لويس الرابع عشر.. عاش الملك مات الملك!

يعيش الملوك في عالم من الغموض محاط بأسوار من السرية والحذر، ومن طبيعة الشعوب الاهتمام بمن يحكمها ومتابعة تفاصيل حياته. وكلما كانت أفئدة الناس لا تهوى من يدير شؤونها بسبب الاستبداد والتسلط، كثر الترقب للأخبار الخاصة والتفاصيل الدقيقة علها تأتي برياح المفاجآت.

وعبر الزمان كان الناس يهتمون بتفاصيل حياة ملوكهم، ويكتبون عنها الوثائق والشهادات لتكون تاريخا يتم تداوله بين أجيال وأمم لاحقة، وكثيرا ما كتب المؤلفون عن حياة الساسة والحكام والزعماء، لتبقى أخبارهم روايات يسمعها الناس عبر القرون.

وعندما كان ملك فرنسا لويس الرابع عشر يرغمه الموت على مفارقة الحكم، أخذ المقربون منه على عاتقهم توثيق اللحظات الأخيرة والخاصة بنهايته التي كانت مثيرة للشفقة والموعظة.

وفي وثائقي بعنوان “مات الملك” عرضته الجزيرة الوثائقية سنة 2017 كانت تفاصيل نهاية لويس الرابع عشر والأحداث التي صاحبتها محورا رئيسيا للفيلم.

وقد كشف الوثائقي عن الإجراءات والمراسيم التي كانت متبعة في دفن الملوك الفرنسيين، حيث تتحول من حالة حزن ووداع إلى لحظة فرح وسرور من خلال تنصيب ملك جديد.

الملك الشمس

بعد وفاة والده تولى لويس الرابع عشر مقاليد الحكم وهو في الخامسة عشرة من عمره. وبفضل قوته وشجاعته الكبيرتين استمرت فترة حكمه 72 سنة، وهي أطول فترة قضاها ملك في التاريخ، ليلقب بالملك الشمس الذي لا يغيب حكمه.

وطوال فترة حكمه عمل لويس الرابع عشر على تقوية سلطاته الواسعة، وحاول أن يثبت أن الملك هو المحور الأساسي في الدولة.

يقول عضو أمناء قصر فرساي رافييل ماسون “إن لويس الرابع عشر أوصل النظام الملكي إلى ذروته، حيث كان كل شيء يدور حول الملك كما تدور الكواكب حول الشمس”.

وفي فترته التي حكم فيها البلاد عقودا من الزمن واجه الكثير من الأزمات والاضطرابات بسبب الحروب التي خاضها في حرب الخلافة الإسبانية، والتي استمرت على مدار 15 عاما متتالية، وفقدت فيها فرنسا مليوني مواطن.

وعلى أثر الحملات العسكرية التي قادها، تفشت المجاعة وانتشرت الأمراض بين المواطنين، فزادت نقمتهم على صاحب العرش وحاشيته في قصر فرساي.

قصر السياسة والعبادة

وبعد أن وطد حكمه، أمر الملك الشمس ببناء قصر له في مدينة فرساي، ونقل إليه شؤون الحكم من باريس وأصبح قبلة السياسيين ورجال الدولة.

وقد باشر بنفسه وضع نظام الإتيكيت والبروتوكولات الخاصة بقصره والتي كانت مثارا للسخرية والضحك، فعندما كان يذهب للحمام لا بد أن يصحبه مرافقون وخصوصا لحظة جلوسه على مقعد المرحاض.

وفي قصر فرساي كان جميع الحاشية يتناحرون على التقرب من لويس والتودد له، لأن الملك هو النظام والدولة معا.

كان كل شيء يدور حول الملك لويس الرابع عشر كما تدور الكواكب حول الشمس
كان كل شيء يدور حول الملك لويس الرابع عشر كما تدور الكواكب حول الشمس

وفي نظام القصر كانت حاشية الملك البالغ عددها 3000 من العمال وكبار المسؤولين يسكنون معه، بيد أنه في الأعياد الرسمية والمناسبات السياسية يتم استدعاء النبلاء من باريس حتى يصل العدد لنحو عشرة آلاف.

ومن نوادر البروتوكول الذي وضعه لويس الرابع عشر أن جميع الأمور كانت تتم في العلن، بدءا من مراسيم استيقاظه من النوم الذي يحضره الجميع، وتجوله في الحديقة التي كانت مفتوحة لجميع الناس، وانتهاء بحفل العشاء الذي يكون مع وقت انتهائه من العمل.

ورغم فترته الطويلة في الحكم، فإنه كان مثار اهتمام الفرنسيين يتابعون أخباره ونشاطاته باهتمام كبير.

وفي قصر فرساي الذي كان يسكن فيه ويدير منه شؤون حكمه، شيّد كنيسة فخمة جسد فيها الفن المعماري لحضارة فرنسا، وتتكون الكنيسة من طابقين أحدهما مخصص للعائلة للمالكة ويقع في وسطه كرسي للملك.

وتصنف الكنيسة الملكية بأنها من أحسن الصروح المعمارية التي شيدها لويس الرابع عشر، حيث كلف بناؤها ما يزيد على مليوني جنيه إسترليني حينها، وتحظى بعناية خاصة.

وقد كان الملك الشمس مثالا في الالتزام والقرب من الكنيسة التي أنفق عليها بسخاء وحافظ على حضور المراسيم الدينية التي تنظمها.

مناعة ضد الأمراض

وفي جميع مراحل حياته، تعرض الملك لويس الرابع عشر لكثير من الأمراض التي كان ينجو منها كل مرة، فعندما كان رضيعا تعرض لنزيف قوي لم يستطع التخلص منه إلا بعد جهد كبير من الأطباء، وفي التاسعة من عمره أصيب بمرض الجدري، وفي الثانية والعشرين كادت حمى التيفويد تقضي على حياته، وفي السابعة والأربعين خضع لعملية جراحية خطيرة أطلق عليها اسم “العملية الكبيرة”، بالإضافة لأمراض أخرى خطيرة أصيب بها مثل الناسور والكلى.

وتقول هيلينا ديلاليكس مؤلفة كتاب “عن سيرة لويس الرابع عشر” إن أطباء البلاط كانوا محظوظين لأن الملك كان يتمتع بجسم قوي يمثل قوة من قوى الطبيعة ساعده في التغلب على جميع الأمراض الخطيرة التي عانى منها.

رغم فترته الطويلة في الحكم، فإن الملك كان مثار اهتمام الفرنسيين يتابعون أخباره ونشاطاته باهتمام كبير
رغم فترته الطويلة في الحكم، فإن الملك كان مثار اهتمام الفرنسيين يتابعون أخباره ونشاطاته باهتمام كبير

وبعدما تقدم في العمر وبلغ من الكبر عتيا، شاخت دولته وأصبح قصره يتراجع بعد الريادة التي كان يحظى بها كواحد من أهم مراكز الثقافة والإبداع، وحينها شعر بالملل وبدأ يفقد قوته، لأن جميع من عاصروه من الملوك والرؤساء والوزراء كانوا قد قضوا نحبهم.

وعند مطلع القرن الثامن عشر كان عصر التنوير بدأ يلوح في الأفق وزاد وعي الناس بحقوقهم المدنية، فضاعف ذلك من المشاكل التي لم يكن باستطاعته التجلد لها، بحكم الشيخوخة وأتعاب الحكم.

وبحلول 1711 كان جميع أبنائه قد فارقوا الحياة، ولم يبق له سوى حفيده لويس الخامس عشر البالغ من العمر سنتين، والذي أصبح وليا للعهد.

وبعد الفواجع المتكررة التي عاشها، أصبح الملك مكسورا وضعيفا أمام عاديات الحياة التي جعلته يشاهد قوة الزمن وتغلبه دون القدرة على مواجهته.

وقد كان الملك مواظبا على عمله وحضوره لاجتماع مجلس الوزراء، ولم يمنعه الوهن من مزاولة مهامه.

القداس الأخير

وفي سنة 1715 كان الملك الشمس في عامه الـ77، وبعد أن عانى من الألم في ساقه اليسرى أراد أن يحضر قداس الكنيسة الملكية بفرساي في 14 أغسطس/آب 1715، لكنه لم يتمكن من السير على قدميه، فنُقل على كرسي متحرك، وكانت تلك المرة الأولى التي يخرج فيها للطقوس الدينية وهو منهك بالمرض.

وإثر مشاركته بالقداس وظهوره مريضا بدأت الشكوك والشائعات تنتشر في أرجاء باريس عن عجز الملك عن أداء مهامه. وبعد أن أمضى أياما معدودة يزاول نشاطاته على كرسي متحرك، زاد مرضه ولم يعد ينام من شدة الألم.

وفي 19 أغسطس/آب 1715 أجبره الوجع على ملازمة فراشه، ولم يعد باستطاعته أن يتحرك.

في نظام القصر كانت حاشية الملك البالغ عددها 3000 من العمال وكبار المسؤولين يسكنون معه
في نظام القصر كانت حاشية الملك البالغ عددها 3000 من العمال وكبار المسؤولين يسكنون معه

وفي الثاني والعشرين من الشهر نفسه استدعى طبيبُه الخاص عشرة من كبار الأطباء في باريس ليساعدوه في علاج الملك. وقد كان الأطباء يظنون أن وجعه بسبب عِرق النسا، لكنهم اكتشفوا مؤخرا أنه يعاني من الغرغرينا (تعفن في الأنسجة يستحيل علاجه).

وبعد أن تبينت لهم حقيقة الداء الذي حل به لم يتمكنوا في البدء من أن يخبروه، لأنه كان قد تعمق في جسمه ولم يعد هنالك أمل في معالجته.

وبعدما قرروا بتر ساقه التي أصبح لونها كالفحم ووافق لهم على ذلك، اكتشفوا أن المرض قد انتشر في باقي جسمه، حيث لم يعد بالإمكان استئصاله.

وعندما أوقف الأطباء علاجه انتظارا للحظة الفناء، طلب الملك من الأب الحضور لسماع اعترافاته. وأثناء تفاقم المرض عليه كان يقول “لست خائفا من الموت، وأريد أن أعاني للتكفير عن ذنوبي”.

وحينما أخبره الأطباء أن وقته قد انتهى، استقبل الأمراء ونصحهم بالتكاتف والابتعاد عن الخلافات، وطلب من الجميع الصفح والسماح.

وفي خطبته التي ألقاها على حفيده وولي عهده، أوصاه بعدم تقليده، والرفق بالمواطنين والرعايا، والابتعاد عن الحروب التي كان هو نفسه يخوضها.

وفي الأول من سبتمبر/أيلول 1715، ومن داخل غرفة نومه المطلة على جهة الشروق، فارق الملك لويس الرابع طعم الحياة عند الثامنة والربع صباحا.

عاش الملك.. مات الملك

وعند موته حضر رجال الدين لتلاوة الصلوات عليه، وبعد ذلك تم تجهيز غرفته للزوار ليشاهَد ميتا كما كان يشاهد حيا. وطبقا للقانون بقي على سريره يوما كاملا معروضا يزوره الناس دون بروتوكولات أو عراقيل.

وعند تشريح جثمانه، تم تقسيم جثته إلى ثلاثة أجزاء منفصلة؛ الجسم والأحشاء والقلب، ووضع كل جزء في تابوت خاص. تقول كبيرة القيمين على قصر فرساي “بياتريكس سولي” إن التقسيم الثلاثي كان تقليدا في الملكية الفرنسية.

ويدفن ملوك فرنسا في ثلاثة قبور، واحد للجسد في المقبرة الملكية في سان دوني، وآخر للقلب في كنيسة سانلويس، وثالث للأحشاء في كاتدرائية نوتردام.

يدفن ملوك فرنسا في ثلاثة قبور
يدفن ملوك فرنسا في ثلاثة قبور

وبعد أن تم تقسيم بدنه إلى ثلاثة أقسام، وضع في تابوت وعرض على الناس وظلت الهيئات الحكومية والسفراء يزورونه مدة ثمانية أيام.

وتحضيرا لمراسيم تليق بتوديع الملك، انطلق موكب جنازته من قصر فرساي حتى ساندوني في حشد كبير ومهيب يضم الأمراء ورجال الدين وقادة الحرس.

وعندما وصل رفاته لكنيسة سان دوني تم تعتيمها وطلاؤها باللون الأسود تعبيرا عن الحزن الذي حل بالبلاد. وقد تولّت هيئة الفضّيات وتنظيم الحفلات بالبلاط الإشراف على حفل جنازة لويس الرابع عشر الذي استمر قرابة 40 يوما.

وبعدما وضع تابوته في محل لويس الثالث عشر كإجراء أخير من إجراءات الدفن، صرخ قائد الحرس الملكي قائلا “إنْ مات الملك لويس الرابع عشر، عاش الملك لويس الخامس عشر”، فقام الحضور يردد عاش الملك عاش الملك، فتحولت اللحظة من حالة حزن وتوديع إلى مراسيم فرح وتنصيب.