محمود عبد العزيز.. جاسوس بقرار جمهوري

 

أسامة صفار

ينفرد الممثل المصري الراحل محمود عبد العزيز من بين نجوم السينما المصرية بأنه الوحيد الذي تم تكليفه بأداء دور معين بتوجيهات مباشرة من رئيس الجمهورية، ولعله أشهر أدواره على الإطلاق هو “رأفت الهجان” عام 1987 في المسلسل الشهير بالاسم نفسه، والذي يدور حول جاسوس مصري زُرع في إسرائيل.

وتعود القصة إلى بدء البحث عن أبطال المسلسل من قِبَل كل من المؤلف صالح مرسي والمخرج يحيى العلمي، إذ تحدّث مرسي إلى محمود عبد العزيز الذي استجاب فورا ودون أي ملاحظات ووافق على القيام بالدور، لكنه فوجئ بمن يخبره أن عادل إمام هو الذي سيتعاقد للدور بناء على طلب “المخابرات العامة”.

 

استسلم الممثل الذي يعرف قيمة العمل وسافر لأداء شعائر العمرة، وكان سفره مواكبا لزيارة يقوم بها الرئيس مبارك في ذلك الوقت إلى السعودية، حيث فوجئ الرئيس بالممثل محمود عبد العزيز يرتدي زيا سعوديا تقليديا، ويقف بين مستقبليه من الأمراء أسفل الطائرة، وسأله “ما الذي جاء بك إلى هنا”؟

روى محمود عبد العزيز مشكلته بالتفصيل للرئيس المصري، وعاد إلى مصر حيث فوجئ باتصال هاتفي من “المخابرات العامة” يعتذر له لواء صاحب منصب كبير عن سوء الفهم، ويخبره أنه حدّد له موعدا لتوقيع العقد مع مسؤولي الإنتاج في التلفزيون المصري.

محمود.. علاقات بين الأبيض والأسود

مسلسل “رأفت الهجان” هو درّة الأعمال التلفزيونية للنجم المصري محمود عبد العزيز الذي كان ممثلا عبقريا أمام الشاشة لكنه أفشل الناس في التمثيل بعيدا عنها، لذلك انقسمت علاقاته الإنسانية والفنية بين الأبيض والأسود فقط، فإما أصدقاء وإما أشخاص لا يراهم ولا يود أن يراهم، وهي سمات شخصية تختلف كثيرا عن السمات التي ينبغي أن تتوافر فيمن يوجد في الوسط الفني، لذلك كان عبد العزيز دائما في مساحة خاصة شبه منعزلة، لا يتواصل مع الآخرين إلا في مناسبات تتعلق بالعمل، أما عالمه الخاص فخارج الوسط الفني .

محمود عبد العزيز ابن منطقة “الورديان” بالإسكندرية اكتسب صفات البحر بتقلباته المفاجئة وعشقه للحرية وثورته الدائمة على التنميط

 

واكتسب محمود عبد العزيز ابن منطقة “الورديان” بالإسكندرية صفات البحر بتقلباته المفاجئة وعشقه للحرية وثورته الدائمة على التنميط، وتمتع الرجل حتى آخر لحظات عمره بقلب طفل وعقل لا يتوقف عن التفكير والقلق بشأن المستقبل، ودفع ضريبة حلمه بالتمثيل سنوات من المعاناة، إذ ساءت علاقته مع والده المتدين الذي لم يكن يرغب في أن يكون ابنه في الوسط الفني، وطُرد من منزل عائلته وقاطعه والده حتى بعد نجاحه لفترة، لكن محمود دأب على محاولة إرضاء والده دون كلل، فلم يقبل الأب إلا بوعود “الالتزام بالصلاة” و”الزواج” و”عدم التورط بأي علاقات نسائية”.

محمود.. يتحدى خيبة صديقه

ورغم تخرجه من الجامعة عام 1967 إلا أن انطلاقه في مشوار النجومية تأخر حتى عام 1974، حيث بدأ بفيلم الحفيد، وتنوعت أدوار محمود عبد العزيز ما بين الشاب الوسيم والأب الحنون والكوميدي الرائع والشرير الخطير والجاسوس وعميل المخابرات البارع.

وكانت سنوات ما قبل الشهرة والنجاح “ميلودراما” حقيقية، حيث ذهب محمود عبد العزيز إلى صديقه الوحيد في مبنى التلفزيون المصري وهو المخرج محمد فاضل (الذي حصل على فرصة إخراج مسلسل) وقال له: أنا انتهيت من دراستي الجامعية، وأريد أن أمثل؟ كان رد فاضل صادما وغريبا، إذ أكد له أنه لا يصلح للتمثيل، وأنه لن يستطيع أن يوظفه بأي شكل في أيّ عمل، بل وأوصى مساعده بإغلاق باب الأستوديو وعدم السماح للممثل الشاب بالدخول. خرج محمود عبد العزيز من مكتب صديقه، بينما تدور في رأسه مشاهد مسرحيتين قدمهما من إخراج محمد فاضل بمسرح جامعة الإسكندرية وسؤال: لماذا؟

حساسية وقلق ابن الإسكندرية القادم إلى عالم الفن كانت هي محور أزماته التي أثرت على مشواره بشكل فعلي

 

كان محمود قد ترك عمله كمعيد في معهد البحوث الزراعية، وخرج شبه مطرود من بيت والده الذي رفض بشكل قاطع أن يكون ابنه ممثلا، وفي النهاية تلقى طعنة الرفض من خيط الأمل الوحيد الذي كان معلقا عليه.

انقلب السؤال إلى غضب هائل وشعور بالمهانة لم يتخلص منه محمود حتى رحل عن عالمنا عام 2016، ودفعه ذلك الغضب يومها للبحث عن وطن آخر يُخفي فيه فشله عن نفسه وعن الآخرين فكانت النمسا، وتحول المعيد السابق بمعهد البحوث الزراعية بمصر إلى “بائع صحف” في شوارع فيينا.

عاش محمود عاما كاملا في النمسا حتى هدأ تماما وأيقن أن محمد فاضل ليس نهاية الطريق، فعاد ليعلن التحدي ويشارك بأدوار صغيرة في بعض المسلسلات، حتى استعان به المخرج “نور الدمرداش” في دور بمسلسل “الدوامة” (1973) الذي لفت إليه الأنظار، وقدم بعدها البطولة الأولى، وبلغ مجموع أعماله السينمائية 84 فيلما بدأها بـ”الحفيد” عام 1974 وأنهاها بفيلم “إبراهيم الأبيض” عام 2009.

محمود الكوميديان.. ضحية مشوار الممثل التراجيدي

كانت حساسية وقلق ابن الإسكندرية القادم إلى عالم الفن هي محور أزماته التي أثرت على مشواره بشكل فعلي، وأدت إلى احتقانات حقيقية بدأت من المخرج محمد فاضل مرورا بالممثل حسين فهمي ثم عادل إمام والسيناريست والمخرج رأفت الميهي وغيرهم، ورغم ذلك كان كل الذين اختلف معهم يعرفون قيمته الفنية جيدا، بينما يعيش هو أصعب اللحظات مع كل ذلك ويرهَق روحيا وجسديا، وقد تأثرت إدارة محمود عبد العزيز لموهبته بحدة مزاجه وتقلباته، فلم يقدم سوى 84 فيلما عبر ما يقرب من 50 عاما.

أبدع النجم المصري في كل ما قدم من أدوار، لكن أسهمه في “سوق الإيرادات” جاءت متقلبة فأثرت على استقراره النفسي دائما، حيث اعتبرها معيار نجاحه وإقبال الجمهور عليه، بينما كان يميل لاختيارات فنية تتعلق بعمق ورُقي لم يكن يتوافر في جمهور السينما دائما.

النجم الإسكندراني سجل اسمه في سجل عمالقة التمثيل في تاريخ السينما المصرية، وذلك بدور “الشيخ حسني” في الفيلم الذي يدور في حي الكيت كات

 

ورغم تنوع أدواره يبقى “الكوميديان” محمود عبد العزيز هو الضحية الكبرى في مشوار الفتى الوسيم والممثل التراجيدي، إذ امتلك قدرات ممثل كوميدي مذهل لكنه لم يُظهر سوى جزء ضئيل منها في أعمال مثل “الشقة من حق الزوجة” (1985)، و”الدنيا على جناح يمامة” (1989)، و”السادة الرجال” (1987)، كما قدم عددا من الأدوار المتنوعة ما بين الرومانسية والكوميدية والواقعية، منها “مع حبي وأشواقي” (1977)، و”كفاني يا قلب” (1977)، و”ضاع العمر يا ولدي” (1978)، و”البنات عايزه إيه” (1980)، و”إعدام طالب ثانوي” (1982)، و”العار” (1982)، و”الكيف”(1985).

كما حصل محمود عبد العزيز على العديد من الجوائز الدولية منها جائزة “أفضل ممثل” في مهرجان القاهرة السينمائي عن فيلم “سوق المتعة”، وجائزة مهرجان زنجبار الدولي عن فيلمه “القبطان”.

الكيت كات..  الحقيقة بعين الكفيف

سجل النجم الإسكندراني اسمه في سجل عمالقة التمثيل في تاريخ السينما المصرية، وذلك بدور “الشيخ حسني” في الفيلم الذي يدور في حي الكيت كات، وظهر الشيخ حسني الكفيف كما لو كان عين الحقيقة التي ترصد يوميات أبناء الحي الفضائحية وهمومه التي لا تحتمل.

كتب السيناريو المخرج داوود عبد السيد إضافة إلى الإخراج، وذلك اقتباسا من رواية “مالك الحزين” للروائي إبراهيم أصلان، واستطاع أن يصنع فيلما متميزا عن عمل أدبي متميز، وحظي الفيلم باهتمام نقدي وجماهيري استمر عرضه الجماهيري أكثر من عشرين أسبوعاً، وشارك في عدة مهرجانات محلية ودولية منها مهرجان الإسكندرية، حيث حصل على جوائز أفضل ممثل وسيناريو وتصوير وديكور. وفي مهرجان دمشق الدولي حصل على جائزة “السيف الذهبي” مناصفة مع فيلم كوبي وجائزة “أفضل ممثل”، أما مهرجان جمعية الفيلم فقد أهداه ثماني جوائز هي أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل سيناريو وأفضل ممثل وأفضل مونتاج وأفضل موسيقى وأفضل ديكور وأفضل ملصق إعلاني.

 

ودفعت الحساسية والقلق والخوف محمود عبد العزيز إلى رفض ما يقارب من 12 سيناريو بعد نجاح الكيت كات خوفا على رصيده، وهو ما أبعده عن السينما لفترة خصمت من رصيد جماهيريته وتواجده في سوق السينما.

العار..  فرصة العمر

يعد فيلم “العار” الذي أنتج عام 1982 من بين أفضل الأفلام التي أنتجت في عقد الثمانينيات، حيث لقي نجاحاً كبيراً عند عرضه على المستويين الجماهيري والنقدي، وأشاد به النقاد والمهتمون واعتبروه حينها فيلم الموسم، فقد حصل على جائزة الإخراج في مهرجان مانيلا السينمائي الدولي، وانتزع أفضل ثلاث جوائز من مهرجان جمعية الفيلم السنوي، متجاوزاً أفلاما هامة مثل “حدوتة مصرية” ليوسف شاهين و”العوامة 70″ لخيري بشارة، والثلاث جوائز هي أفضل فيلم وإخراج وسيناريو، والفيلم هو أول فيلم للثنائي الشهير علي عبد الخالق مخرجا ومحمود أبو زيد كاتبا.

نجاح فيلم العار وبروز محمود في الدور أدى إلى مسار سينمائي نتج عنه أفلام “الكيف” و”جري الوحوش”

 

وهو دراما اجتماعية إنسانية مشحونة بالإثارة والتشويق تحكي عن أسرة تاجر عطارة تعيش في يسر واستقرار نفسي واجتماعي، وفجأة يموت رب الأسرة ويتضح فيما بعد أنه كان من أكبر تجار المخدرات، وبعد معرفة الأسرة المنكوبة بهذا السر الخطير، يبدأ في التأثير على مسار الأحداث والشخصيات وفضح كوامنها، ويبرز الفروق بين الممارسات الاجتماعية والإنسانية وبين الصورة الحقيقية للشخصيات خاصة الأبناء الثلاثة  للتاجر الراحل، وبينهم الطبيب النفسي محمود عبد العزيز الذي قدم دورا مختلفا تماما، وأضاف إلى السيناريو ما لم يره فيه غيره، وقال علي عبد الخالق مخرج الفيلم في تصريح تلفزيوني عن قبول عبد العزيز للدور “تحمس محمود عبد العزيز لفيلم العار بمجرد قراءته للسيناريو، واعتبره فرصة العمر بالنسبة له، حيث كان يقدم من قبل أدوارا شريرة ورومانسية، ليدخل بهذا الفيلم في سياق مختلف، وكان شرطه الوحيد ألا يتم تغيير أو حذف كلمة واحدة من السيناريو”. وكان عبد العزيز هو الاختيار الثاني للدور وليس الأول، إذ عُرض على يحيى الفخراني أولا فرفضه، ورأى أن الشخصية سلبية وباهتة، لكنه حين شاهد أداء محمود في العمل عبّر عن ندمه.

“الكيف” و”جري الوحوش” و”الساحر”.. مسار سينمائي

وأدى نجاح فيلم العار وبروز محمود في الدور إلى مسار سينمائي نتج عنه أفلام “الكيف” و”جري الوحوش”، حيث يناقش “الكيف” قضية المخدرات وتأثيرها على المجتمع من خلال قصة أخوين الأكبر “صلاح” (يحيى الفخراني) الذي تخرج من كلية العلوم قسم الكيمياء وعمل في إحدى الشركات الحكومية بعد حصوله على درجة الدكتوراه ويعيش حياة هادئة مع زوجته رجاء وابنه الوحيد كوكي، أما الشقيق الآخر “جمال” فقد فشل في حياته العلمية بعد أن تم فصله من كلية الحقوق ولم يجد غير طريق الضياع مع الموسيقيين والأفراح الشعبية وتجار المخدرات وأصبح مدمنا للحشيش. ويصنع صلاح لجمال خلطة من الحنة ومواد العطارة والزيوت تشبه الحشيش، وذلك ليقنعه أن الكيف ما هو إلا وهم، تنجح الخلطة وتعجب مدمني الحشيش.

أما فيلم “جري الوحوش” فشارك فيه ثلاثي فيلم “العار” محمود عبد العزيز ونور الشريف وحسين فهمي، وطرح الفيلم فكرة الرضا بما قسمه الله لكل عبد من عباده، “سعيد” (نور الشريف) رجل ثري ليست لديه القدرة على الإنجاب يقابل صديقه الجراح العالمي “نبيه” الذي عاد لتوه إلى مصر وأجرى عملية ناجحة لقردين تمهيدًا لتجربتها على البشر، العملية هي نقل غدة في الرأس من القرد المنجب لقرد عقيم، تجعل الأول قادرًا على الإنجاب دون مضاعفات سلبية للاثنين، يقابل سعيد عبد القوي (محمود عبد العزيز) الذي يعمل منجدا ويعاني ضيق الحال فيقنعه أن يكون هو “القرد المنجب”، ويغريه بالمال ويحرر عقدًا بهذا.

ويلتقي المخرج المثقف رضوان الكاشف المهموم بالمهمشين مع محمود عبد العزيز فيصنعان معا فيلما ينضح بالألم والبهجة والأمل، وهو فيلم “الساحر” (2001)، حيث يقدم دور “منصور بهجت” الساحر المعتزل الفقير الذي يعيش مع ابنته المراهقة وحيدين، ويحاول الخروج من اكتئابه بجلب السعادة والبهجة للآخرين، لكن يظل شغله الشاغل حماية ابنته من أخطار الحياة، خصيصاً وقد سكنت بالقرب منهما امرأة مطلقة يرتاب منها، وبالفعل تحدث العديد من التغييرات بسبب هذه السيدة. والفيلم من بطولة سلوى خطاب ومنة شلبي وتأليف سامي السيوي.