محمود حميدة.. ذلك “المغرور” الرائع!

أسامة صفار

 

كلما همّ أحد مذيعي البرامج الفنية بالتنمر على محمود حميدة باتهامه بالغرور، يأتي الرد الصادم من الفنان المصري اعترافا صريحا يزايد فيه على المذيع، ومشيرا إلى اتهام والدته له بالتهمة نفسها، ثم يؤكد أنه يحاول التخلص من هذه الصفة كلما ضبط نفسه يمارسها.

وحميدة هو نفسه الرجل الناضج الذي يبدو صلبا وخشنا ومتعاليا، والذي تتربص به دموعه عند أقرب موقف عاطفي خاصة عندما يتعلق الموقف بواحدة من بناته الأربع، ليكشف الرجل أن ما يبدو غرورا وصلابة ليس إلا غطاء خارجيا لشخص شديد الحساسية والهشاشة، علّمته قسوة التجارب معنى الألم.

ومحمود حميدة ليس مجرد ممثل “صف أول”، ولكنه مثقف “صف أول” اضطره سوق الفن أن يسعى للانتشار أولا عبر المشاركة في أعمال تجارية ومن ثم قرر أن يختار.

وعبر مشوار فني بدأ فعليا في نهاية التسعينيات من القرن الماضي قدم محمود حميدة 63 فيلما و12 مسلسلا تلفزيونيا و6 مسلسلات إذاعية، بالإضافة إلى العديد من الندوات الشعرية التي قدم خلالها قصائد للشاعر فؤاد حداد، كما شارك في أفلام قصيرة وتسجيلية لطلاب ومخرجين يخطون بتأنٍ خطواتهم الأولى في عالم السينما، وحصل على سبع جوائز من مهرجانات مصرية وعربية ودولية كأفضل ممثل، بالإضافة إلى ست جوائز تتعلق بالإنتاج.

وتشمل خريطة عمالقة التمثيل في مصر أسماء كبرى، لكن يبقى اسم “محمود حميدة” علامة فارقة على المستويين الإنساني والفني، وقد لا يكون محمود أكبر الأسماء أو أكثرها تحقيقا للإيرادات في شباك التذاكر، لكنه بالتأكيد أكثرها إثارة للصخب والجدل.

 

محمود.. فلاح أرستقراطي

نشأ حميدة معلَّقا بين طبقتين اجتماعيتين، فهو ينتمي من جهة الأم إلى الأرستقراطية بغناها الفاحش وتقاليدها العريقة في كل ما يتعلق بالطقوس اليومية، وينتمي من جهة الأب إلى عائلة من الفلاحين بإحدى قرى محافظة الجيزة بمصر. ولأن حجم الاختلاف والتناقض بين الطبقتين كبير جدا فقد انصرف إخوته الأربعة عن الريف بكل ما فيه، وانطلقوا من المدينة حيث ولدوا بمنطقة مصر الجديدة في القاهرة، بينما عاش محمود كل تقاليد الطبقتين.

كان يعمل في الزراعة كأي فلاح أجير حين يحلّ في منزل عائلة والده أسبوعيا، ويجلس على مائدة العشاء بكل طقوسها الأرستقراطية في منزل عائلة والدته، ورغم ذلك كان تلميذا منضبطا ومتفوقا في دراسته حتى التحق بكلية الهندسة في جامعة القاهرة.

كان محمود هو الابن الأكبر لابن وحيد لواحد من أعيان ريف الجيزة، وكان منبهرا بجدّه إلى حدّ التوحد معه، رآه قويا وغنيا فقرر أن يكون مثله فبدأ العمل فلاحا منذ سن التاسعة، وأصبح تاجرا خبيرا في سن الخامسة عشرة، لكن وفاة جده أعادته إلى والده الذي علمه أن قيمة الإنسان ليست في كونه غنيا بل في كونه يعمل فيما يحب.

ومنذ طفولته كان الولد الصغير جادا في استخدام تفاصيل البيئة المحلية في قرية جده لبناء مسرح، وممارسة هوايته المفضلة وهي التمثيل إلى جوار القراءة.

وبعد التحاقه بكلية الهندسة ظهرت مفارقة العيش بين طبقتين، وبدأ محمود معها البحث عن ذاته، لكنه وعبر مشواره الفني والحياتي جمع المتناقضات في شخصه وفي اختياراته بشكل فاجأه أحيانا وفاجأ الآخرين دائما.

محمود حميدة ساهم في مشروع الشباب مع الوكالة الألمانية للتعاون الفني ووزارة التخطيط لدعم المواهب الفنية

 

طاقة كامنة في عيون مغلقة

ويسجل تاريخ التمثيل في مصر بأنه لم يجرؤ ممثل في تاريخ السينما المصرية والعربية على تمثيل دور “جثة” لشخص ميّت عبر فيلم كامل سوى محمود في فيلم “جنة الشياطين” من إخراج أسامة فوزي، وحصل محمود الذي قدم دورا يخشى الإقدام عليه أي ممثل مهما كانت نجوميته على أربع جوائز في التمثيل عن الدور.

وطبقا لمُنظّري فن التمثيل فإن العنصر الأهم في تأثير الممثل على المشاهد هو تلك “الطاقة الكامنة” التي تطلقها عينا الممثل فتتسرب إلى روح ووجدان ومشاعر المشاهد، لكن تلك العيون كانت مغلقة لدى “طبل” بطل فيلم “جنة الشياطين” الميّت، ورغم ذلك فقد أجاد محمود التعبير بملامح ساخرة أحيانا ونزقة أحيانا وفرحة أحيانا أخرى، وكل ذلك طبقا لما يتطلبه الأداء الحي في الفيلم.

ورغم البداية المبكرة في عالم التمثيل فإن دوره في الفيلم الذي أنتجه بنفسه عن رواية البرازيلي “جورج أمادو” وسيناريو مصطفى زكريا يستحق أن يكون في مقدمة ما يمكن رصده عنه.

 

هوس يراود مثقف الصف الأول

وأصيب محمود منذ وقت مبكر بما يمكن أن يُسمى “هوس فؤاد حداد”، حيث صادف أن جلس مع صديقه الروائي الكبير الراحل “خيري شلبي” فأهداه ديوانا للشاعر المصري ذي الأصول الشامية فؤاد حداد، ومن يومها لم يفارق محمود روح الشاعر من خلال شعره الذي ظلّ مُلهما له وطريقا سلكه محمود عبر مشواره وحتى الآن. ولم تكن روح حداد بالنسبة لمحمود شعرا فقط، لكنه حالة من الشفافية الصوفية والمعرفة الحقيقية لمعاني الأشياء والمفاهيم الأصيلة للحياة والعمل والإبداع والثقافة والرجولة والحب أيضا.

ولعل فترة المراهقة التي عاشها محمود وامتدت من 1970 حتى 1977 هي التي شكلت ما عُرف بعد ذلك بممثل ينتمي في حقيقة الأمر إلى قبيلة المثقفين، وذلك باعتباره قارئا مجتهدا وعاشقا للموسيقى وصاحب رؤية يعبر عنها حين يتطلب الموقف، وتمتد من الفني والاجتماعي والثقافي وحتى السياسي.

 

اختيارات لا تتعلق بما يحب

استقر محمود -الذي غاب عن امتحاناته الجامعية بسبب عمله بالرقص الشعبي والتمثيل- أخيرا وقرر أن يتوقف عن الفشل، فقام بالانسحاب من دراسة الهندسة بعد سبعة أعوام ودرس التجارة وتخرج من الجامعة عام 1981، لكن الممثل الذي انطلق من اللحظات الأولى في وعيه بذاته لم ينهزم أبدا إذ كان عضوا في فريق التمثيل بكل المدارس والجامعات التي تنقل بينها، وحتى بعد تخرجه ظلّ يقدم الأدوار على مسرح الجامعة ويشارك بأدوار صغيرة في أعمال درامية تلفزيونية حتى لفت نظر مخرج الدراما المصري أحمد خضر عام 1986، فأسند إليه دور البطولة في مسلسل تلفزيوني حيث لقي أداؤه اهتمام العاملين والمهتمين بصناعة السينما في مصر، ثم انطلق للعمل كممثل سينمائي في أدوار مختلفة في عدد من الأعمال الفنية السينمائية.

كانت اختيارات محمود في تلك الفترة لا تتعلق بما يحب أن يقدم بل بما يجعله معروفا لدى أكبر نسبة ممكنة من الجمهور، لذلك شارك فيما يسمى “أفلام المقاولات” بكل قوته وبدأ بفيلم الأوباش عام 1986 ثم سيدة القاهرة، وأتيحت له الفرصة لمشاركة النجم الأشهر حينها أحمد زكي بطولة فيلم “الإمبراطور” عام 1991، وفي العام نفسه شارك عادل إمام فيلم “شمش الزناتي”.

 

عنان الأحلام ينطلق

أدرك محمود في ذلك الوقت أنه وصل إلى المساحة الأكبر من الجمهور، وأن عليه أن يطلق العنان لتحقيق أحلامه، فانطلق بروح المثقف والفنان وصانع السينما ليُنشئ شركة إنتاج وأستوديو للممثل ومؤسسة للمواهب ومجلة سينمائية متخصصة، فقام عام 1996 بتأسيس شركة البطريق للإنتاج الفني والخدمات السينمائية التي قدمت العديد من الأعمال الفنية سواء من إنتاجها الخاص، أو القيام بأعمال المنتج المنفذ لجهات فنية أخرى.

وبالاضافة إلى “جنة الشياطين” أنتج محمود أفلام “جمال عبد الناصر” من إخراج أنور القوادري (1998)، والفيلم التسجيلي “نازك الملائكة” من إخراج خيرية المنصور (2000)، وفيلم “ملك وكتابة” من إخراج كاملة أبو ذكرى (2005)، ثم الفيلم التسجيلي “جلد حيّ” من إخراج فوزي صالح (2010) الذي حصل على عدة جوائز وعُرض في أكثر من مهرجان دولي ويعتبر أول فيلم تسجيلي مصري يباع على أقراص مدمجة للجمهور.

الممثل الكبير محمود حميدة كان بطل مسلسل الدراما التلفزيوني المصري “الأب الروحي” عام 2017

 

مشاريع فنية تدعم المواهب

وساهم محمود حميدة في مشروع الشباب مع الوكالة الألمانية للتعاون الفني ووزارة التخطيط لدعم المواهب الفنية، وإنتاج مسرحية “ألوان رقع بقع” عام 2002، كما أنتج حفلات موسيقية لعازف الكمان العالمي “عبده داغر” في دار الأوبرا ومعهد الموسيقى العربية والجامعات المصرية، وعددا من الأمسيات الشعرية للشاعر الكبير “فؤاد حداد”، وقام بتكوين فرقة عمل كاملة لتقديم تلك الأمسيات بدار الأوبرا ومعرض الكتاب الدولي ومكتبة الإسكندرية.

وأسس عام 1996 أستوديو الممثل مستعيناً بأهم المختصين لجعل هذا الأستوديو مركزا لتدريب وصقل المواهب الشابة إيماناً منه بضرورة امتزاج الموهبة والمنهج العلمي ليكون نتاج هذا تمويل هذه الصناعة بهذه الكوادر الفنية والمؤهلة، وذلك لمسايرة التطور السريع والهائل لهذه الصناعة في أوروبا وأمريكا وبلدان العالم المختلفة.

في عام 1997 قام بتأسيس وإصدار مجلة “الفن السابع”، وهي أول مطبوعة عربية سينمائية متخصصة بصناعة السينما في الشرق الأوسط، حيث كانت الأعمال الفنية -سواء المحلية أو العالمية- تأتي على صفحاتها بمختلف ألوانها واتجاهاتها ليقوم فريق العمل بإلقاء الضوء عليها وتحليلها من مختلف زواياها، لتصل بعد ذلك إلى المختصين والقائمين على هذه الصناعة وكذلك جمهور القراء بصورة صادقة وحيادية. لذلك اعتبرها الدراسون لهذا النوع من الفن مرجعا تاريخيا لمختلف الأعمال سواء أكانت محلية أم عالمية.

وحتى أعوام قليلة مضت كان محمود حميدة يعتبر التلفزيون من المحرمات عليه كنجم سينما، ويعلق قائلا إن “الدراما التلفزيونية وسيلة حكي بدائي، بينما السينما حالة اختزال وتكثيف، السينما إبداع والتلفزيون حواديت (حكايات)”. لكن الممثل الكبير قدم أخيرا “الأب الروحي”، ويحسب له أنه آخر من لجأ إلى الشاشة الصغيرة في ظل أزمة الإنتاج السينمائي الكبرى في مصر.

فيلم “بحب السيما” رُفِعت عليه 145 دعوى قضائية تتهمه بازدراء الدين المسيحي، واتهم مخرجه وكاتبه “المسيحيان” بالكفر حينها

 

“بحب السيما” ودعوى ازدراء المسيحية

لم تقتصر معارك محمود حميدة على تحديات المهنية المختلفة في أدوار مثل دور “طبل” في فيلم “جنة الشياطين”، لكنه خاض معركة كبرى أخرى في فيلم “بحب السيما” الذي يعد دوره فيه واحدا من علامات السينما المصرية في التمثيل، فضلا عن الفيلم الذي يعد حالة فنية مدهشة ومتجددة. وجاء التحدي في الفيلم من أنه يتناول لأول مرة التطرف الديني المسيحي من خلال أب يحكم بيته بالحديد والنار، بينما يحاول ابنه الموهوب الخروج ببراءة من دائرة التحريم التي لا تنتهي، وحين يصطدم الأب بسلوك الشرطة ويتعرض للإذلال يكتشف ضعف إيمانه وزيف استقامته فيعيد صياغة أفكاره ليرحل راضيا.

ورُفِعت على “بحب السيما” 145 دعوى قضائية تتهمه بازدراء الدين المسيحي، واتهم مخرجه وكاتبه “المسيحيان” بالكفر حينها.

وقدم محمود في فيلم “ملك وكتابة” تمثيلا يرقى لمرتبة “الممثل الفيلسوف” عبر دور أستاذ أكاديمي يعيش حياة روتينية خشنة لا مكان فيها للإنسانيات كنتيجة مباشرة لتعرضه لخيانة زوجة سابقة، لكن تلميذته في الجامعة (قامت بدورها الممثلة التونسية هند صبري) تعيده إلى الحياة عبر كشف الوجه الآخر لها، ليؤكد الفيلم أن الحياة أيضا عملة ذات وجهين.

وكثيرا ما أثار محمود الصحافة الفنية برفضه مقولة “الممثل العالمي” مبررا ذلك الرفض بقوله “لا يوجد فرق بيني وبين روبرت دي نيرو، أنا أمثل في العالم وهو يمثل في العالم، لا يوجد ممثل عالمي وآخر نصف عالمي”. كما يرفض تقديم العلماء على الفنانين قائلا “لا يستطيع العالم الكيميائي أو الفيزيائي أو غيره أن يعمل على فكرة اختراع إلا إذا جاءت من حلم الفنان، الفنان يحلم والعالم يحقق الحلم”.