“محمد وردي.. زول هومبيا”.. ألحان نوبية أزعجت العسكر وصنعت ثورات السودان

يمثل الفنان محمد وردي انعكاسا كليا للحالة السودانية بكل تقلباتها، فمنذ الاستقلال في 1956 وحتى ما بعد ثورة ديسمبر 2018، بقي وردي حالة توثيقية للمجتمع السوداني بكافة أطيافه، وأحد أعلام الموسيقى السودانية بمختلف مدارسها.

وقد رصدت الجزيرة الوثائقية هذه الحالة الوطنية، وسجلتها في فيلم بعنوان “محمد وردي.. زول هومبيا”.

 

من الطبشور إلى العود والبوق.. رحلة المعلم الموسيقي

ولد محمد وردي في 19 يوليو/تموز 1932 بوادي حلفا شمال السودان، وتلقى تعليمه بمعهد التربية لتأهيل المعلمين، ثم انتقل بعد استقلال السودان في 1956 إلى الخرطوم للعمل بالتدريس، وهناك كان على موعد لتحقيق حلمه في احتراف الغناء، ففي 1957 ترك وردي الطباشير وأمسك العود وبوق الإذاعة ليعلن عن مولد مطرب متميز جديد.

كان محمد وردي نوبيّا بامتياز، فقد كتب أشعارا كثيرة باللغة المحلية لأهل النوبة، وساعدته خلفيته الموسيقية على آلة الطنبور في أن يكون مغنيا حاذقا. أضف إلى ذلك أنه نشأ على حب الغناء منذ نعومة أظفاره، وكان لوجود آلة الغرامافون في بيته -مذ كان صغيرا- الأثر الكبير في صقل شغفه بالغناء والموسيقى.

قال عنه علي شمو وزير الإعلام والثقافة الأسبق: جاءنا إلى قاعة الاختبارات يحمل عودا، كان نحيلا سريع المشية واثقا من نفسه، وغنى بصوت جميل وبأداء مركز، فاستزدنا منه على مدار نصف ساعة مرتين وثلاثا، وبدا لنا بعد ذلك أنه فنان رصين مكتمل الأركان.

أصبح وردي موهبة غنائية صاعدة تهتم بها الإذاعة والتلفزيون، ويغير من شكل الأغنية السودانية رغم حداثة سنه، مستخدما الإيقاعات الأفريقية المميزة ليشكل موجة الحداثة الغنائية الجديدة، ويصل بها إلى كل ربوع السودان.

شكل محمد وردي الأغنية السودانية مستخدما الإيقاعات الأفريقية المميزة حتى أصبح ضيفا دائما في التلفزيون والإذاعة

“أغنية الحقيبة”.. قفز فوق حواجز الفن السائد

كان محمد وردي شديد الاحتفاء بالموسيقى، يبدأ أغانيه بمقدمة موسيقية طويلة، وكان له دور كبير في كسر قاعدة “أغنية الحقيبة”، وتجاوز السائد من الكلام والألحان، على أنه لم يكن موسيقيا فقط، بل هو مفكر موسيقي يطوع الأدوات الموسيقية في إيصال أفكاره للمستمع، ويطرق بوعي على المقامات الخماسية وخصائصها، وعلى الإيقاعات السودانية في خلطة سحرية وصلت بالأغنية النوبية للعالمية.

كان يَطرَب له الوطنيون والعاطفيون والمثقفون الرمزيون على حد سواء، واستطاع أن يرضي جميع الأذواق، وأن يستخدم لغة الجسد بشكل احترافي ليجذب كل حواس الجمهور إليه، فتراه على خشبة المسرح أو منصة الإذاعة كما لو كان مدرسا يريد إيصال فكرته إلى طلابه بكل الوسائل والأساليب.

أخذ وردي لقبه الذي اشتهر به من البيئة النوبية، فهي تطلق على من يحترف الغناء لقب “هومبيا”، وأنتج خلال رحلته عددا كبيرا من الأغنيات النوبية في الحب وعشق الأرض وتعظيم الوطن. كان صوت وردي كأنه سراديب، تصدر منها نغمات عجيبة، وغنى جميع الإيقاعات السودانية، بل الإفريقية والعالمية كذلك.

مع انقلاب أكتوبر 1964 غنى محمد وردي أغنية “أكتوبر الأخضر”

“استقلال السودان”.. عصر القومية العسكرية في المشرق

اجتاحت العالم العربي موجة من الحراك السياسي يقودها العسكريون، ووصل صداها إلى السودان، وانجذب وردي مثل غيره نحو الشعارات الوطنية التي رفعتها السلطة، وتغنى احتفالا بوصول اللواء إبراهيم عبّود إلى الحكم في 17 نوفمبر/تشرين ثاني 1958، ورغم أنه لم تكن له خلفيات فكرية آنذاك، فقد غنى لعبود تماشيا مع النمط السائد في مصر وغيرها، من تمجيد السلطة القائمة.

غنى وردي “يقظة شعب” و”استقلال السودان” وهي أغنية خالدة ما زال يتغنى بها السودانيون حتى يومنا هذا، لكن سرعان ما تحطمت الشعارات التي لم يجد لها وردي صدى على أرض الواقع، فبدأ أول صدام سياسي مع السلطة على خلفية نوبية بحتة، وذلك عند اتفاق عبود مع عبد الناصر على بناء السد العالي، مما سيؤدي إلى إغراق النوبة، واعتقل على إثرها ومنع من الغناء في وسائل الإعلام العامة.

في هذه الفترة تبلورت شخصية وردي اليسارية بكل ما تعنيه من صراع مع اليمين والوسط، وأودع السجن إلى جانب الكثير من الشيوعيين واليساريين، ولكنه خرج من السجن بوساطة سياسية بعد فترة وجيزة.

مع انقلاب مايو 1969، أصبح محمد وردي مطلوبا للسلطات لانتمائه الفكري المعارض

“مجموعة الأكتوبريات”.. مطرب الوطن وصانع وقود الثورة

في أكتوبر/تشرين أول 1964 تفجرت ثورة شعبية للإطاحة بعبود، وكانت أغاني وردي هي الوقود الحقيقي لهذه الثورة، حتى أصبح وردي بعد الثورة مطرب الوطن الكبير بلا منازع، وغنى مجموعة من الأغاني الثورية الساخنة، كانت تسمى “مجموعة الأكتوبريات”.

في مايو/أيار1969، عاد الحكم العسكري من جديد لينهي العهد الديمقراطي الثاني في البلاد، وليرفع العسكريون شعارات الاشتراكية والعدالة والتنمية، وتلتف الجماهير حول السلطة من جديد، لكن الحكم العسكري سرعان ما كشف عن حقيقة ثانية، فبدأ يعادي الأصوات المغايرة لتلك النغمة التي يطرب لسماعها.

كان وردي عضوا في الحزب الشيوعي، وكان من زكّاه للحزب هو السكرتير العام التاريخي للحزب الشيوعي السوداني عبد الخالق محجوب عثمان، وكان وردي يتولى حمل المنشورات السرية للحزب من العاصمة إلى كافة الأقاليم، وكان يقوم بتغطية نشاطاته السرية من خلال حفلاته التي يحييها في أنحاء السودان، وذلك بإخفاء المنشورات داخل الآلات الموسيقية للفرقة المصاحبة.

لحن وردي كلمات أغنية “قلت ارحل” وغناها ورفاقه في السجن

“لقد داهموا منزلنا ليلا”.. غناء ثوري يكسر صمت السجون

تمرد وردي مرة ثانية على حكم العسكر، وتنكر للأغاني التي غناها في انقلاب مايو/أيار، ونسج أغاني جديدة على عكس منوال ما سبق. ثم غنى لانقلاب آخر في يوليو/تموز 1971 أغنية “حنتقدم.. باشتراكية لآخر حد”، فاعتقل بعدها مباشرة وكاد أن يفقد حياته، وعندما عاد نميري في نفس الشهر إلى الحكم بعد فشل الانقلاب، أصبحت كل القوى اليسارية بين عشية وضحاها داخل السجون.

وعن تلك الأحداث تقول ابنته صباح وردي: كان الوضع مرعبا جدا، لقد داهموا منزلنا ليلا، وصوبوا البنادق على رأس والدتي، وكانت قوات أخرى من الجيش تحاصر المنزل من الخارج، مما يشير إلى مدى رجعية هذه السلطة التي تحاول تكميم أفواه الفنانين والمثقفين بهذه الطريقة، لأنهم نادوا بالحرية والديمقراطية فقط.

مكث وردي في السجن 13 شهرا، وكانت زوجته تُهرِّب إليه بعض القصائد الثورية التي يؤلفها شعراء يساريون، ومنها قصيدة “قلت أرحل” للشاعر التيجاني، حيث لحنها داخل السجن وغناها برفقة السجناء.

في لقاء نادر مع الفنان محمد وردي، قال عن فترة سجنه: نُسِجت قصائد وأشعار داخل سجون السودان أكثر وأجزل بكثير من القصائد التي ألفها (مطبلاتية مايو)، فكان الشعر يصدر من سجن كوبر، ويلحن في سجن شالة.

كان السجناء يستخدمون أصواتهم لتمثيل الآلات الموسيقية، ويؤلفون مع بعضهم “كورالات” تردد وراء المطرب الرئيسي، وكانت قلوبهم تتقطع ألما وهم يسمعون حفلات إعدام رفاقهم في الحزب على بُعد أمتار من زنازينهم.

بعد منع بث أغانيه في السودان، انتشر فن محمد وردي في ربوع أفريقيا فأصبح من أشهر مغنيها

“أسفاي”.. فن رمزي يصنع أغلال الداخل ويعبر حدود الخارج

في أواسط السبعينات غنى وردي أغنية “أسفاي”، وكانت تبدو أغنية عاطفية للوهلة الأولى، ولكنه حين كان يغنيها أمام قيادات مجلس قيادة الثورة، كان يشير بيده تجاههم عند لفظ كلمة “أسفاي”، فصارت لها إسقاطات سياسية، وهكذا كان يفهمها الشعب، الأمر الذي كان يؤدي غالبا لاعتقال وردي بعد الحفلة مباشرة.

منعت أغنيات وردي مرارا من أن تذاع في الإذاعة والتلفزيون السوداني، ولكن بلادا كثيرة مجاورة مثل أثيوبيا كانت تحرص على إذاعة أغنياته بشكل يومي، بل وانتشر فنه في ربوع أفريقيا، ووصل العالمية يوم أن حاربه بلده، أو نظام بلده بتعبير أدق، وبذلك أصبح عابرا للحدود بفنه، حتى أصبح المطرب الأجنبي الأول في دول مثل الكاميرون وبينين وإريتريا، وهو أول من فاز بجائزة الشاعر التشيلي “بابلو نيرودا” للسلام، وهذا الشاعر كان حائزا على جائزة نوبل للسلام.

وعندما سقط انقلاب مايو النميري في 1985، غنى وردي كما لم يغنّ من قبل، لكن نشوته لم تطل، فقد قفز العسكر للمرة الثالثة عام 1989 إلى سدة الحكم، ورفعوا هذه المرة شعارات إسلامية، وأصبح اليسار مجددا في مرمى نيران السلطة، فوجد وردي نفسه في مواجهة مع الحكام الجدد، وهنا بدأ رحلة البحث عن منفى آخر.

حرقت السلطات معظم أشرطة أغنيات وردي في الإذاعة، ومنع صوته مجددا من أن يشدو في وطنه، وامتدت غربته من 1989 إلى 2002 تقريبا، لكن أفريقيا كلها كانت تحتفظ بأغانيه بين طيات ذاكرتها المتعبة المنكوبة، وكان تردد أشعاره كلما اغتالت مشانق الاستبداد رقاب الثوار، وتسترجع صداها كلما استباح خيراتها المحتلون البيض.

مع اعتلاء البشير سدة الحكم في 1989، غادر محمد وردي البلاد لأكثر من عشر سنوات، ثم عاد واستقبله البشير بنفسه

إيقاع النوبة.. ضريبة النرجسية واللون الواحد

كانت الأنا متضخمة عند محمد وردي، وكان معتدا بنفسه إلى حد كبير، وكان يوجه سهام نقده اللاذع لغيره من الفنانين، ويقلل من شأنهم، ولذا كان كثير من الناس يرون في وردي شخصية متعالية أكثر من كونها معتدة بنفسها، حتى أنه لم يتعاون مع غيره من الفنانين، وقد يكون هذا حرمه من إضافات فنية كثيرة إلى تجربته، فخرج فنّه بلون واحد.

وما زالت الأغاني التي أيد فيها وردي انقلاب نميري نقطة سوداء في سجله الفني الطويل الناصع البياض، فالناس تريد أن يكون وردي دائما في صف الشعب، مهما تبدلت الحكومات وتغير الحكام.

اقتصر وردي على لون واحد من الإيقاع السوداني المتعدد، وهو اللون النوبي، وربما كان ذلك قد أفقده شرائح أكثر من جماهير المستمعين، وخلق حساسية مع غيره من الفنانين.

الرئيس السوداني البشير يصلي الجنازة على الفنان محمد وردي

عشر سنوات من مكافحة المرض.. معاناة المنفى الأخير

في 2002 عاد محمد وردي إلى السودان مريضا منهكا، ولكنه كان عنيدا يقاوم ضعفه، وكان يزيل جهاز غسيل الكلى عن نفسه بيده ويذهب إلى المسرح ليغني. لم يعد وردي تحت أي لافتة سياسية، ولا نتيجة صفقة تصالحية، رجع بشخصه ولشخصه، ولكن هذا لم يمنع أن يستقبله البشير بنفسه، رفقة بعض قيادات الإنقاذ.

بقي وردي يصارع المرض حتى 18 فبراير/شباط 2012، ليرحل يومها رحيله الأخير بعد معاناة طويلة مع المرض، منهيا مسيرة فنية امتدت نصف قرن من الزمان، وليبقى صوته مؤرقا للظلم والاستبداد. رحل بجسده، لكن لم تزل روحه باقية ترفرف حول الأطفال الذين يرددون أغنياته، وقد بقي صوته الأسطوري يحلق في فضاءات أفريقيا والعالم.

ذهبت ديكتاتوريات ودُفن المنقلبون، وبقي فنّ وردي وصوته باقيا، وترك للمكتبة الإذاعية والتلفزيونية أكثر من 300 أغنية باللغة العربية، و120 أغنية باللغة النوبية.

وقد عاد صوته ليشدو من جديد بين شباب السودان في ثورة السودان الجديدة التي حدثت في ديسمبر/كانون أول 2018، وتلك أغنياته عادت حاضرة في الميادين، تلهب جيلا كاملا، وتلهمه أبجديات الحرية من جديد.