُبتكرة للدعاية لأول مرة، وهي توزيع إعلانات الفيلم عن طريق طائرة.

 

حبيب العمر.. باكورة الأفلام الاستعراضية

أما ثاني المراحل فهي مرحلة الأفلام الاستعراضية، فاللافت للانتباه أن فيلم “حبيب العمر” هو واحد من أنجح أفلام هذه المرحلة، ومن أنجح أفلام فريد على الإطلاق وباكورة إنتاجه، وكانت سبقته فكرة اختيار رواية “دعاء الكروان” من أجل أن ينتجها فريد، وقام بالفعل بشرائها من الدكتور طه حسين بعد أن التقى به بصحبة المخرج هنري بركات، وذلك بمبلغ 600 جنيه بعد مفاوضات بدأت بـ1000 جنيه طلبها الأديب المعروف. لكن بعد الشراء وجد بركات أنه من المستحيل تحويل هذه القصة إلى سيناريو يناسب وجود أغانٍ متعددة لفريد الأطرش، فتم تأجيل الفيلم وتكليف بديع خيري بكتابة قصة تصلح لفريد، ليظهر فيلم “حبيب العمر” الذي كان بليغ حمدي يضرب به المثل كنموذج للفيلم الغنائي الناجح.

ويتوقف كثيرون عند أوبريت “بساط الريح” في فيلم “آخر كذبة” (إخراج أحمد بدرخان، 1950) الذي “يجمع بين فنون البلاد العربية كلها من العراق إلى مراكش، بفلكلورها الذي كان محببا جدا للجمهور المصري في الأربعينيات والخمسينيات” كما يقول الناقد سامي السلاموني، كما أن هذا العمل الغنائي “تحول إلى أغنية عربية شمولية تدعو إلى الوحدة” على حد وصف الموسيقار سليم سحاب.[4]

 

أفلام غنائية من الأدب العالمي

أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة الأفلام الغنائية وشملت 13 فيلما، وبدأ فريد فيها بالاستعانة بقصص وروايات من الأدب العالمي والمصري، مثل فيلم “عهد الهوى” عن رواية “غادة الكاميليا” الذي غنّى فيه “حبني قد ما تقدر”، و”أنا وأنت لوحدنا”، وفيلم “الخروج من الجنة” عن قصة لتوفيق الحكيم، وهي المرحلة التي بدأ فيها فريد الأفلام والشخصيات ذات الطابع التراجيدي، وهو ما انتقده الناقد سامي السلاموني بقوله إن فريد يكون في أفضل حالاته عندما يمثل في الأدوار الكوميدية، و”إنه خسر كثيرا من موهبته هذه عندما جنح في أفلامه الأخيرة إلى لعب دور العاشق الرومانسي الولهان الذي يستعذب النكد وظلم الأحبة والأقدار، فبدأ النواح بأشياء من نوع “يا قلبي يا مجروح” و”بنادي عليك””.

في هذه المرحلة يأتي الفيلم الثاني الذي فشل تجاريا لفريد وهو فيلم “ودعت حبك”، وهو أول تعاون لفريد مع شادية ومع المخرج يوسف شاهين. لقد كان السببان الرئيسيان للفشل هما وقوع العدوان الثلاثي خلال الأسبوع الأول لعرض الفيلم، مما أدى إلى إغلاق دور السينما، ولم يُقبِل الجمهور على مشاهدة الفيلم بعد إعادة عرضه، وذلك لأن نهاية الفيلم كانت وفاة فريد، وهو ما لم يتقبله الجمهور.

حقق فيلم “لحن الخلود” نجاحا كبيرا في عرضه الأول، وتذكر الجمهور أغنيات مثل “جميل جمال” التي يقول الناقد مجدي الطيب عنها “المؤكد أن أغنية جميل جمال التي شارك بالغناء فيها فاتن وماجدة، تحولت إلى أيقونة ليس فقط بسبب جمال اللحن والأداء والكلمات، وإنما بقدرة بركات على تكوين كادر ينطق بالسحر، ويقول المعنى دون الحاجة إلى جملة جوار واحدة”.[5]

جاء فيلم “من أجل حبي” ليحمل معركة من نوع آخر، إذ استقبله محرر الصفحة الأخيرة في “الأهرام” بنقد حاد بطريقة غير مُعتادة في أيام عرض الفيلم الأولى، وهو ما أرجع البعض أسبابه للمنافسة الشرسة التي كانت تدور بين فريد وعبد الحليم وعبد الوهاب وأم كلثوم، والتي كانت تُستخدم فيها أسلحة متعددة.

كان سلاح فريد في الرد هو صلاح سالم عضو مجلس قيادة ثورة يوليو 1952، والذي كان يشغل منصب رئيس تحرير جريدة “الجمهورية”، وتصدرت صورته الصفحة الثالثة وهو واقف بين فريد وماجدة (بطلة الفيلم) في حفل افتتاح العرض الأول، وكتب سالم مقالة عن الفيلم بعنوان “من أجل حُبي.. الفيلم الغنائي العربي كما يجب أن يكون”.

 

المرحلة اللبنانية.. آخر مراحل فريد

تأتي المرحلة الرابعة والأخيرة من مراحل أفلام فريد بعنوان “المرحلة اللبنانية”، وهي التي قدّم فيها أفلامه الثلاثة الأخيرة “الحب الكبير” و”زمان يا حب” و”نغم في حياتي”.

هناك أكثر من سبب لمغادرة فريد مصر إلى لبنان، منها المشكلات الإنتاجية التي واجهها فيلم “الخروج من الجنة”، ومنها المضايقات الأمنية في تلك الفترة، إذ نشر الصحفي ضياء الدين بيبرس مقالة عام 1993 بعنوان “المخابرات طلبت من بنك القاهرة عام 1961 معلومات عن مصادر إنفاق فريد الأطرش”.

جاء الفيلم الأخير لفريد “نغم في حياتي” (إخراج هنري بركات، 1975) وسط ظروف صعبة، فقد قامت مصلحة الضرائب في مصر بتقدير ضرائب متأخرة عليه بقيمة 120 ألف جنيه، مما أدى إلى الحجز على إيرادات أفلامه وأسطواناته، فبادر إلى افتتاح ملهى ليلي في بيروت باسمه.

في تلك الفترة تدهورت صحته لدرجة أنه لم يقدر على حضور العرض الخاص بفيلمه “نغم في حياتي”، والذي غنّى فيه أغنية “حبينا”، وأرسل شقيقه فؤاد الأطرش لحضور العرض الخاص يوم الخميس 26 ديسمبر/كانون الأول 1974، ليفارق الحياة في هذا اليوم من دون أن يشاهد فيلمه الأخير.

تعاون فريد الأطرش مع أبرز الموزعين الموسيقيين مثل فؤاد الظاهري وأندريا رايدر وعزيز صادق
القضايا الفنية التي عالجها فريد الأطرش في أفلامه السينمائية تمثلت فيها وجهة نظره وخلاصة تجاربه

 

الفيلم الغنائي العربي.. مجد مُحقق

فريد الذي نعرفه عن طريق التمثيل والغناء والتلحين لنفسه لم يكتف بذلك، لكنه قدّم الموسيقى التصويرية لـ20 فيلما روائيا وأربع مقطوعات موسيقية، وتعاون مع أبرز الموزعين الموسيقيين مثل فؤاد الظاهري وأندريا رايدر وعزيز صادق، بالإضافة إلى تقديمه مجموعة من أشهر وأنجح الأوبريتات الغنائية السينمائية التي أصبحت من العلامات التي لا تُنسى.

أما القضايا الفنية التي عالجها فريد الأطرش في أفلامه السينمائية وتمثلت فيها وجهة نظره وخلاصة تجاربه، فهي تتمحور في عشق الموّال وانحيازه لصيغة الموّال في معظم أغانيه بين الأصالة والمعاصرة، فقد ساهمت أفكاره في تطوير الأغنية السينمائية وصنع مجد الأوبريت السينمائي بما قدمه من أوبريتات غنائية، وبذل جهودا كبيرة في وضع موسيقى تصويرية عربية.

إن رصد بيانات أعمال فريد الأطرش السينمائية وأعماله الغنائية والموسيقية التي ظهرت في الأفلام بأنواعها المختلفة، ومنها “انتصار الشباب”، و”ما اقدرش” (1946)، و”حبيب العمر” (1947)، و”بلبل أفندي” (1948)، و”عفريتة هانم” (1949)، و”آخر كذبة” (1950)، و”تعالى سلّم” (1951)، و”عايز أتجوز” (1952)، و”لحن الخلود” (1952)، و”أنت حبيبي” (1957)، و”ماليش غيرك (1958)، و”حكاية العمر كله” (1965)، و”نغم في حياتي” (1975) وغيرها؛ يعطينا فكرة واضحة عن مدى إسهام فريد في تحقيق مجد الفيلم الغنائي العربي.

_______

 

[1] (بليغ حمدي، “دفاع عن الضياع الحضاري”، في “فريد الأطرش بين الفن والحياة” دار المعارف، القاهرة، 1975، ص 65-66)
[2]  (أنطوان بارودي، فريد الأطرش تغنى بالموت، مجلة “الشبكة”، بيروت، 6 يناير 1975، ص 22-23)
[3] (قام بالتمثيل فيه جورج أبيض وعبد الرحمن رشدي ونادرة وزكريا أحمد، وهو من إخراج ماريو فولبي، وسيناريو إستيفان روستي وإدمون نحاس، حوار خليل مطران، وتأليف ن لازار، وإنتاج نحاس “سيفنكس فيلم”)
[4]  (سليم سحاب، أعلام موسيقية، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2014، ص 171- 172)
[5]  (مجدي الطيب، بركات: زعيم المحافظين في السينما المصرية، مطبوعات الدورة 36 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، القاهرة، 9- 18 نوفمبر 2014، ص 40)