محمد إقبال.. شاعر الفلاسفة وشيخ المتصوفة في القارة الهندية

من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا؟!

كنا جبالا في الجبال وربما سرنا علـى مـوج البحار بحارا

بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا

كلمات ليست كالكلمات صاغها شاعر ليس كغيره من الشعراء، فهو -مع ذلك- مفكر وفيلسوف ومصلح ورائد نهضة. ولكل ذلك، لم يكن محمد إقبال مُفكرا عابرا، فهو أحد أبرز شخصيات الإصلاح الديني في العصر الحديث، وبحسب عدد من الباحثين فإن دوره في الهند وباكستان لا يقل عن الدور الإصلاحي الذي قام به محمد عبده في العالم العربي.

ولعل من أبرز ما قِيل في محمد إقبال وصف الأستاذ عباس محمود العقّاد له بأنه طراز العظمة الذي يتطلبه الشرق في الوقت الحاضر وفي كل حين، لأن عظمته ليست بالدنيوية المادية، وليست بالأخروية المُعرضة عن الدنيا، “وهو زعيم العمل بين العُدْوتين من الدنيا والآخرة، قوّام بين العالَميْن كأحسن ما يكون القوّام”.

يستعرض فيلم “أسرار النفس- محمد إقبال” الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية؛ حياة الرجل الذي غاص بفكره وشعره وفلسفته في أعماق النفس البشرية، خصوصا المسلمة، سابرا أغوارها وكاشفا لخباياها.

إلهام الحب النبوي والفكر الصوفي.. بدايات في البنجاب

وُلد محمد إقبال يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1877 في مدينة سيالكوت بولاية البنجاب (التي أصبحت جزءا من باكستان بعد استقلالها عن الهند). وعندما بلغ عامه الرابع أخذه والده إلى الشيخ مِير حسن طالبا منه أن يُعلّمه الدين، فرأى الشيخ طفلا طموحا، وتوسم فيه النجابة والذكاء، وأقبلت الفرصة على إقبال لتفتح له آفاقا رحبة ومتعددة من العلم؛ فقد أضفى الشيخ عليه ظلالا وارفة مثمرة، وأصبح اسم محمد إقبال هو الأكثر رواجا في شبه القارة الهندية، بل بلغ ذكره ما بلغ في المشرق والمغرب.

ويقول إقبال صلاح الدين -وهو حفيد محمد إقبال- إن جدّه ترعرع في جو أسري ملتزم، وقد كان والده متأثرا جدا بأفكار الشيخ ابن عربي، وكان أكثر الكتب قراءة بعد القرآن هو كتاب “الفتوحات المكية”، معربا عن اعتقاده أن والده كان يميل لفكرة التصوف الوجودي، أو ما يسمي بـ”وحدة الوجود”.

العلامة محمد إقبال رمز من الرموز العظمى في باكستان كونه ساهم في تأسيسها

ويؤكد المدير العام لقسم تعزيز اللغة الوطنية البروفيسور رؤوف باريخ أن محمد إقبال كان متدينا، وهذه كانت نتاج تربية والديه اللذين كانا متدينين كذلك. ويقول: كان محمد إقبال يستيقظ باكرا يُصلي الفجر ويتلو القرآن ويُسبّح، وكان قلبه عامرا بالشوق، مُفعما بالحب للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وتجده يُطرّز شعره ويُجمّله بذكر الحبيب المصطفى: إذا كنت مخلصا للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، فحينها سيصبح الكون كله طوع يديك.

ويعود الحفيد إقبال ليشير إلى أن جده كان ينظر إلى نفسه على أنه لا يتعدى موجة صغيرة في محيط جلال الدين الرومي، ويستحضر ما كتبه في افتتاحية كتابه “أسرار النفس” الدافع وراء كتاباته، فيقول: في أحد الأيام غشيه النعاس بينما كان في حالة تيّقظ عقلي، وكان يذكر الله ثم غلبه النوم، ورأى في المنام جلال الدين الرومي الذي أقبل عليه قائلا: لقد حان الوقت لتكتب ديوانك لتنير دروب البشر من النار المتوقدة في داخلك.

وتتذكر منيرة إقبال -ابنة محمد إقبال- والدها العلامة قليلا عندما كانت صغيرة، وتقول: لم أكن أعرف أي شيء عن العالم، فلقد كنت صغيرة جدا حينها، كنت أجلس مع والدي، وكان يمنحني الاهتمام والرعاية ويغمرني بالكثير من الحب.

أما حفيده الآخر يوسف صلاح الدين، فيقول إن جده كان يستيقظ أحيانا في منتصف الليل فزعا ويطلب قلما وورقة، ثم تنتابه حالة من الارتعاش والاهتزاز، وبعد أن تنجلي هذه الحالة كان يشرع في الكتابة.. “هذه القصص سمعتها من خالي ومن أمي”.

قال لي العلم غرورا: إنما العشق جنون

قال لي العشق مجيبا: إنما العلم ظنون

لا تكن سوس الكتاب يا أسيرا للظنون

فمن العشق شهود.. ومن العلم حجاب

من لهيب العشق ثارت ثورة في الكائنات

وشهود الذات للعشق، وللعلم صفات

ومن العشق ثبات وحياة وممات

علمنا سؤل جلي.. عشقنا خافي الجواب

“أشرقت الشمس من الأفق وانقضى النوم العميق”

يُفسّر رئيس الأكاديمية الباكستانية للأدب “محمد يوسف خشك” ما يصفه بالسر الكامن وراء العنوان الظاهر لقصيدة محمد إقبال “طلوع الإسلام”، مُرجعا ذلك إلى بداية القصيدة:

“إن خفوت ضوء النجوم دليل الصباح المنير”؛ فالدليل على قدوم الصباح هو تلاشي النجوم فعليا وذهابها. “أشرقت الشمس من الأفق وانقضى النوم العميق”؛ أيها الإنسان استيقظ من الغفلة الآن، فالشمس قد أشرقت، ويمكنك تشبيه الشمس هذه بالشمس ذاتها التي نعرفها وتحمل الكلام على ظاهره، لكن لو فسّرت هذه الشمس باليوم الجديد أو العهد الجديد فسيفتح أمامك خيارات مجازية متعددة.

الكلية الحكومية بمدينة لاهور حيث تلقى محمد إقبال دراسه الجامعية

وعن دراسات محمد إقبال يقول البروفيسور أصغر زيدي نائب مستشار الكلية الحكومية في لاهور، إن الكلية الحكومية تأسست عام 1864، وأصبح محمد إقبال طالبا فيها بين عامي 1895-1899. ومع بداية القرن الجديد في عام 1900 أصبح مدرسا في هذه الكلية، وكانت له شعبية كبيرة بين الطلاب، وكانت غرفته مقصدهم.

ويرى أصغر زيدي أن زيارة الغرفة التي مكث فيها العلامة محمد إقبال يعطيك إحساسا تلقائيا بالإلهام، حيث إن أعظم المفكرين في عصرنا كان طالبا وعاش في هذه الغرفة، وخلال فترة دراسته بدأ يخط كتاباته الأولى التي تحدث فيها عن رحلاته المتخيلة إلى السماء، وعن التنظير الشامل للنفس البشرية، والحاجة الملحة للمرء لفهم أهمية ذاته.

“أسرار النفس”.. هجوم على الصوفية الاتكالية في القارة الهندية

يرى الحفيد إقبال صلاح الدين أن كل فيلسوف أو مفكر لديه نقطة محورية تتركز حولها الأفكار، وبالنسبة لمحمد إقبال فإن مفهوم الذات أو الأنا هو الجزء المركزي لأفكاره، وكل شيء مبني حول ذلك المفهوم.

أما البروفيسور رؤوف باريخ فيقول إن هناك أمرا مثيرا للاهتمام في فلسفته وأفكاره، فقد كان بالتأكيد رجلا متدينا، واستلهم الكثير من جلال الدين الرومي، إلا أنه كان ضد الصوفيين، وبالتحديد ضد فئة معينة من التصوف كانت منتشرة في به القارة الهندية في تلك الأيام، لأنه كان يعتقد أن بعض الصوفيين لديهم بعض الممارسات غير الإسلامية في الأساس.

ويضيف أنه في مقدمة كتابه “أسرار النفس” -الذي نُشر للمرة الأولى عام 1915- هناك أربع مقطوعات ضد الذين انحرفوا من الصوفية، لأنه يُؤمن أن الإسلام علمنا أن ننهض، وأن نعمل بجد، وأن نفعل ما بوسعنا، ولكن الصوفيين -المشار إليهم- يُحاولون إقناع الناس بالاستكانة والتواكل وترك العمل، بدعوى أن هذا قدر الله.. نعم الحياة كلها بقدر الله، ولكن محمد إقبال يُشدد على أن الاجتهاد والعمل من قدر الله كذلك، وهو الجالب لعونه تعالى.. عليك أن تفعل كل ما في وسعك، وعندها فقط سيساعدك الله عز وجل.

ويؤكد الحفيد إقبال صلاح الدين أن كتاب “أسرار النفس” كان اتجاها معاكسا لأفكار الصوفية الوحدوية بشكل كلي، باعتبار أن الصوفية الوحدوية دعت إلى نفي الذات، بينما فلسفة محمد إقبال تقوم على إثبات الذات. إذ يقول: إن الضعفاء يفقدون أنفسهم في الله، والأقوياء يكتشفونه داخل أنفسهم.

اتهامات الكفر.. كيد المنافسين في مضمار الشعر

يُشير الشاعر ظفر إقبال إلى أنه قد أُلصقت بمحمد إقبال فتوى الكفر، وبمن خالفه أيضا، مع أن الاختلاف شيء طبيعي، وهو من علامات الجودة، وهو نفسه كان يقبل هذا الاختلاف، لكن لا يخلو الأمر من أناس سيئين يختلفون معه، ثم تتملكهم الغيرة ويعمي أبصارهم الحسد، ويتضح منهم الحقد؛ ولسان حالهم: هذا الرجل شاعر، ونحن أيضا شعراء، فكيف ارتقى لهذه المكانة؟ كان هناك الكثير من القضايا التي اختلف معه حولها أشخاص عدة، لكنها اختلافات فرعية، ولم تكن هذه الاختلافات في الأصول والمبادئ الفكرية.

ويذكر الحفيد إقبال صلاح الدين أن الكتاب الثاني لمحمد إقبال هو “رموز النفس”، وقد كتبه من أجل تطوير الذات الجمعية للأمة، وفي نهاية الكتاب يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام قائلا: إذا جاءت كلمة واحدة من كلماتي من خارج حدود القرآن أو من خارج تعاليمك، فقم بإهانتي أمام الأمة يوم القيامة، واحرمني من تقبيل قدميك.

مكتبة العلامة محمد إقبال الزاخرة بالأدب والأشعار

أما الحفيد الآخر يوسف صلاح الدين، فيشير إلى أن جده يعتقد أيضا أن المتعصبين كبّلوا الأمة الإسلامية بما نسميه التقاليد بدلا من تعليم الأمة الإسلام الحقيقي وتعاليم النبي عليه الصلاة والسلام.

وبحسب البروفيسور أصغر زيدي نائب مستشار الكلية الحكومية في لاهور، فإن محمد إقبال كان -منذ كتاباته الأولى- ضد الملالي إلى حد كبير، ويرجع ذلك إلى اعتقاده بأن تفسير الملالي للإسلام سيقودنا إلى المزيد من الأفكار المتطرفة التي تُحيلنا إلى عدم تقبل قيم الإسلام المختلفة والمتعددة، لذلك لم يكن يُؤيد التفسيرات التقليدية الضيقة للإسلام بقدر ما كان يعمل على تفسير حديث للإسلام، وأسلوب حياة يمكننا من خلاله أن نعيش بسلام مع الأديان الأخرى.

كل لحظة هي مجد جديد للمؤمن

وصفاته دليل على وجود الله فيه

قهار وغفار وقدوس وجبار

إن وجود هذه الصفات الأربع في المرء ستجعله مسلما

“إن أوروبا جعلتني مسلما”.. عصارة الرحلة إلى الغرب

يقول رئيس الأكاديمية الباكستانية للأدب محمد يوسف خشك إن محمد إقبال كان فيلسوفا، وبقي تلميذا للفيلسوف الكبير “توماس أرنولد” الذي كان مُلهما له، وهو الذي اصطحبه إلى المملكة المتحدة من أجل استكمال دراسته.

وهنا تلفت المديرة العامة لأكاديمية محمد إقبال البروفيسورة بصيرة أمبرين إلى أن توافر عناصر العلوم المختلفة في أوروبا أدى إلى إطلاق فكر محمد إقبال نحو آفاق رحبة جديدة، وفضاءات متعددة، لدرجة أنه يقول: إن مناخ أوروبا غيّرني. بل يقول: إنهم جعلوني مسلما، إن أوروبا جعلتني مسلما”.

كتاب محمد إقبال “ديوان الأسرار والرموز”

وتُعبّر بصيرة عن حيرتها من عبارته هذه، مؤكدة أنه كان ذكيا جدا وعبقريا، فقد درس الثقافة وملأ نفسه روحانية مستنيرة، وتزوّد من التعليم الديني، ثم ذهب إلى أوروبا لدراسة حضارتهم. لقد تعمّق في دراسة أنظمتهم المتعددة، وخصوصا السياسية، مما أدى إلى تغير في تفكيره، فعاد من أوروبا وكأنه محمد إقبال جديد، فلم يعد يتحدث عن بلد أو منطقة معينة، بل أصبح يتحدث عن العالم الإسلامي بأسره بصفته وحدة واحدة.

أما الحفيد إقبال صلاح الدين فيقول إن محمد إقبال خلال زيارته إلى إنجلترا رأى قوة الغرب، وهو ما سبب له ثورة فكرية جعلته يتساءل: لماذا يُراد للمسلمين أن يتخلفوا عن ركب الأمم المتطورة في العالم؟ وتوصل لاستنتاج يقوم على ثلاثة أسباب رئيسية تُبيّن بالفعل سبب تنكّب المسلمين عن الدرب، ووصف ذلك في مقولاته: كل ما بقي هو مرآة ضمائركم يا حاشية السلطان والملالي وزعماء الصوفية الكبار.. لقد فقدتم صفاء الضمير، فأنتم لا تستطيعون امتلاك القدرة على تمييز الصحيح من الخطأ، لأنكم أصبحتم مسحوقين تحت وطأة هذه القوى الثلاث؛ الحكم الملكي، وحكم الملالي، وبعض فئات الصوفية التي تسلبكم قوة الصراع.

“أنا جندي عادي فقط من جنوده”.. دعوة لانفصال باكستان الإسلامية

يقول المدير العام لقسم تعزيز اللغة الوطنية البروفيسور رؤوف باريخ متحدثا عن فلسفة محمد إقبال الخاصة إن من المؤكد أنه استمد إلهامه من الفيلسوف “هيغل” وفلاسفة آخرين، لكنه لم يأخذ أفكارهم على ظاهرها، بل درسها وأضاف إليها وطوّرها ليخرج بفلسفته الخاصة. لقد مر إقبال في تطوير فلسفته أو رسالته بعدة مراحل؛ في المرحلة الأولى كانت تُسيطر عليه مشاعر الانتماء للقومية الهندية، ولكن في المرحلة الثانية أدرك أن عليه توسيع آفاقه، وأن يتحرر من هذا النطاق الضيق.

وهنا يلفت البروفيسور أصغر زيدي إلى أن محمد إقبال كان قوميا في الأساس، لذ كان حديثه مُنصبّا على كامل أراضي شبه القارة الهندية، بمعنى أنه كان يخبر الناس أننا بحاجة إلى أن نحب الهند الباكستانية التي كانت لا تزال في ذلك الوقت تحت الاحتلال البريطاني، لكنه أدرك تدريجيا أن المسلمين بحاجة على دولة منفصلة، وكان هذا هو الوقت الذي انقلب فيه على فكرته الأولى: أرض مشتركة واحدة في عموم الهند، وبدأ في التنظير والعمل لهذه الفكرة، وكتب عددا من الرسائل للقائد محمد علي جناح لإقناعه أننا بحاجة الآن للنضال من أجل أرض إسلامية منفصلة. توصّل العلامة محمد إقبال في النهاية إلى استنتاج أنه لا يوجد شخص آخر يمكنه قيادة المسلمين في شبه القارة الهندية غير محمد علي جناح.

محمد علي جناح مؤسس باكستان وصديق محمد إقبال

ويذكر الحفيد إقبال صلاح الدين أنه قبل أشهر من وفاة محمد إقبال، جاء القائد الهندي جواهر لال نهرو لزيارته، وقام بتحريضه، وقال له: في الحقيقة أنت الشخص الذي تجب عليه قيادة مسلمي شبه القارة الهندية، فمن هو محمد علي جناح؟ لا أحد يعرفه. وقام بازدراء القائد الأعظم، ورغم أن محمد إقبال كان مريضا وطريح الفراش، فقد نهض من فراشه، وتحدث لنهرو قائلا: “لقد أتيت اليوم لتحاول إحداث خلافات بيني وبين القائد الأعظم.. حسنا دعني أخبرك شيئا: محمد علي جناح هو القائد الوحيد لمسلمي شبه القارة الهندية، وأنا جندي عادي فقط من جنوده.

ويُوضح الشاعر ظفر إقبال أنه في ذلك الوقت كان لإقبال تأثير كبير في الصعيد السياسي، لأنه كان زعيم رابطة مسلمي عموم الهند، وحليفا للقائد الأعظم، وقد احتلت هذه القضية مكانة مهمة لأنهما كانا على المسار نفسه، وقد اختلف الناس حولها أيضا؛ فمن كان ضد انفصال باكستان، وقف ضد محمد إقبال ونظريته، وقد أدى هذا الاختلاف إلى وصفه بالشرير والفوضوي، وأنه جاء ليُقسّم وحدة الهند، لكن حركته كانت كبيرة وجذّابة، كان لديه شغف كبير بها، فلم ينجح من خالفه في عرقلته، ولم يستطيعوا وقفه.

وفي تسجيله لأحداث عام 1940 -الذي شهد تأسس باكستان- كتب سيد مطلوب الرحمن سكرتير القائد الأعظم أنه بعد الاجتماع الذي أُقر فيه تأسيس باكستان نظر القائد الأعظم إلى قبر محمد إقبال وقال: لو أن إقبال كان حيا اليوم فسيكون سعيدا لأننا فعلنا ما أراد منا فعله.

ويرى الشاعر الغنائي أمجد إسلام أمجد أنه عندما عرض العلامة محمد إقبال فكرة تأسيس باكستان لم يكن لدى الشعب في ذلك الوقت الوسائل لتنفيذها، لكن فكره وفلسفته وتحليله ظلت القلب النابض والروح النشطة لهذه الفكرة، وقد مكّن شعبنا وقادتنا من تحويل الحلم إلى حقيقة، وإنشاء بلد مثل هذا حيث يمكنهم التنفس بحرية، أظن أن هذا أكبر ما يجمع بينه والناس، فهي ثمرة الحرية التي يجتمع الناس لقطافها.

“اجعلوا العصفور الخائف جريئا لمواجهة كراهية الصقر”

تقول الصحفية كيران بات إن أي امرأة يمكنها أن تتلاقى مع محمد إقبال لأنه كان دائما مدافعا عن حقوق المرأة، لقد كان صوته عاليا وهو ينادي بتعليم المرأة ويطالب بحقوقها، لأنه كان يقود حركة لتأسيس باكستان، وكان يعلم أن هذا الحراك غير ممكن دون مشاركة النساء، فالحراك لم يكن مقتصرا على الرجال، بل شاركت النساء في وضع أسسه مثل فاطمة جناح التي أطلعت على أفكاره وعملت معه على نقل الفكرة إلى النساء، فكرة الحرية؛ حيث سيكون للمرأة وطن، وستكون لها الحرية في الخروج باطمئنان إلى الأماكن العامة والتنقل.

لكن الناشط السياسي والموسيقي تيمور رحمن يُضيف بعدا آخر للعلامة محمد إقبال، إذ يُؤكد أنه لم يكن وراء قيام باكستان فقط، بل الأمر أبعد من ذلك بكثير لأن مشروعه يتعلق بنهضة العالم الإسلامي كله، وفي هذا الصدد كان يحاول أن يقتبس من بعض التيارات الفكرية السائدة في عصره، ومنها على سبيل المثال فلسفة “كانط”، بالإضافة إلى الأفكار الاشتراكية جنبا إلى جنب مع الأفكار الديمقراطية، والأهم بالنسبة له كان دائما دينه الإسلامي، ومحاولة دمج هذه الأفكار وصهرها في بوتقة واحدة لإيجاد جدلية جديدة يمكن أن نسميها النتيجة التي يمكن أن تكون سببا لنهضة العالم الإسلامي.

حديقة إقبال الكبرى على بوابة مدينة لاهور بجوار منارة لاهور ومسجدها الكبير

أما الإعلامي مظهر برلاس فيشير إلى أن محمد إقبال اشتهر بأنه فيلسوف الحرية، فقد تحدث عن فلسفة المساواة في العالم مُبيّنا معالمها ورافعا للوائها، وأولى الطبقة العاملة والمزارعين اهتماما كبيرا، مستذكرا قوله في أحد أشعاره:

الحقل الذي لا يحصل الفلاحون منه على طعامهم فاحرقوا كل حبة قمح فيه.

هبوا وأيقظوا فقراء دنياي

وهزوا جدران قصور الأمراء

وبثوا الحمية في دماء العبيد بحرقة اليقين

واجعلوا العصفور الخائف جريئا لمواجهة كراهية الصقر

وامحوا ما يلوح لكم من آثار قديمة

فقد حل حكم الشعب

ابحثوا عن الحقل الذي لا يكون حصاده خبزا كافيا للفلاحين الذين يكدون فيه

فاحرقوا كل حبة قمح فيه

فلماذا هذه الحجب التي تحول بين الخالق والمخلوق

أخرجوا رهبان الكنيسة من الكنيسة

ومن الأفضل أن تطفئوا مصابيح الدير والحرم

إنهم يسجدون لله ويطوفون بالأصنام

أنا غير راض عن ألواح الرخام وكاره لها

فابنوا من أجلي حرما آخر من الطين

إن الحضارة الحديثة مصنع لصانعي الرخام

فعلّموا آداب الجنون لشاعر الشرق

“كن كطائر الشاهين في حدة بصره”.. أشعار أسست باكستان

يذكر عامر رفيق قرشي مؤسس مشروع “الشاعر في حديقة إقبال الكبرى” أن محمد إقبال ألهمه كثيرا منذ أن كان طفلا في المدرسة، في ذلك الوقت عرفت أنه كان بطلا قوميا، لذلك اتخذت هذه الخطوة لاستكشاف فكر شاعرنا الوطني الأكبر عندما جرى التخطيط وإنشاء باكستان، وأرى -ككل الباكستانيين- أن ذلك لم يكن ليقع لولا جهده واجتهاده، وبسبب تدفق كلماته المؤثرة وعمق شعره وبعد معانيه، لهذا السبب فهو موحد الأسرة الباكستانية، وبهذا الفكر الراقي -الذي وضع أسسه- أراد أن يبني دولة جديدة مختلفة وهي دولة باكستان.

ويوضح أن كل الأشعار الموجودة في مشروع “الشاعر” وقع اختيارها بشكل انتقائي وبعناية فائقة من قِبل المختصين الذين رسموا تلك الثقافة وأضفوا عليها ظلالا لتنتج صورة متكاملة للعلامة محمد إقبال، ليتمكن الناس من معرفتها ودراستها، لقد كتبوا نذرا يسيرا ووضعوه بين أيدينا ونال تقدير الناس، وأعتقد أنه نابع من أعماق قلوبهم، لأنشرن شعره في كل مكان، فهذه الأرض كلها تعد جنة محمد إقبال الكبرى.

تعود الصحفية “كيران بات” لتؤكد أن نجم محمد إقبال لم يأفل، لأنك أينما تذهب إلى المدرسة أو الكلية أو إلى أي مناظرة فإن القضية الأولى التي سيختارونها هي الحديث عن إقبال، لذا فإن ما يحدث لنا كمجتمع هو أننا نحاول إضفاء طابع المثالية على شخصيته، علينا إذن أن نتبع ما قاله خصوصا فيما يتعلق بالشباب ووصفه لهم بالصقور: “كن مثل طائر الشاهين في حدة بصره”، فهو يحدد المسافة قبل الانقضاض. وتُضيف: “أظن أننا لا نزال غير قادرين على إدراك معاني هذه الكلمات، لأننا في اللحظة التي نفهم فيها هذه الكلمات سنحلق في فضاء آخر”.

“الصقور الشابة لا تسقط أبدا من تحليقها”.. رسالة إلى الشباب

تنظر المرشدة الروحية سامية خان إلى محمد إقبال بطريقة مختلفة، فهي على يقين أن شعره ليس شعرا فقط، لكنه رسالة: “إذا كنت تريد أن تعيش في سلام فارفع رأسك وعش”.. هذه هي رسالته إلى أمته. ويقول لقومه: “ابحثوا عن الكلام النابع من القلب، وعن الروح المشتعلة حماسة، تسلكوا طريق سفر مريحا”. ثم يبعث برسالة إلى الشباب من قومه أن: “الصقور الشابة لا تسقط أبدا من تحليقها”.. هذا هو تصور “إقبال” لصقور الشاهين: “صقور الشاهين لا تتعب أبدا من الطيران إنها مفعمة بالحيوية، إذا كنت كذلك، فإن الموت بالنسبة لك ليس خطرا”.

كان محمد إقبال يحث الشباب على مضاهاة الشاهين في عليائه وكبريائه

ويقول الحفيد يوسف صلاح الدين إن محمد إقبال كان يحث الشباب على مضاهاة الشاهين، وهو طائر جارح يشبه الصقر، ولكنه يملك ميزات خاصة كان يريدها أن تكون في الشباب؛ أولها أن الصقر لا يبني منزلا، ثانيها أنه يطير على ارتفاع عال. وهذه أفكار نبيلة شديد التركيز، عيناه حادتان يتمكن من خلالهما النظر إلى البعيد، مما يعني أنه عندما يكون بإمكانك النظر بعيدا، فإنه سيكون بإمكانك إدراك الكثير.

ويرى البروفيسور رؤوف باريخ أن رسالة محمد إقبال انتشرت في العالم كله، وقد تُرجمت أشعاره للغات شتى، ومثال ذلك غناء أم كلثوم -التي تعد من أعظم المغنين في الوطن العربي والعالم أجمع- أشعاره التي تُرجمت إلى اللغة العربية، وقد أبقى ذلك شعره في ذاكرة الكثيرين.

حديث الروح للأرواح يسري
وتدركه القلوب بلا عناء

هتفت به فطار بلا جناح
وشق أنينه سبر الفضاء

ومعدنه ترابيٌّ ولكن
جرت في لفظه لغة السماء

لقد فاضت دموع العشق مني
حديثا كان علوي النداء

فحلق في رُبا الأفلاك حتى
أهاج العالم الأعلى بكائي

وهنا يلفت الشاعر أمجد إسلام أمجد إلى أن محمد إقبال أتقن العربية والفارسية، بجانب الأوردية، وقد اجتمعت هذه اللغات في بنية شعره لتشكل جوانب مختلفة من الحضارة الإسلامية.

جامعة محمد إقبال المفتوحة.. وعاء الفلسفة والفكر الإسلامي

يقول البروفيسور ضياء القيوم متحدثا عن جامعة محمد إقبال المفتوحة -وهو نائب مستشارها- إنها تأسست لتحمل الفلسفة الشعرية ومعانيها الباطنة التي أنجزها خلال حياته، ومواصلة نشر رسالته في إعادة بناء الفكر الإسلامي، وإعادة بناء الفكر الإسلامي في العالم.

ويضيف أن الجامعة تعمل على ذلك من خلال نشاطات أكاديمية مختلفة خاصة على مستوى المدارس والكليات حتى يتمكن الطلاب والجيل الشاب من الوصول إلى المفاهيم التي اهتم بها محمد إقبال لزرع الثقة في النفس، وخاصة عن التفوق في العمل ومواجهة تحديات العالم.

تكريما وتقديرا لإسهاماته الكثيرة، أطلق اسم محمد إقبال على أكثر من مؤسسة تربوية في باكستان

ويُركّز البروفيسور أصغر زيدي على ضرورة أن تلعب أفكار محمد إقبال دورها في الوقت الحالي، خاصة في مرحلة تواجه فيها الأمة الجيل الخامس من حرب المعلومات، إضافة إلى ما يصفها بـ”السموم التي تبث في المجتمع”، مشددا على ضرورة العودة إلى الإرث الأدبي والفكري لمحمد إقبال، ودراسته في جوهره الأساسي القادر على التخطيط للمستقبل، مؤكدا أنه سيأتي ملايين الشعراء، لكن لا أحد منهم مثل محمد إقبال.

“إن موت شاعر عالمي كإقبال مصيبة تفوق احتمال الهند”

عن أيام محمد إقبال الأخيرة، تقول مديرة أكاديميته البروفيسورة بصيرة أمبرين إنه أُصيب بأمراض عدة، تلك الحالة التي بيّنها المقربون منه، فقد كان يتألم كثيرا في آخر حياته، كان يشعر بألم في القلب والجسم، وقد عبّر عن هذا الألم بنفسه، وصرّح لمن حوله: “إنني أتألم كثيرا”، وحاول بعضهم إقناعه بأخذ إبرة أفيون لتسكين الأم، والشعور ببعض الهدوء والراحة، ولكنه رفض وقال إنه لا يريد أن يفقد الوعي، لأنه لا يريد تسليم روحه لربه وهو في حالة من عدم الوعي، وقد كتب راوي القصة أنه ما إن نطق لفظ الجلالة من فمه حتى أسلم روحه لله، وكان ذلك في وقت الفجر.. وهكذا توفيت شخصية عظيمة وكان آخر كلامه يحمل في طياته هداية وإرشادا.

أين الروح المؤثرة في حياتي؟

أين البرق في حصاد العمر؟

إن منزلته هي في محراب قلبي

الله أعلم أين مقام القلب

مزار العلامة إقبال في مدينة لاهور حيث الحراسة التشريفية على مدار الساعة

وهكذا تُوفي العلامة محمد إقبال في 21 أبريل/نيسان 1938 في مدينة لاهور بعد حياة حافلة بالعلم والشعر والفلسفة والحب، فتأثرت بلاده بذلك؛ وعُطلت المصالح الحكومية، وأغلقت المتاجر أبوابها، واندفع الناس إلى بيته، ونعاه قادة الهند وأدباؤها من المسلمين والهندوس على السواء، حتى قال عنه رابندرانات طاغور شاعر الهند: لقد خلّفت وفاة محمد إقبال في أدبنا فراغا أشبه بالجرح المثخن الذي لا يندمل إلا بعد أمد طويل، إن موت شاعر عالمي كإقبال مصيبة تفوق احتمال الهند التي لم ترتفع مكانتها في العالم.