فيروز.. الصوت حين يصلي

ياسر ثابت

 

تغني وكأنها تصلي، تُبكيك من دون أن تبكي، تصنع خليط البهجة والألم، الحزن والأمل.. تحلق وحدها في المخيلة، متفردة فلا ينازعها أحدٌ المحبة، ولا يضاهيها أحد الموهبة. صاحبة ذلك الصوت الملائكي، تشدو وكأنها نور من السماء، تتدفق أشعته إلى القلب فتضيء ظلمة المشاعر، وتؤنس وحشة الوحدة. اختارت الأغنية بالغة القصر قالبًا تعبيريًا لشدوها، ليست بالمُشهِرةِ لأنوثةٍ شهرزادية طاغية، وهي من تجلَّلت بحضور ملائكي شفيف لا يكاد يستدعي أيّ تصنيف “جندري”.

كل ما عُرفت به من ألقاب واشتُهرت به من أوصاف يجعلها تلك العالية النورانية بعيدة المنال، فهي “جارة القمر” و”سفيرتنا إلى النجوم”. قيل صوتها من ضوء ونبراتها من فضة، وعالمها الشعري حلم يقظة يحكي قصة حُبٍّ غير مكتملة، تبكي على أطلال فردوس مفقود في بيروت وفي القدس وعلى ضفاف نهر الأردن وفي وادي بردى، وفي بغداد التي كان يغسل وجهها القمرُ. هي صوت الفردوس المشرقي الحزين المستسلم لمصيره الممزق على مر عقود ما بين احتلال فلسطين وحروب لبنان وغزو العراق وإبادة سوريا.

“فيروز” حاضرة في الوجدان العربي، ابنة شجرة الأرز تسكن كل القلوب العربية. عندما سألوا الموسيقار محمد عبد الوهاب عن رأيه في عدد من الأصوات أجاب باستفاضة وإعجاب، وحين وصلوا إلى محطة فيروز توقف وقال “أنتم الآن انتقلتم من الحديث عن الأصوات البشرية إلى الملائكة.. وهل أحد يملك أن يقول رأيا في الملائكة”؟! سطرت المطربة اللبنانية فيروز مسيرة فنية وإنسانية ممتدة قدمت خلالها نحو 800 أغنية يحفظ كل عشاق الغناء الكثير منها.

صورة تجمع المطربة اللبناية فيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب الذي وصف صوتها بالملائكي

 

فيروز.. الفتاة السريانية الفقيرة

وُلدت فيروز في مدينة بيروت في لبنان في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1935، اسمها الحقيقي “نهاد رزق وديع حداد”، بدأت الغناء وهي في سن الخامسة، ولقيت رواجًا واسعًا في العالم العربي والشرق الأوسط والعديد من دول العالم، وهي من أفضل الأصوات العربية في عصرنا الحديث.

كانت “نهاد” (أو فيروز) هي الطفلة الأولى لأسرة سريانية كاثوليكية فقيرة الحال، تسكن في زقاق البلاط في الحي القديم القريب من العاصمة اللبنانية. كان الجيران يتشاركون مع أمها ليزا البستاني أدوات المطبخ في ذلك البيت المؤلف من غرفة واحدة، أما الأب الهادئ الطباع القادم من ماردين في تركيا الآفلة، فكان يعمل في مطبعة تسمى “لو ريون”.

كانت فيروز تُحِبُّ الغناء منذ صغرها إلا أن الأسرة لم تكن تستطيع شراء جهاز راديو، فكانت تجلس إلى شباك البيت لتسمع صوته السحري قادمًا من بعيد حاملا أصوات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وأسمهان وليلى مراد.

ألَّف لها حليم الرومي -والد المطربة ماجدة الرومي وهو مدير الإذاعة اللبنانية- أول أغانيها. حليم الرومي كان قادمًا أيضًا من فلسطين، وكل غريب للغريب نسيب، فنان متقشف منضبط وحزين المعالم من آثار النكبة وبرد التشرد. وفي بيروت التي يأتي إليها الفازعون والحالمون والفقراء من الجنوب ومن ماردين ومن أرمينيا ومن كردستان ومن بقايا آشور السابقة؛ يصنع الغرباء لها مجدًا لا يعرفون أنهم يطرزونه حول عنقها الجميل مثل عقد من الخرز الأزرق. يصغي حليم الرومي إلى البنت السريانية الكئيبة الملامح، ويقول لها بأسلوبه المتقشف الجامد المكتئب بالدوار من وطن إلى ملجأ، يقول لها دون شيء من ابتسامة “نهاد حداد اسم لا يعني شيئًا لأحد، سوف تسمين “فيروز” وسوف تكونين “فيروز”، وسوف تخرجين من الكورس من أجل أن تكوني النغم الجديد في هذه الأمة”.

 

فيروز.. المذاق الرحباني الساحر

كانت انطلاقتها الجدية عام 1952 عندما بدأت الغناء لعاصي الرحباني، وأخذت الأغاني التي غنتها في ذلك الوقت تملأ جميع القنوات الإذاعية، ليتسع نطاق شهرتها في العالم العربي منذ ذلك الوقت. كانت أغلب أغانيها آنذاك للأخوين عاصي ومنصور الرحباني اللذين يشار إليهما دائمًا بـ”الأخوين رحباني”.

كان السمو المعنوي واضحًا في إطلالاتها اللحنية. ففي المؤسسة الرحبانية التي احتضنتها، تَقرر أن تغني انطلاقًا من الطبقات الصوتية العليا، يتخير لها “منصور” نغمات غربية جديدة، يغلفها عاصي بغلالة شرقية محببة، ويضيف إليها فيلمون وهبي كنوزًا من المقامات العربية، ويهديها زكي ناصيف -وإن بعد تردد- لآلئ لحنية لا تُنسى، ليرتقي الصوت الفيروزي مدارج طبقات عليا لم تُطرق من قبل، فقد كانت هناك في بيروت حاجةٌ للتمايز عن مؤسسة موسيقية كلاسيكية عملاقة في القاهرة تُدعى “أم كلثوم”.

وبالمثل، حمل المعجم الشعري الفيروزي في تجلياته الرحبانية والتراثية ومع سعيد عقل وجبران ما يبرر هذا الافتتان بالطبقات الصوتية العليا، ففي مفرداتها ستجد دوما مسافات وطرقات وأشواقًا وتوقًا للقاء، وبحثًا لا ينتهي، ومناداة لغائب وفراقًا بعد عناق، ومطالبة مستميتة بالتمسك بالذكرى وبمدافعة النسيان. “إوعى تنسيني” يكررها “حنا السكران” -أشد ألحانها بهجة- وهو يطل باكيًا “على حيطان النسيان”.

أما الانتظار فهو الثيمة التي لا تكاد تخلو منها أغنية لها، فانتظار  في الصيف وانتظار في الشتاء، انتظار ما لا يأتي، عند موقف دارينا، أو حدّ القناطر، انتظار انقشاع ليالي الشمال الحزينة، وانقضاء همّ العمر، وحلول مواسم العصافير، وورد نيسان. وبين انتظارٍ وانتظار مساحات مترامية من الحنين، حنين لزمان الوصل بالأندلس، أو لثغر حبيبة عنترة المتبسم، حنين لدار الهوى بالشام، لمدينة الصلاة الضائعة، لليلة الإسراء، لـ”درب من مروا إلى السماء”، لخبز بيروت والياسمين، ولعودة شادي من الأحراش طفلاً جميلاً صاعدًا من خلف التل مع أكثر من مئتي ألف نفس أزهقتها حرب لبنان.

 

عرف هذان الأخوان العبقريان كيف يوظفان صوت فيروز لنشر كل أفكارهما وهواجسهما إلى العالم. ولعل صوت فيروز بخفره وحيائه وانسيابه في المسامات هو صوت المرأة الثائرة والورعة في آن معًا المتأججة شوقًا وعشقًا ورغبة وتمرّدًا، تمردًا خفيًا لكنه واضح الإيحاء.

عن صوتها يقول آنسي الحاج “لفرط صفائه تظنه آتيًا إليك كالفكرة، تظنه مجردًا، روحًا تامًا بلا شكل. من هنا قولهم إنه ملائكي وهم يرمزون إلى هذا الانفلات التصاعدي النقي الذي لا يأسره شكل”. ويخلص الحاج إلى ما معناه “فيروز في الحقيقة تغني بكل حواسها، لا بل تغني بكل جسدها. وهي تؤدي أداءً داخليًا لم يعرف له الغناء اللبناني ولا العربي مثيلاً. ولغنائها، من أوطى درجات صوتها حتى أعلاها، ومن أبسطها حتى أشدها تعقيدًا، فعل تحريك وإيحاء وتحريض يراوح بين فعل الوحي وفعل الحب وفعل الرصاص”.

انطلقت فيروز داخل هذا المذاق السحري الرحباني، بينما قليلة هي الأعمال التي أبدعها عدد محدود من الموسيقيين خارج أسوار الرحبانية، أشهرهم فيلمون وهبي وزكي ناصيف وتوفيق الباشا من لبنان ومحمد عبد الوهاب من مصر. هذا لو تركنا البدايات في مطلع الخمسينيات التي غنت فيها مثلا للموسيقار المصري مدحت عاصم، وقبل أن تلتقي فيروز مع عبد الوهاب غنت له عددًا من الألحان القديمة مثل “خايف أقول اللي في قلبي” و”يا جارة الوادي”. والمعروف أن “جارة الوادي” التي كتبها أحمد شوقي تتحدث عن “زحلة” في لبنان. وبعد ذلك لحن لها عبد الوهاب “مُرّ بي” و”سهار” و”سكن الليل”. كما أن أُذن الرحبانية توقفت كثيرًا أمام تراث سيد درويش مثل “الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية” و”طلعت يا محلى نورها شمس الشموسة”، وكالعادة احتفظ الرحبانية بحق التوزيع الموسيقي، ولهذا تجد أن الأغنيات التي غنتها لعبد الوهاب أو درويش تحمل الرائحة الرحبانية.

الاسم الحقيقي لفيروز هو “نهاد رزق وديع حداد”، وتُعتبر من أفضل الأصوات العربية في عصرنا الحديث

 

فيروز.. سفيرتنا إلى النجوم

قدم الأخوان رحباني معها المئات من الأغاني التي أحدثت ثورة في الموسيقى العربية، وذلك لتميزها بقِصَر المدة وقوة المعنى على عكس الأغاني العربية السائدة في ذلك الحين التي كانت تمتاز بالطول، كما أنها كانت بسيطة التعبير وفي عمق الفكرة الموسيقية وتنوع الموضوعات، حيث غنت للحُبِّ والأطفال، وللقدس لتمسكها بالقضية الفلسطينية، وللحزن والفرح والوطن والأم، وقدمت عددًا كبيرًا من هذه الأغاني ضمن مجموعة مسرحيات من تأليف وتلحين الأخوين رحباني وصل عددها إلى 15 مسرحية تنوعت موضوعاتها بين نقد الحاكم والشعب وتمجيد البطولة والحُبِّ بشتى أنواعه، وقامت بتمثيل ثلاثة أفلام سينمائية.

غنت للعديد من الشعراء والملحنين ومنهم ميخائيل نعيمة بقصيدة “تناثري” وسعيد عقل بقصيدة “لاعب الريشة” وغيرها، كما غنت أمام العديد من الملوك والرؤساء وفي أغلب المهرجانات الكبرى في العالم العربي، وأطلق عليها عدة ألقاب منها “سفيرتنا إلى النجوم” الذي أطلقه عليها الشاعر سعيد عقل للدلالة على رقي صوتها وتميزه.

بعد وفاة عاصي عام 1986، خاضت تجارب عديدة مع مجموعة ملحنين ومؤلفين، لكنها عملت بشكل رئيسي مع ابنها زياد الذي قدم لها مجموعة كبيرة من الأغاني أبرزت موهبته وقدرته على خلق نمط موسيقي خاص به يستقي من الموسيقى اللبنانية والموسيقى الشرقية والعالمية.

أصدرت خلال هذه المرحلة العديد من الألبومات من أبرزها “كيفك أنت” و”فيروز في بيت الدين 2000″ الذي كان تسجيلاً حيًا من مجموعة حفلات أقامتها فيروز بمصاحبة ابنها زياد وأوركسترا تضم عازفين أرمن وسوريين ولبنانيين، وكانت البداية لسلسلة حفلات حظيت بنجاح منقطع النظير لما قدمته من جديد على صعيد التوزيع الموسيقي والتنوع في الأغاني بين القديمة والحديثة.

 

فيروز.. الاقتباس من الروائع العالمية

وفي 22 سبتمبر 2017، أطلقت فيروز ألبومها الجديد (رقم 99 في مسيرتها الفنية الطويلة) تحت عنوان “ببالي” بعد توقف استمر سبع سنوات منذ صدور ألبوم “إيه في أمل” عام 2010. ضم الألبوم الأخير تسع أغنيات كانت قد طرحت ثلاثـًا منها في بداية صيف 2017، في إطار الترويج للألبوم.

ترجمت ريما الرحباني كلمات الأغاني عن أغنيات أوروبية كان معظمها شائعـًا في ستينيات القرن العشرين، وقد أخذت معظم أغاني الألبوم من أغانٍ عالمية مثل “قبِّلني كثيرًا” أو “بيسامي موتشو” التي كانت أول من غنتها كونسويلو فيلازكيز و”تخيل” التي غناها جون لينون.

شكّل الألبوم نقلة نوعية في تعامل فيروز مع الأغاني العالمية، ففي الماضي كان يتم تعريب الأغنية لتغنيها فيروز من قبل الأخوين رحباني أو زياد رحباني، أي كتابة كلمات مناسبة على لحن الأغنية الأجنبية من دون الالتزام بترجمة كلمات الأغنية الأصلية إلى العربية. في ألبوم “ببالي” اختلف الأمر، فقد اختارت فيروز الأغاني الأجنبية بسبب الموضوعات التي تتناولها، وتولت ابنتها ريما ترجمة كلمات الأغنية الأجنبية إلى العربية مع بعض التصرف لتتناسب كلمات الأغاني مع حالة فيروز الوجدانية والرسالة التي أرادت أن يحملها الألبوم إلى جمهورها.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي “تقتبس” فيروز موسيقى وأغاني عالمية، فأغنية “يا أنا يا أنا أنا وياك” مقتبسة من موسيقى السيمفونية الأربعين للموسيقي النمساوي وولفغانغ أماديوس موزارت، و”كانوا يا حبيبي” مركبة على موسيقى الروسي ليف كنيبر، و”حبيتك بالصيف” مأخوذة عن أغنية فرنسية بعنوان “مذنب”، وقد غنت فيروز هذه الأغاني في حياة عاصي ومنصور الرحباني.