“فورمان” .. شكل آخر للجنون

المخرج التشيكي "ميلوش فورمان"
 
آية عبد الحكيم
 
حين انتهكت الدبابات السوفيتية هدوء مدينة براج عاصمة تشيكوسلوفاكيا في عام 1968 كان المخرج ميلوش فورمان Milos Forman في باريس للقاء أحد منتجي فيلمه التالي. (فورمان) الذي كان قد أخرج للسينما التشيكية – حينها – ثلاثة من أهم أفلام تلك الفترة، واستطاع الوصول باثنين منها للأوسكار، لم يستطع العودة لبلاده بعد أن فصلته (مؤسسة السينما التشيكوسلوفاكية) التي كان يعمل لحسابها بعد ادعائها أنه خرج من البلاد دون تصريح. هكذا وجد نفسه لاجئًا في الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها تبدأ مرحلة جديدة في حياة المخرج الشاب الذي نشأ طفلاً تحت الحكم النازي الذي اغتال والديه، ثم شابًا تحت نظام شمولي يقيدّه كمبدع ويطالبه بأفلامٍ دعائية للحزب الشيوعي، تميل للمبالغة وتصوير حياة مثالية لا توجد على أرض الواقع الذي يحياه، ثم يمنع أفلامه من العرض. إنه الآن في بلد الحريات ويمكنه تقديم ما شاء. هكذا كانت أغلب اختياراته لأشخاصٍ متمردين، خارجين عن الإطار التقليدي السائد لتلك الأزمنة والظروف التي يعيشونها.
 
فيلمه الأمريكي الأول هو الرحيل – Taking Off عن مراهقة تذهب إلى مسابقة أداء دون أن تخبر والديها اللذين يظنان أنها هربت، إذ كان هروب المراهقين من عائلاتهم والتحول إلى حياة (الهيبيز) في تلك الفترة ظاهرة رائجة، فماذا فعل والدا الفتاة؟ لقد قررا – كغيرهما من عائلات الهاربات الصغار – أن يسهرا ويسكرا ويجربا متع الحياة إلى آخرها. كان (فورمان) يقدم لجمهور أمريكا فيلمًا على الطراز التشيكي، وهو ما لم يقبله مشاهدوه، فسقط الفيلم تجاريًا، وكان لابد من إعادة التفكير فيما يقدمه لجمهوره الجديد، فخرج بعد أربعة أعوام بفيلمه الأشهر أحدهم طار فوق عش الوقواق – One flew over the Cuckoo’s nest .
 
يرجع مشروع الفيلم لعام 1966 حين التقى (فورمان) بالممثل والمنتج الأمريكي (كيرك دوجلاس) في براج. كان (دوجلاس) قد شاهد فيلم فورمان حب الشقراء – Loves of a blonde والذي نال إعجابه، فاقترح عليه أن يحوّل رواية (كين كايسي) إلى فيلم، وهو ما تحمّس له (فورمان) كثيراً. لكن الرواية التي أرسل (دوجلاس) نسخة منها لبراج لن تصل ليدي المخرج أبداً لأن الرقابة احتجزتها.
بعدها بتسعة أعوام سيتلقي (فورمان) بـ (مايكل دوجلاس) الذي يقدم له نفس المقترح، دون أن يعلم أن أباه سبقه. حينها كان (فورمان) متوقفًا عن العمل بعد فيلم (الرحيل)، لكنه رغم ذلك لم يقع تحت ضغط النجاح التجاري الذي تجبره عليه ستوديوهات الإنتاج الأمريكية، فبالنسبة له هذا الضغط أقل صعوبة بكثير من الضغط السلطوي الذي عاناه مع أفلامه التشيكية الأولى.
 
لقطة من فيلم "أحدهم طار فوق عش الوقواق"
 
هكذا سيقدم (فورمان) فيلم One flew over the Cuckoo’s nest في عام 1975 وسيحظى من خلاله على انتباه هوليوود بالكامل، حتى أن الفيلم سيحصل على الخمسة جوائز الكبرى في الأوسكار. ورغم ما قد ينتقده البعض من وضوح التشبيه والمقاربة بين المتمرد (ماكميرفي) والممرضة المتسلطة (راتشيد)، إلا أن أحدًا لا ينكر مدى جودة الفيلم. لم يعد الأمر يدور حول قصة الهندي الصامت في مصحة للأمراض العقلية، لكنه تحوّل إلى رؤية متكاملة لهؤلاء المرضى المختلفين المكبلين بالأدوية و المساومات التي تسلبهم أي قدرة على الاعتراض على سلطة القمع. منح (فورمان) فيلمه طابعًا واقعيًا مماثلاً لذلك الذي اعتاده في أفلامه الأولى، لكنه استطاع هذه المرة الحفاظ على عناصر جذب المشاهد الأمريكي الذي لم يجذبه فيلمه السابق، وبالطبع يعود جزء كبير من الفضل إلى بطل الفيلم (جاك نيكلسون)  الذي جلس يطلق صافرات التحية والتشجيع لـ (فورمان) وهو يتسلم أوسكاره الأول متفوقًا على أهم مخرجي هذا العام (فدريكو فيليني)، (ستانلي كوبريك)، (سيدني لوميت)، و(روبرت ألتمان).
في خطاب تقبلّه للجائزة يمازح (فورمان) أعضاء الأكاديمية معللاً فوزه بالجائزة بأنه قضى بالعام الماضي وقتًا أكثر من الآخرين في مصحة أمراض عقلية.
 
لكن أوسكاراته التالية لن تكون لقضائه وقتًا بالمصحات العقلية، بل بالقصور وصالات الأوبرا في موطنه (براج). تاريخيًا لا توجد قرائن كافية عن العلاقة بين الموسيقيين الإيطالي (أنطونيو ساليري) والنمساوي (وولفجانج أماديوس موتسارت)، لكن المسرحية التي كتبها (بيتر شايفر) وقُدمت على مسارح لندن عام 1979 صنعت دراما خاصة عن الصراع بين القديم التقليدي متمثلاً في (ساليري) وبين المتمرد الصاخب (موتسارت). شاهد (فورمان) المسرحية وقرر أنها مشروعه القادم، لكن صناعة فيلمٍ عن الموسيقى الكلاسيكية لم يكن مقترحًا مقبولاً على الصعيد التجاري، خاصة وأن تكلفة الملابس وتصميم عروض الأوبرا ومواقع التصوير لن يكون بالقليل، لكن (فورمان) صنعها مجدداً وحقق نجاحًا تجاريًا وجماهيريًا مدويًا وحظى فيلمه آماديوس – Amadeus باحتفاءٍ بالغ وفاز بثماني جوائز أوسكار. (ساليري) الذي جسده الفيلم عفيف نذر عفتّه للرب، في مقابل أن يكون أنجح وأشهر موسيقيي عصره، يبحث عن الخلود عبر موسيقاه، لكن ظهور (موتسارت) بمؤلفاته العبقرية يهدد ذلك الخلود. يشاهد (ساليري) نجاحه ينزوي أمام معزوفات (موتسارت) الذي يمثل كل ما يمكن له كراهيته: الغرور، العند، التحدي الصارخ للسلطة والتقاليد، وحتى قواعد التأليف الموسيقي السائدة، ورغم ذلك فموسيقاه ذات جمال آخاذ لانهائي. يتعجب ساليري: كيف لا يرى في هذا الجمال عظمة الإله الذي نذر نفسه له، وكيف لا يشعر بالخذلان ولا يمسّه الجنون أمامه؟
 
لقطة من فيلم "آماديوس"
 
على غرابة الأمر، فالفيلم الذي صوّر (ساليري) كمجنون يهذي في مصحة للأمراض العقلية ويعترف بأنه قتل (موتسارت)، كان هو السبب في المزيد من البحث عن أعمال (ساليري) وإعادتها للأضواء بعد قرنين من الزمان. 
 
يعود (فورمان) لمتمردّيه عام 1996 بفيلم (الشعب ضد لاري فلينت). و (لاري فلينت) هو ناشر ومؤسس لمجلة إباحية أمريكية رفُعت ضده عدة قضايا، فحوّل هو الأمر إلى معركته الخاصة من أجل مساحة حرية تعبير أكبر وسقف أعلى للمحظورات، ووصل بقضيته إلى المحكمة العليا. لكن الفيلم الذي يناقش حرية الرأي ويُظهر (لاري فلينت) يتخبط بين الجنس والإباحية، والدين والحريات الشخصية، لم يحظ بقبول الجماهير ممن رأوه يعلي من شأن (لاري)، وكأن (فورمان) اختاره ليصنع منه مثلاً يحتذى به، لا ليحتفي بما أقرّته المحكمة العليا وما حُرم هو منه كصانع أفلام حين كان في التشيك. لكن وبقدر الآراء الغاضبة من الفيلم، لن ينكر أحد أن (فورمان) قدم مزجًا مثاليًا بين الدراما والكوميديا التي صنعها (وودي هارلسون) بآداءه المميز، وصنع صورة من الواقع هذه المرة لصدام التمرد والمجتمع لا تقل عن صدام (مورفي) والممرضة (راتشيد).
 
صدام (فورمان) مع المشاهدين جعله في فيلمه التالي يختار شخصية كوميديان التليفزيون غريب الأطوار (آندي كاوفمان). اشتهر (كاوفمان) في السبعينيات كنجم تليفزيون كوميدي بارع، لأدائه المتفرّد والغريب، فهو يتعمد تغيير صوته وشكله ويستفز جمهوره أحيانًا لأبعد الحدود. قد يظنه البعض ممثلاً سمجًا، والبعض يراه عبقريًا لم يفهمه أحد. يعرض فيلم رجل فوق القمر – Man on the Moon كلا الرأيين بالإضافة إلى الجانب الشخصي الذي لا يعرفه أحد لـ (كاوفمان)، مانحًا الفرصة الذهبية لممثله (جيم كاري) ليبدع في تجسيد الشخصية بغرابتها ودراميتها.
 
سلسلة الشخصيات الواقعية التي ينتقيها (فورمان) تنتهي عند الرسام الإيطالي (فرانشيسكو جويا) في فيلم أشباح جويا – Goya’s ghosts  مثلما حدث في فيلم (آماديوس) يضع (فورمان) هذه المرة الكثير من الدراما غير الحقيقية ليخلق خطًا متفرعًا بعيداً عن حياة (جويا)، ما بين محاكم التفتيش الإسبانية، والثورة الفرنسية، بين أكاذيب خدمة الدين والرب بمعاقبة كل مشكوكٍ في أمره وادعاءات الحرية والمساواة التي بنيت فوق جثث المواطنين الإسبان والجنود الفرنسيين على حد سواء. ومرة أخرى يمنح (فورمان) مشاهديه نافذة فنية على أعمال (جويا) التي خلّدت تلك الأحداث المضطربة.
 
بأفلامه الواقعية في التشيك، ثم أفلامه المتمردة في أمريكا، نجح (فورمان) في أن يقدم أفلامًا متزنة تمزج بين الحقيقة والدراما. لا يتخذ موقفًا واضحًا من أبطاله غير المثاليين، لكن يترك الحكم لجمهوره الذي يحب أو يكره كيفما يشاء، لكنه في النهاية سيستمتع بما شاهده ويبقى تقديره لـ (فورمان) قائمًا.
 

فوز فورمان بالأوسكار عن فيلم آماديوس