ماري عجمي.. صاحبة أول مجلة نسائية ونبش في قضايا الأنوثة

سنان ساتيك

حملت ماري بين يديها مشروعاً تنويرياً تدعو فيه إلى تحرر المرأة

تدفع ماري عجمي بعكازتها حرّاس مكتب جمال باشا، تهوي بها على رؤوسهم، تطرق بابه وتفتحه بها، أما جمال باشا فهو خلف مكتبه متفاجئا، فقد دخلت إليه تسترحمه ليصفح عن رجال الفكر والتنوير، وتفاوضه على تشكيل لجنة للدفاع عن حقوقهم قبل إعدامهم في السادس من مايو/ أيار 1916، لأنهم طالبوا بخلاص البلاد من الحكم العثماني.

منذ شبابها أُصيبت بمرض في عظامها، فصارت إحدى ساقيها ضعيفة جعلتها تستعين بعكازة، لكن ذلك لم يوهنها أو يشغلها عن أهدافها ونضالها.

غلاف ديوان ماري عجمي

الخطوات الأولى

والد كهل يتزوج للمرة الثانية، وينجب عددا من الأولاد يريد تعليمهم وإدخالهم المدارس في زمن قلّ فيه التعليم وندرت المدارس، فلم يكن ذلك م��احا للكثيرين لأنه محصور بأبناء الميسورين. لهذا الوالد وُلدت ماري عجمي في الرابع عشر من مايو/أيار 1888 من زوجته الثانية في دمشق التي أحبتها وقالت فيها:

دمشق إذا غبتِ عن ناظري

فرسمكِ في حسنه الزاهرِ

مقيم على الدهر في خاطري

إذا فتّح الورد في روضتكْ

وغنى الهزار على دوحتكْ
يهبّ نسيم الصبا هاتفاً:

أما والذي طاب في تربتكْ
سمعت شتات الأغاني فما

اهتززت اهتزازي لأنشودتكْ

فُتحت أمامها أبواب المدرستين الروسية والإيرلندية التي نالت شهادتها منها سنة 1903، ثم انتقلت للتعليم في لبنان ومصر، حتى عادت إلى دمشق لتُعلم في المدرسة الروسية سنة 1906 .

سعيا منها إلى تحصيل علمي يزيدها خبرة في الأمور الحياتية المحيطة، ولتكون قادرة على مواكبة مشروعها النهضوي؛ درست التمريض في الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1905، لكنها لم تكمل دراستها لتدهور صحتها. فبدأت سيرها في سبيل تحرير المرأة تستحثها على التعليم، وتدعو المجتمع إلى تفكيك القيود التي تكبلها، والخلاص من وطأة التقاليد التي تقف عائقاً في طريقها، حتى يُتاح لها أن تسهم في بناء المجتمع.

في مجتمع يرفض خروج المرأة إلى مسالك يعدّها من المحرمات؛ جابهته ماري عجمي بتأسيسها مجلة "العروس" عام 1910

مجلة العروس

حملت ماري بين يديها مشروعاً تنويرياً تدعو فيه إلى تحرر المرأة، وأن تأخذ مكانتها الثقافية والمجتمعية حتى تكون فاعلة في النهضة العربية التي بدأت تتواتر خطواتها تكيفاً مع المتغيرات في تلك المرحلة التاريخية، فقد أضحت هذه المرحلة ذات تغيرات في الدولة العثمانية، والتي انعكست على المجتمعات الواقعة تحت سيطرتها، إذ بدأت نهضة ثقافية تنتشر بين فئات المجتمع (كانت حكراً على الرجال)، فما كان من ماري إلا أن تؤسس مجلة نسوية تُناصر المرأة فيها وتبث فيها قضاياها.

في مجتمع يرفض خروج المرأة إلى مسالك يعدّها من المحرمات؛ جابهته ماري عجمي بتأسيسها مجلة “العروس” عام 1910، والتي كانت أول مجلة في المنطقة العربية تدعو إلى تحرير المرأة وتختص بقضاياها.
عملت عجمي رئيسة تحريرها وإدارتها، كما وظفت عددا من الفتيات السوريات المتعلمات في هيئة تحريرها، وقد كتبت معظمهن بأسماء مستعارة خوفا من الانتقام المجتمعي .

قُسمت المجلة إلى أبواب عديدة مثل باب “حديث ذو شجون”، والتي تحكي فيه ماري عن انطباعها ورأيها في بعض القضايا وما تطالعه في المجلات الأجنبية، وهناك باب المباحث النفسية وباب الفنون الجميلة وباب الرواية وباب تدبير المنزل وباب الاجتماع .

هذا التنوع في الأبواب وتركيزه على العلوم النفسية والاجتماعية يبين دور هذه المجلة الرائدة، أما مقالاتها التي يعلو فيها نقدها وقعتها باسم ليلى.

 

معاناة أدبية

شرّعت المجلة الآفاق للنسوة ليكنّ حاضرات ويحكين عمّا في داخلهن، وإبراز الصوت الأنثوي ورأيه بما حوله، فكتبت فيها ثلة من السيدات مثل روز شحفة وأُنس بركات وزينب فواز وأديل عجمي وسلمى كساب ونازك العابد وعفيفة صعب وغيرهن.

وكتب في “العروس” رجال الفكر والأدب في تلك الفترة كجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي وإيليا أبو ماضي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم والأخطل الصغير وعباس محمود العقاد وغيرهم.

كَثرةُ الأدباء حولها ومشاركتهم إياها الأفكار والمشاريع نفسها؛ توحيان بالثقافة الواسعة والمشروع النهضوي الذي اضطلعت به ماري، وذلك لتكون رائدة في مجتمع يعيش منذ قرون في الجهالة. وكونها واحدة منهم كانت قريبة مما يعانيه الأديب حتى تتجلى الفكرة أمامه ليحولها إلى نص يومض بما يبتغيه، لذا صاغت في ذلك قصيدة تحكي عن حياته وتكوينه فكرته:

إن صفت خمرٌ بأقداح الهوى
مال يجلوها بأبكار البيان
أو هفا صبٌّ لمعسول اللمى
راح يشكو مثله جور الحسان
إن تقولوا ما به من لوعة
ليس ما فيه التياع بل حنان
كل قلب في البرايا قلبه
فارحموه إنه قلب الزمان

رسائل حب في السجون

يقع مراسل مجلة “العروس” في بيروت اليوناني بترو باولي في غرام ماري التي أحبته أيضا فيخطبان، لكن السعادة تتداعى، فبترو صاحب مقالات سياسية ناقدة تهاجم العثمانيين ويدعو فيها إلى الاستقلال، يوقعها باسم “الباتر”؛ الاسم الذي يحلو لها أن تناديه به، لذا يعتقله العثمانيون في سجن عالية في لبنان، وقد كانت ماري تذرع الطريق ذهابا وإيابا إلى هناك لتزوره، حتى نُقل إلى سجن قلعة دمشق، حيث صارت تزوره وتلتقي بالسجناء السياسيين وغير السياسيين وتطّلع على أحوالهم.

مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 ضيّقت السلطات العثمانية على الصحف والمجلات فأغلقت الكثير منها، وكانت “العروس” من بينها، كما اعتقلت الكتّاب أيضا، ومنهم بترو الذي ملأت ماري رسائلها إليه في السجن بالحب والامتعاض من القمع في الخارج، ومن السجن المجتمعي الذي يؤطر المرأة ويحرمها حريتها والمطالبة بحقوقها.

كانت ماري ترشو السجانين للقاء خطيبها والأدباء الذين زُجّوا في السجون، وإن لم تقدر على ذلك تُرسل لهم الرسائل، أو تطرق بعصاها على قساطل المياه التي توصلها من عين الفيجة إلى السجن، وتحدثهم عبرها.
لم يخرج بترو من السجن حتى أُعدم مع رفاقه في قوافل الإعدام، ولم تحب ماري بعده، إذ كوّنت فلسفتها في الحب:

ما الحب أن ترجو مواصلة
أو أن تظل الدهر من عشقه
الحب معنى لست تدركه
ما لم ترَ الأنوار منبثقه

صورة لنازك العابد التي أنشأت معها ماري عجمي مدرسة بنات الشهداء عام 1920

نواد أدبية وثقافية

استطاعت ماري بزياراتها المتكررة إلى السجن أن تساعد المعتقلين وتنقل رسائلهم إلى أهاليهم، ومن هؤلاء إلى السجناء، ولأنها كانت ساعي البريد اتُهمت بالعمالة، وبصلاتها برجال الدولة، وذلك لمقدرتها على إدخال الرسائل، غير مدركين أنها كانت تدفع رشى لتمريرها.

بإتقانها الإنجليزية ترجمت لكاتبات أمريكيات وإنجليزيات مثل دوروثس دوكس ولويزا آلكوت وآلن روبنسون، كما ترجمت رواية المجدلية الحسناء، ورواية أمجد الغايات للكاتب باسيل ماسيوز.

أنشأت ماري مع نازك العابد مدرسة بنات الشهداء سنة 1920 للاهتمام بأبنائهم، ومعها ومع فاطمة مردم وسلوى الغزي أسست جمعية “يقظة المرأة الشامية”، ثم جمعية “نور الفيحاء” وناديها.

انتُخبت ماري عضواً في لجنة النقد الأدبي في جمعية الرابطة الأدبية عام 1921، كما أسست أول رابطة ثقافية في دمشق في مارس/آذار 1921 عُرفت باسم الرابطة الأدبية، والتي كان من أعضائها خليل مردم بيك وفخري البارودي وشفيق جبري وغيرهم، والتي استمرت ثلاث سنوات حتى أغلقها الفرنسيون، فحولت بيتها منتدى يجتمع فيه المثقفون يتناقشون ويتحاورون في قضايا المجتمع.

ضد الإنجليز والفرنسيين

بعد سيطرة الإنجليز والفرنسيين على دول المنطقة العربية؛ استبشرت ماري خيراً بهما إعجاباً بحضارتيهما، وخلاصاً من قرون طويلة من التخلف، فقد عوّلت على تأثير هاتين الحضارتين وبإصلاحاتهما في المجتمع العربي، ظناً أنهما سيعطيان الشعوب حقوقهما، وأنهما سيكونان منتدبين لمساعدة الشعوب العربية وتمكينها من الحكم، حتى تكون قادرة على الاستقلال وحكم نفسها، لكنها بدّلت موقفها عندما رأت أنهما لم يأتيا منتدبين كما ادّعيا، ولن يساعدا الشعوب على التحرر والتحضر، بل سيقمعان من يطالب بذلك، وأنهما جاءا لنهب الشعوب واستعمارها.

راحت ماري تُهاجم السلطات الفرنسية وتدعو للثورة عليها، ولا سيّما بعدما حاولوا رشوتها واسترضاءها، مُستحثة الجنود:

كان كالبلبل في أيكته
يتغنى بالقوافي العامره
فرمى الكأس وألقى نايه
ومضى للحرب نفساً ثائره

استمرت ماري تنتقد الفرنسيين في مجلتها التي استعادت صدورها عام 1918 ، فأغلقها الفرنسيون نهائيا عام 1926.

دخلت ماري في كتاباتها إلى مناطق لم يدخل أحد سابقاً إليها، مثل دعم الاقتصاد المحلي وتشجيعه

مع العامل والفلاح

دخلت ماري في كتاباتها إلى مناطق لم يدخل أحد سابقاً إليها، مثل دعم الاقتصاد المحلي وتشجيعه، والاعتماد على المنتوجات المحلية. كما دعمت العامل والفلاح في موقف جريء لم يكن معتادا من النخبة المدينية في ذلك الوقت، فنسجت قصيدة “أمل الفلاح” التي فازت بالجائزة الأولى في محطة الإذاعة البريطانية بلندن عام 1947:

هو الزارع الفلاح لولا جهاده
لما شمت بالريحان حسن المخايل
هو الطود للعبء الثقيل وقد بدا
على وجهه منه اتقاد المشاعل
نبيٌّ فقد أوحى إلى القفر بالشذى
وعلّق أقراط الغصون الحوامل

الأنوثة وتنشئة الجيل

لم تتوقف جرأة ماري على مقاومة الاستعمار، بل تجرأت على المجتمع وكتبت في قضاياه الحساسة، وكانت تنبشها لتكوّن ثقافة مجتمعية تتعامل معها السيدات بلا حرج أو خجل، فاستنهضت قضية الأنوثة، وحثّت فيها الأمهات على تثقيف بناتهن وتنبيههن إلى أنوثتهن، وإلى التغيرات البيولوجية التي تحدث لدى الفتاة عند بلوغها.

شجعتهن أيضا على تربية بناتهن تربية سليمة يعرفن فيها كيف يسيطرن على غريزتهن، وكيفية التعامل معهن في سن المراهقة، وفي المقابل لم تتوقف ماري عند جندريتها، فقد توجهت بخطابها نحو الآباء كي يكونوا سنداً لأولادهم الذكور في المرحلة ذاتها.إن تشجيعها على تقويم سلوك المراهقين لهو نظرة تقدمية سوسيولوجية في تلك الفترة التي لم تكن العلوم الإنسانية ذات شأن في العالم العربي، مما يعكس اطلاعها الواسع على الحضارات الأخرى والعلوم التي حقق فيها الغرب تقدماً، فجاءت آراؤها تقدمية ذات نظرة استباقية للعصر الذي تعيش فيه.

ولها مقالات في التربية وتنشئة الجيل وبعض الشعر في الأطفال:

هم الأطفال في الفردوس حلوا
كصفو الراح في كأس الشراب
خفاف كالطيور إذا اطمأنوا
وإن جزعوا اقتفوا أثر الشهاب
خيامهم على جنات عدن
وماؤُهم على متن السحاب

صورة الزعيم السوري فارس الخوري

شعر كلاسيكي ورحيل صامت

تشتت أثر ماري النثري والشعري، وتبقى منه القليل وبعض الترجمات، أما الأشعار التي جُمعت في ديوان لها فجاءت كلاسيكية اتباعية، لكنه في ذاك الزمن والوسط المحيط يُعدّ نقطة بناء للشعر النسوي العربي تتفرد به، ففيه الكثير من المحسنات البديعية، ومتنوع الأغراض ومتشعب المقاصد، أكثره في الطبيعة، غنائي يدور حول ذاتها:

دفعْتُ بشعري باب الخلود
وحطمت مزلاجه ساهيه
فألفيتني بين حور الجنان
يقبّلن جبهتي العاليه
أنا الشعر تشدو به لهفة
فتطرب في الظلمة الداجيه
أغني لتصغي وحوش الفلاة
وتأنس بالرقة الطاميه

كُتبت العديد من المقالات والكتب عنها مثل “ماري عجمي.. في مختارات من الشعر والنثر”، وهو من إصدار الرابطة الثقافية النسائية منتصف القرن الماضي، والذي نقش على غلافه الخلفي بيتان للزعيم السوري فارس الخوري:

يا أهيل العبقرية          سجلوا هذي الشهاده
إن ماري العجميّة         هي ميّ وزياده

وفي مذكرات فارس الخوري يرد الشطر الأول: يا رجال الأريحية.

بعدما أغلقت مجلة العروس نهائياً انصرفت ماري إلى التدريس. وفي عام 1940 رحلت إلى العراق للتعليم فيه، وكان من تلميذاتها الشاعرة نازك الملائكة. بقيت فيه فترة قصيرة، ثم عادت إلى دمشق حتى بدأ المرض يتثاقل عليها، فانزوت الشاعرة المناضلة في قضايا المرأة وتحريرها وتكسير قيود المجتمع تذوي وحيدة لا يعودها أحد، حتى ماتت في 25 ديسمبر/ كانون الأول عام 1965، ودُفنت في دمشق بجنازة لم يحضرها سوى 16 شخصاً.