كاسباروف.. أسطورة الشطرنج العالمية

 

وجدي الماجري

يُولد الإبداع من رحم الفطرة، ولا ريب في أن الإنسان المبدع يظل يمشي في دروب الحياة بالتوازي مع ظله، حتى يقع في البطولة ويصير مُضاء كقمر ليلة اكتماله. وعند تلك العتبة الشاهقة، تُفتح أبواب الشهرة العالمية على مصاريعها للفائز، فيتألق نجمه ويبرز تفرده للعيان.

ومن بين النجوم الساطعة على الساحة الثقافية غاري كاسباروف الملقب بأسطورة الشطرنج الذي تربع على عرش البطولات العالمية لسنوات متتالية، والذي حقق نجاحات عديدة وحطم أرقاما قياسية منذ شبابه. ولم يقتصر ذكاؤه على رقعة الشطرنج فحسب وإنما تحوّل إلى رقعة الحياة الواسعة ليترأس حركة “روسيا الأخرى” المعارِضة لسياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

 

الشطرنج.. اختراع هندي

يُجمع العلماء المعاصرون أن لعبة الشطرنج اختراع هندي ابتُكر في القرن السادس للميلاد، ومن الهند انتقلت اللعبة إلى بلاد فارس. ولا تختلف إستراتيجية لعبة الشطرنج عن إستراتيجية الحياة، فإعمال القدرات العقلية وحسن التفكير واستغلال الوقت من مقومات التوفيق في الحياة.

تستلهم لعبة الشطرنج قاعدتها الأساسية من الواقع حيث تُجسد مبدأ البقاء للأقوى في مختلف صراعات القوى، إذ يبدأ كل لاعب المباراة بـمجموعة قطع عددها 16 قطعة: ملك واحد، ملكة واحدة، قلعتان، حصانان، فيلان، وثمانية بيادق، وتختلف حركة كل قطعة من هذه القطع الست، وتلعب الملكة دور أقوى القطع والبيدق أضعفها.

 أما هدف اللعبة فهو إماتة ملك الخصم عبر وضعه تحت تهديد بالأسر لا يمكن الفرار منه. ولهذه الغاية تُستخدم قطع الشطرنج لمهاجمة وأسر قطع الخصم وفي الوقت نفسه للدفاع عن بعضها البعض. ويمكن أيضا بلوغ الإماتة بالاستسلام الطوعي للخصم والذي يظهر بعد أن يفقد الكثير من العتاد أو تظهر استحالة تجنب الإماتة، كما يمكن أن تنتهي المباراة بالتعادل بعدة طرق مختلفة.

ونظرا لقيمة اللعبة فكريا وثقافيا، يمارس ملايين الأشخاص المحترفين أو الهواة من مختلف أنحاء العالم لعبة الشطرنج بصفة منتظمة.

تستلهم لعبة الشطرنج قاعدتها الأساسية من الواقع حيث تُجسد مبدأ البقاء للأقوى في مختلف صراعات القوى

 

كاسباروف.. عبقرية مبكرة

وُلد المحترف غاري كاسباروف في 13 أبريل/نيسان 1963 بمدينة باكو بجمهورية أذربيجان السوفياتية الاشتراكية. اسمه الحقيقي غاريك كيموفيتش وينشتاين، ولكن، إثر وفاة والده، قامت أمه بتغييره نسبة إلى لقبها العائلي كاسباروف.

ويعود الفضل في عبقرية كاسباروف الشطرنجية المبكرة إلى مشاهدته لوالديه يقومان بحل ألغاز الشطرنج أثناء اللعبة منذ نعومة أظافره. ولم يكتف كاسباروف بذلك القدر من المراقبة الدقيقة، بل أراد التعمق في جذور اللعبة وفروعها، فكان التحاقه بمدرسة ميخائيل بوتفنيك في سن العاشرة، وهناك تتلمذ على يد اللاعب العالمي الشهير فلاديمير ماكوغونوف واكتسب من المهارات ما يخوله لخوض أصعب المباريات العالمية وأبهرها على مر الزمان.

اقتحم ابن الشطرنج كاسباروف عالم الشهرة عام 1984 عندما حصل على المرتبة الأولى في تصفيات بطولة العالم، فقد فاز على بطل العالم السابق فاسيلي فاسيليفيتش سميسلوف، ثم سجل اللاعب شرف ريادته في هذا الميدان عبر سلسلة إنجازات بطولية تعكس ذكاءه الفائق وسرعة حله للمعادلات الرياضية الصعبة والمعقدة، فهو في كل انتصار له ينتصر على مفهوم العجز العقلي ومكامن الفشل في الحياة.

بعد أن كسب الجولة لبضع سنوات، كاسباروف يخسر أمام الذكاء الاصطناعي في 1997

 

كاسباروف.. قاهر الآلات

أما فِكر كاسباروف الخصب، فهو لا يَكل عن إنجاب البطولات تلو الأخرى في منافسات تخلب الألباب يخوضها ضد نظيره الإنسان أو حتى الحواسيب. فحين نذكر عقد الثمانينيات، لا بد أن نشير إلى المجهودات المتباينة التي قام بها علماء التكنولوجيا بغية حصر الذكاء البشري في حواسيب تعوض الإنسان عن اتخاذ القرارات الصعبة، بل وتتعداه في سرعة حل المعادلات الرياضية وتخزين المعلومات.

في البداية، كان الأمر مجرد أفكار مخطوطة على الأوراق حتى جاءتهم الفرصة على طبق من ذهب ليختبروا مدى نجاعة ما توصلوا إليه. فكانت المبارزة الجديرة بالذكر تدور بين العبقري كاسباروف وبين الحاسوب في لعبة الشطرنج لأول مرة، فقد واجه غاري كاسباروف 32 من أفضل الآلات اللاعبة للشطرنج في العالم بمدينة هامبورغ الألمانية، وانتهت الجولات بفوزه الساحق على 32 حاسوبا في نفس الوقت، ومن ثمة حصل البطل العالمي على لقب “قاهر الذكاء الصناعي”.

ولا يُعتبر ذلك الفوز المذهل مفاجأة باهرة تَشخص لها العيون وتنحني لها الرؤوس، فقد كان كاسباروف وقتها يستمتع بأنوار عصره الذهبي. وفي ذلك الصدد تحدث في لقاء متلفز كلاما بليغا وساخرا على حد سواء فيما يتعلق بموقفه من تطور لعبة الشطرنج، إذ قال “فزت بجميع المباريات، عندها لم تكن هزيمتي لـ32 حاسوبا في نفس الوقت مفاجأة كبيرة، فبالنسبة لي كنت أعيش عصري الذهبي، حيث كانت الآلات ضعيفة وكان شِعري قويا.

هذا النجاح الكبير لكاسباروف على الآلة الذكية المخترعة نبه العلماء إلى أن برامجهم ليست بالكفاءة المطلوبة ومازالت ضعيفة مقارنة بالعقل البشري وتحتاج إلى مزيد من المراجعة والتطوير. فاستغرقت عملية إعادة البرمجة سبع سنوات لتأتي في الأخير شركة آي بي إم (IBM) بجهازها الذي راهنت على نجاحه وهو “ديب بلو” (Deep Blue) في العام 1996 وتواجه مع كاسباروف في مباراة شهيرة وبالغة الصعوبة تكللت من جديد بفوز كاسباروف.

وفي 1997، خاضت النسخة المحدثة من ديب بلو مباراة جديدة مع كاسباروف، وكانت النتيجة لينتصر الجهاز صاحب حساب ملايين النقلات في الثانية الواحدة.

وفي تبرير كاسباروف لفشل العقل البشري أمام الآلة فلسفة راقية حيث قال “في 1997 كنت ما أزال بطل العالم عندما أصبحت حواسيب الشطرنج تتربع على العرش، كنت كجبل إيفرست، وبلغ الحاسوب ديب بلو القمة. عليّ أن أقول بالطبع إنه ليس الحاسوب من تغلب علي بل صانعوه البشر -آنانثارمان وكامبل وهون وسو- تحية لهم، فلطالما كان انتصار الآلة انتصارا للإنسان في حد ذاته”.

وتأكيدا لمقولة “هذا الشبل من ذاك الأسد”، فقد تحول كاسباروف من لاعب عالمي إلى معلم ومدرب لأجيال من لاعبي الشطرنج. ومن أشهر تلامذته دون منازع اللاعب “ماغنوس كارلسن” وهو أول من حطم رقم كاسباروف العالمي (2851 نقطة) ليحقق 2882 نقطة، وهو الرقم الأعلى في تاريخ الشطرنج.

أبهر كاسباروف الدنيا بمستوى ذكائه وبراعته في لعبة الشطرنج حتى إنه لقب بقاهر الذكاء الاصطناعي حتى عام 1997

 

فلسفة الانتصار والهزيمة

بعد عشرين سنة من مباراته مع ديب بلو يرى كاسباروف أن عنوان “الصمود الأخير للعقل” الذي أغرق الصحف العالمية آنذاك، ما عاد عظيما وإنما أصبح شيئا عاديا ومألوفا عند الناس، مثلما هو الشأن بالنسبة للآلات التي لا تنفك تقنياتها وأساليب عملها تتطور يوما بعد يوم.

وكشخص خسر حربه على الآلة بعد سلسلة انتصارات قيمة، لا يشعر كاسباروف بالأسى أبدا، إذ يقول بأن لكل مهنة ضغوطا، وأن الإنسانية قد تضع لتقدمها نهاية، معللا بأن الإنسان ليس في وسعه أن يختار متى ولا أين يتوقف النمو التكنولوجي. وأمام دقة التكنولوجيا وفوريتها في الإجابة، يؤكد غاري على ضرورة مجاراة السرعة البشرية للآلة، إذ لا مجال للبطء أو التقاعس في زمن يُثمّن الثانية ويحسن استغلالها.

في المقابل، يقارن كاسباروف القدرات المختلفة للإنسان والآلة معتمدا المعيار التالي فيقول: “لدى الآلات العمليات الحسابية ولدينا الفهم، لدى الآلات التوجيهات ولدينا الغرض، لدى الآلات الموضوعية ولدينا العاطفة”. ولذا فإنه يعتقد أن المرء يجب أن لا يبدي قلقه إزاء ما تقوم به الآلات حاليا، بل عليه أن يقلق فعلا مما لا تقوى عليه الآلات في يومنا هذا، ذلك أن الإنسان سيحتاج إلى مساعدة الآلات الذكية من أجل أن ترى أحلامُه العظيمة النور.

تزعّم كاسباروف حركة معارِضة لسياسة حكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تسمى بـ”روسيا الأخرى”

 

من الشطرنج إلى السياسة

بعد ثوراته العقلية ونجاحاته، أتت ثوراته الفكرية يوم قرّر اعتزال لعبة الشطرنج نهائيا إثر فوزه في بطوله ليناريس عام 2005. ولم يكن هذا الاعتزال وليد الصدفة، فقد حوّل اللاعب المحترف قدراته العقلية العالية من رقعة الشطرنج إلى رقعة الحياة، وتزعّم في غضون ذلك حركة معارِضة لسياسة حكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تسمى بـ”روسيا الأخرى”، وهي حركة تنتهج مسار الاحتجاجات السلمية على سياسة بوتين التي عرّفها كاسباروف بالسعي لتكريس مبدأ الحكم مدى الحياة، وأدانها بعدم الوفاء بوعود تحسين المعيشة وإنهاء حرب الشيشان، كما اتّهم بوتين بأنه المسؤول عن تحريك روسيا نحو طريق مسدود. وترمي حركة روسيا الأخرى -حسب كاسباروف- إلى إرغام الكرملين على التخلي عن خططه الهادفة إلى توجيه العملية الانتخابية.

وفي 2008، قدّم كاسباروف ترشحه للانتخابات الرئاسية الروسية المقبلة، لكنه اضطر إلى الانسحاب لعدم استيفائه للعدد المطلوب من الأصوات للترشح. وحاليا هو يشغل مجلس إدارة مؤسسة حقوق الإنسان ويرأس مجالسها الاستشارية الدولية.

لعبة الشطرنج هي قصة عقل ذكي يذهب بمداركه الذهنية إلى أقصاها ويتحداها أحيانا، وهي قصة الموهبة الفذة التي تُحاكي موهبة الفرد في التحكم بمجريات الأحداث من حوله على جغرافيا الحياة. وليس كاسباروف وحده الذي مجدته الأقلام العاشقة للبطولات، فالتاريخ حدثنا عن أول لاعب عربي مشهور في الشطرنج وهو “أبو حافظ الشطرنجي” الشاعر البارع في بلاط هارون الرشيد. أما في الأندلس، فقد سطع نجم شطرنجي آخر هو “أبو زيد محمد بن عمار” وكان شاعرا كبيرا، وقد لاعب ملك قشتالة ألفونسو السادس فتغلب عليه.