فيدل كاسترو عدو أمريكا اللدود.. قائد وطني أم دكتاتور مستبد؟

عدنان حسين أحمد

 

يميل المخرج تريستان كوين إلى زجّ آرائه في الأفلام الوثائقية التي ينهمك في إنجازها، تمامًا كما يفعل المخرجون الفرنسيون الذين يفضّلون الوقوف على الحياد مكتفين بعرض الحقائق كما هي، تاركين للمتلقي أن يقول الكلمة الفصل فيما يراه ببصره ويتمثله ببصيرته. ويبدو أن كوين قد ذهب أبعد من ذلك حينما استعار -بوعي أو من دون وعي- نظرية رولان بارت القائلة إن “ولادة القارئ” تقتضي بالضرورة “موت المؤلف”، لكنه أبدل كلمة “القارئ” بالمُشاهِد و”المُؤلف” بالمُخرِج، فصارت “ولادة المُشاهد تقتضي بالضرورة موت المُخرِج”.

تُرى كيف سنقيّم نحن المُشاهدين فيلم تريستان كوين المعنون “فيدل كاسترو.. عدوّ أميركا”، وهل وقف المُخرج على الحياد فعلا ولم يدسّ أنفه في معترك القضايا الصغيرة والكبيرة التي أسست متن الفيلم وشكلت بنيته الداخلية العميقة؟

لا شك في أن كوين مثل أي مُخرج ناجح يعوّل على الشكل والمضمون، وما نعنيه بالشكل هو الأسلوب الذي يتّبعهُ المخرج في بناء فيلمه الوثائقي القائم في مجمله على تقنية “الرؤوس المتكلمة” التي تتحدث عن فيديل كاسترو، وتقيّم تجاربه النضالية والسياسية والفكرية. كما أفاد المخرج من الصور الأرشيفية التي تغطي حقبة قرن أو يزيد، ليكشف لنا طفولة فيدل وصباه وسنوات شبابه ومراحل تطوره الفكري، والتي حوّلته من ابن لعائلة ثرية إلى مناضل قوي لا يتورع عن مهاجمة الثكنات العسكرية التي بثها الدكتاتور باتيستا في عموم المدن الكوبية، أما المضمون فنعني به مجمل الثيمات الرئيسية والفرعية التي انتظمت في نسق بَصَري محبوك منذ مُفتتح الفيلم حتى منتهاه.

وعلى الرغم من أنّ بعض المخرجين الوثائقيين يراهنون على جمالية الصورة كما هو الحال في بعض أفلام الطبيعة، فإن البعض الآخر يعوّل على المضمون ويضعه في مقدمة اهتماماته الرئيسية، وكأن هذا النمط من المخرجين الوثائقيين يريدون القول إنهم معنيون بالفكرة قبل الصورة، وبالخطاب اللغوي قبل اللغة السينمائية، أما تريستان كوين فهو يجمع بين الخطابين اللغوي والبصري في آن معًا.

لا شك في أن مضمون هذا الفيلم واسع وعميق، فهو لا يتمحور فقط على السيرة الذاتية لفيدل كاسترو، وإنما يتشظّى باتجاهات مختلفة تلامس كل شيء تقريبًا بدءًا بالتاريخ، ومرورًا بالنواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وانتهاءً بالحروب المحلية والإقليمية والكونية.

 

القائد الثوري.. غزل تحول إلى عداء

قد يبحث الناقد الحصيف عن عُقدة هذا الفيلم أو مُهيمنته النصيّة، ولا يجد أفضل من جملة فيدل كاسترو “أدينوني، لا يهم، فالتاريخ سوف يغفر لي”. لعل أهمية هذه الجملة بوصفها “ثيمة أساسية” للفيلم تعالج الفرضية التي طرحناها في مستهل هذا المقال، وتُثبت في خاتمة المطاف نظرية “ولادة المُشاهد” الذي سيحسم كل شيء ما أن ينتهي من مشاهدة هذا الفيلم الذي يرتقي إلى مستوى الوثيقة الدامغة فعلاً.

“فيدل كاسترو.. عدوّ أمريكا” (Fidel Castro: America’s Nemesis) ينطوي على ثيمة مهيمنة لا تقل أهمية عن سابقتها، فكاسترو ناصبَ الإدارة الأميركية عداءً مُستحكمًا، ولم ينحنِ لكل العواصف الإمبريالية التي هبّت عليه على مدار خمسة عقود، بينما كان الشعب الأميركي ينظر إلى كاسترو كبطل ومناضل ثوري قبل أن يتسلم سُدّة الحُكم، بل إن ريتشارد نيكسون نائب الرئيس الأميركي آنذاك كان يعتقد أيضًا أن كاسترو “قائد عظيم”، لكن هذا الغزَل لم يدم طويلاً إذ سرعان ما حلّ محله عداء مقيت بلغ مستوى التآمر ومحاولات الاغتيال والغزو المسلّح بغية الإطاحة بالدكتاتور الجديد الذي خطف الجزيرة بمن عليها في رابعة النهار.

ربما يعرف القرّاء أشياء كثيرة عن كاسترو، فقد قرؤوا سيرته الذاتية وشاهدوا كل الأفلام الوثائقية التي أُنجزت عنه، لكنهم يبحثون دائمًا عن المعلومات المثيرة التي حُجِبت عنهم طوال خمسين عامًا، وربما يوفر الفيلم جانبًا من هذه المعلومات المُغيّبة التي تتعلق به شخصيًا “كثمرة لزواجٍ غير شرعي” أول الأمر لكن والديه تداركا الأمر وعززاه لاحقًا بأوراق رسمية، وكذلك حياته العاطفية التي تُوجت بزيجة واحدة من مارتا دياز بارلات التي أنجبت له فيديليتو، لكنه طلّقها وهو في السجن حينما أيقن أنها كانت على علاقة بنظام الدكتاتور باتيستا. أما علاقته الثانية فهي مع سيليا سانشيز التي كانت ذراعه اليمنى وسكرتيرته وأمينة سرّه، لكن الساردة الصوتية في هذا الفيلم تصف هذه العلاقة بـ”الشبيهة بالزواج”، وفي السياق ذاته يدعونا المخرج كمتلقين عضويين أن نبحث عن طبيعة العلاقة التي ربطت كاسترو بعشيقته ناتاليا التي أنجبت له ابنته “ألينا” التي هربت من كوبا بسبب دكتاتورية الوالد وقمعه لمعارضي نظامه الاستبدادي.

زوجة فيديل كاسترو ميرتا دياز بالارت التي انفصلت عنه عام 1955

 

كاسترو.. محطات الإنسان الدكتاتور

يبدو السياق السردي البصري مهمًا لجهة نسيج القصة بثيماتها الرئيسية والمؤازرة، ولا أجد ضرورة في تتبعها جميعًا لأنها معروفة للغالبية العظمى من القرّاء، لكننا سنتوقف عند بعض المحطات التي تسلّط الضوء على شخصية كاسترو كإنسان من جهة، وكدكتاتور من جهة أخرى.

شكّلت الدراسة بكل مراحلها الابتدائية والثانوية والجامعية شخصية كاسترو الثقافية، فمن مدرسة الجزويت اليسوعية في سانتياغو تعلّم الشدّة والانضباط، وقرر أن يقود كوبا مثل مدير مدرسة أو ناظر صارم في أقل تقدير، وفي مدرسة “بيلان” الخاصة في هافانا أدرك الفوارق الطبقية وكان يزدري الأغنياء الذين يرون فيه ريفيًا فظًا يرتدي ملابس باهظة الثمن، فلا غرابة أن يستهدف هذه الطبقة ويشرّد أبناءها في المنافي الأميركية، وفي الجامعة تعلّم فن الخطابة وتعمّق في دراسة القانون، وحوّل بعض مرافعاته إلى كرّاس شبه مقدّس في صفوف الثوار والمناهضين لنظام باتيستا الاستبدادي.

الرئيس إيزنهاور أمر بعملية لإسقاط حكومة كاسترو في عام 1960

 

الثورة الكوبية.. كاسترو وغيفارا

يستمتع المُشاهد بمتابعة شخصية شديدة المراس مثل كاسترو الذي يتنقل بين ميامي وبنسلفينيا والمكسيك، ليعود إلى بلده بعد أن تعرف على الطبيب الأرجنتيني تشي غيفارا الذي سيلعب دورًا محوريًا في الثورة لكنه يواجه مصيره المحتوم بعد أن يسقط في كمين نصبته المخابرات المركزية الأميركية في بوليفيا، ليُقتل في اليوم الثاني وتظهر جثته المسجّاة في مختلف وسائل الإعلام المحلية والعالمية. لا يقف المخرج إلى جانب هذه الشخصية أو ضدها كما يفعل مع مجمل شخصيات الفيلم، لكنه يترك لنا حرية الحكم فيما إذا كان غيفارا ثائرًا حقيقيًا أم مُتهمًا بإبادة المُعارضين وتصفية المناوئين للثورة؟

يؤرِّخ هذا الفيلم للثورة الكوبية، ويصوِّر الذهنية التي قادَ بها كاسترو البلاد، فعلى الرغم من انتصاره في معركة “خليج الخنازير” فإنه لم ينتصر على الحصار الاقتصادي الذي فرضته الإدارة الأميركية على الجزيرة الكوبية، كما أنه شعر بالتهميش حينما قرر الاتحاد السوفياتي سحب صواريخه المحملة بالرؤوس النووية من كوبا مقابل أن تسحب الولايات المتحدة صواريخها من تركيا.

ارتبط كاسترو بعلاقات شخصية حميمة مع بعض الأصدقاء نذكر منهم الكاتب والصحفي نوربيرتو فوينتس الذي عُرف بنتاجاته الأدبية المتعددة من بينها “همنغواي في كوبا” و “السيرة الذاتية لفيدل كاسترو”. وعلى الرغم من قوة الصداقة التي ربطت بينهما، فإن فوينتس حُوكم وسُجن، لكنه امتنع عن الطعام فسمح له بمغادرة البلاد وهو يعيش في أميركا الآن من دون أن ينتقد صديقه العزيز كاسترو، أو يشجب سياسته المتطرفة التي أفضت بالنتيجة إلى مغادرة سدس سكّان الجزيرة إلى أميركا، وذلك بمجرد أن سمح لهم بالهجرة مُحطمًا القيود الحديدية التي فرضها بنفسه على أبناء جلدته.

ظِلّ فيدل ما زال يخيم على العاصمة الكوبية “هافانا”

 

الدكتاتوري المُنقذ.. هل سيغفر له التاريخ؟

لم تشمل التصفيات الجسدية خصومه ومعارضيه فقط، وإنما امتدت إلى بعض مؤازريه من الضباط الكبار أمثال الجنرال أرنالدو أوتشوا الذي أُلصقت به تهمتا الخيانة وتهريب المخدرات، بينما يعرف الكوبيون أجمعهم أن هذا الجنرال البطل هو قائد كوبا المُرتقب الذي وُضع له حد قبل فوات الأوان.

وبما أن دوام الحال من المُحال، فقد تدهورت صحة كاسترو عام 2006، وأُجبر على إجراء عملية جراحية في أمعائه أعاقته عن أداء مهامه الاعتيادية، وبدأ يفقد طاقته يومًا بعد يوم إلى أن وافق على تسليم السلطة إلى أخيه راؤول في فبراير 2008، لتنطوي صفحة هذا الرجل بعد خمسين عاما من العداء للإدارة الأميركية.

لم يزجّ المخرج تريستان كُوين آراءه الشخصية في الفيلم وإنما ترك لبضعة مُحاوَرين أن يرسموا النهاية المفتوحة، ويصرِّحوا بآرائهم وأفكارهم الشخصية من دون أية ضغوط خارجية، أما الجواب الحاسم والأخير فهو من حصة المتلقي الذي يشاهد الفيلم ويستطيع أن يقول فيما إذا كان فيدل كاسترو قائدًا وطنيًا أم دكتاتورًا مُستبدًا؟

لنأخذ نماذج بعض الاستنتاجات التي توصل إليها بعض المشاركين في هذا الفيلم وهم 17 شخصية، من بينهم روبرت باستور مستشار الأمن الوطني الأميركي الذي قال “التاريخ سيغفر له لكن ملف حقوق الإنسان هو الوحيد الذي سيعترضه”. وبما أنه سجنَ الآلاف وهجّرَ سدس شعبه وارتكب فظاعات لا يجرؤ أحد على ارتكابها، فإن باستور يقول بالفم الملآن “أنا لا أغفر له، ولا أعتقد أن التاريخ سيغفر له.” ثم يمضي في تعزيز هذا الرأي بالقول “إن الناس سيذكرون ما فعله في التعليم والصحة والاقتصاد وصراعه الطويل مع أمريكا، التاريخ سيقول إنه أنقذ كوبا من الدكتاتورية، لكن الشعب لن يغفر له دكتاتوريته”.

أما طارق علي الكاتب والصحفي البريطاني من أصول باكستانية فقال عن كاسترو “إنه واحد من عمالقة القرن العشرين، وشخصية رئيسية في أميركا الجنوبية وبقية أنحاء العالم”. فيما ذهب المخرج الأميركي أوليفر ستون إلى القول بأن كاسترو “قد ربح، وهو يعرف أنه قد ربح، فهم لم يقتلوه ولم يُرهبوه، لم ينحنِ أبدًا، لقد صمد وماتَ واقفًا على قدميه من دون أن يركع على ركبتيه”، أما مسك الختام فهو لنوربيرتو فوينتس صديقه الحميم الذي قال “أنا لست عدوًا للثورة، كيف يمكنك أن تكون عدوًا لهزة أرضية؟”.

تكمن أهمية هذا الفيلم بكل تأكيد في النهاية المفتوحة التي تخلى عنها المخرج بإرادته وقَبِل بـ”الموت” مقابل “ولادة” المُشاهِد العضوي الذي يتفاعل مع تفاصيل الفيلم، ويصل إلى الخلاصة التي يراها مناسبة وهو يستمتع بالخطابين اللغوي والبَصَري في آنٍ واحد.