“محمود مرسي” .. الغول النبيل

ياسر ثابت

بعينيه الفيروزيتين، كان النموذج الذكوري من أسطورة ميدوسا في الميثولوجيا الإغريقية.. نظرة واحدة كفيلة بتحويل الناس إلى حجارة.حضوره الذي يثير في النفوس رعدة، تمتزج بإعجاب بهذا “الغول” في الأداء والمهابة، هو ما حفر له مكانة راسخة في تاريخ الفن والتمثيل. آثر ألا يكون صدى لأحد فصاغ لنفسه لحنـًا متفردًا. ممثل متوهج خارج المنافسة، ومخرج متمكن من أدواته وثقافته الفنية، وإنسان نبيل، عميق الثقافة، واسع الأفق. إنه محمود مرسي (7 يونيو 1923 – 24 إبريل 2004)، الذي زهد في الإعلام، واختفى عن سهرات الفن.. فكان أستاذًا في الفن.

هو «عتريس» في «شيء من الخوف» وعامل الفنار «الريس مرسي» في «زوجتي والكلب»، و«عبد الهادي» في مسلسل «زينب والعرش»، وضابط السجن «فتحي عبد الهادي» في فيلم «ليل وقضبان»، و«بدران» في فيلم «أمير الدهاء»، والأستاذ الجامعي «فؤاد» في «الباب المفتوح»، والأب المعلم في مسلسل «العائلة»، والمؤلف في «بنات أفكاري»، والنصاب في «الثعلب فات» و«السيد عبد الجواد» في «بين القصرين» التلفزيونية.. و«السيد أبو العلا البشري» في رحلته التلفزيونية المدهشة، وهو أيضـًا المناضل المهزوم في «السمان والخريف» والمواطن المكافح في «حد السيف» والإنسان فوق العادة في «الرجل والحصان».
ومع ذلك، كان يقول: «التمثيل بالنسبة لي في جميع المراحل كان أقرب إلى الكرة التي أحاول التخلص منها فأقذفها بقوة، وعلى طول يدي وإلى آخر المدى، لكنها ترتطم بالجدار لتعود لي أكثر قوة… زكي رستم أحسن ممثل جاء في هذا البلد على الإطلاق».

كان والده مرسي بك محمود نقيب محامي الإسكندرية في عشرينيات القرن العشرين، الذي له شارع باسمه في محرم بك، عضو مجلس الشيوخ وصاحب الصالون الأسبوعي كل خميس لأصدقاء الفن والأدب والثقافة والسياسة والطرب، وكان من المترددين الشيخ سيد درويش الذي استحوذ على أنّات وآهات الأفوكاتو الدامعة المتوجعة ليحوِّلها بدوره إلى موال ألم لم يزل لوقتنا هذا يجيش بمعانيه وتأوهاته في صدور المحبين المقهورين المغلوبين على أمرهم: «أنا هويت وانتهيت وليه بقى لوم العزول»!

 كانت آلام النقيب العاشق نتيجة ضغوط منزلية هائلة من جانب الزوجة أم أولاده الذكور الستة، لدفعه دفعـًا إلى تطليق زوجة السر الصغيرة الحسناء التي انكشف أمرها، وكانت قد جاءته زبونة لإقامة دعوى على الجيران فوقع في هواها وتزوجها لتنجب له محمود. ولم تمكث المطلقة الحسناء طويلًا في بيت أبيها لتنتقل إلى بيت الزوج الجديد لاشين بك نصار، الذي أنجبت له إسماعيل وصلاح ومصطفى لتغدو فاتحة خير وفير عليه.
أما محمود فقد مكثَ مع زوجة الأب بعد طلاق الأم، فما كان منها إلا أن أوعزت لزوجها كي يضعه في مدرسة داخلية وهو لم يتجاوز الخامسة حتى لا يتاح له الخروج من أسوارها إلا مرتين في العام.. عيد الفطر وعيد الأضحى. وكانت والدته تزوره يومي الخميس والأحد، وفقـًا لما ذكرته مجلة «النجوم»، التي أضافت أنه في أحد الأيام جاءت الأمهات والآباء إلى أبنائهم في المدرسة وتخلفت والدته عن زيارته فشعر وقتها «مرسي» بالخوف والضياع والوحدة، وتعلم ألا يرتبط بأي شخص بشكل أكبر من اللازم.

كانت ذكرياته عن القسم الداخلي في المدرسة الإيطالية بالإسكندرية، تفوق ذكرياته عن باقي العالم الخارجي في تلك الفترة. بعد سنوات، والدته سيدة المجتمع، وهي التي ورث محمود عنها التمثيل، فقد كانت لديها موهبة بارعة في تقليد كل من تلاقيه ولو جلست إليه لدقائق.

من ثروة أمه الطائله، لم ينل محمود سوى مبلغ 5 آلاف جنيه، ليشق بعد ذلك طريقه بعصاميةٍ فذة؛ إذ حصل على البكالوريا «الثانوية العامة» من المنزل ونجح بتفوق ليغدو الأول على القُطر، وفي آداب الإسكندرية قسم الفلسفة التي يعشقها وينكب على قراءتها من أمهات الكتب حتى غير المترجمة، قام ببطولة مسرحية أوديب لسوفوكليس ترجمة د. طه حسين أول رئيس لجامعة الإسكندرية، الذي استحضر للفرقة الجامعية جورج أبيض للإخراج، وحلمي رفلة للماكياج، وجميع المناظر والديكورات من الأوبرا. ونجحت المسرحية التي شاركت فيها إلى جوار محمود مرسي الجوقة التي أصبحت فيما بعد كوكبة علماء ومفكري مصر، حيث كان منهم د.مصطفى صفوان أستاذ علم النفس بباريس، والدكتور أحمد أبوزيد عميد آداب الإسكندرية ورائد علم الأنثربولوجيا في الشرق الأوسط، والكاتب الكبير إدوارد الخراط، والدكتور محمد زكي العشماوي أستاذ الأدب العربي ورئيس جامعة الإسكندرية الذي قام مع محمود مرسي بترجمة كتاب «إعداد الممثل» للمخرج الروسي الشهير «ستانسلافسكي»، الذي أصبح مقررًا على جميع طلبة المعاهد المسرحية في مصر، والدكتور محمد مصطفى بدوي أستاذ كرسي في جامعة أكسفورد، والدكتور عبدالحميد صبره أول باحث في تاريخ العلوم عند العرب، والدكتور حسن عثمان أستاذ التاريخ الحديث.

سافر على نفقته الخاصة ليكمل تعليمه في الإخراج السينمائي في معهد «الإيديك» بباريس، وأمضى خمسة أعوام في فرنسا حتى انتهت أمواله، فغادرها إلى لندن وعمل هناك بهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، وبعد سبعة شهور من تعيينه وقع العدوان الثلاثي، ليقرر العودة إلى مصر.
عاد محمود ليلتقي على سلم الإذاعة بالوزير فتحي رضوان صديق والده الذي توسط له للعمل مخرجًا في البرنامج الثاني، فيقدم العديد من المسرحيات العالمية، ويخرج للتلفزيون أكثر من مسلسل وسهرة منها «القطة» لإحسان عبد القدوس، و«الحب الكبير» الذي يدور حول مفهوم الولاء للوطن. 

في مطلع الستينيات سافر مرسي إلى إيطاليا، في بعثة قصيرة لدراسة الإخراج التلفزيوني، وبعدها عاد إلى مصر، ليعمل مدرسـًا في معهدي السينما والفنون المسرحية، إلى جانب استمراره في عمله كمخرج. اشتهر محمود مرسي أيضـًا بالإلقاء وكان يؤدي الأدعية الدينية بالإذاعة المصرية.

 

 

 

 

ومن خلف الكاميرا كمخرج إلى الوقوف أمامها كممثل. ففي عام 1962 بدأ العمل السينمائي في فيلم «أنا الهارب» للمخرج نيازي مصطفى. ورغم قصر الدور فإنه لفت الأنظار بسبب أدائه المتميز لهذا الدور، فتهافت عليه المخرجون وتوالت أعماله الناجحة. كان دوره في الفيلم شريرًا، وتقاضى عنه 300 جنيه. يومها اعتقد محمود مرسي أنها المرة الأولى والأخيرة التي يقدم فيها دور شرير، ولكنه أصبح نموذجـًا جديدًا للشرير على شاشة السينما. واختير فيما بعد لتقديم عدد من الأدوار الشريرة لكن بشكل مختلف عن صور الشر التي كانت متداولة في ذلك الوقت في السينما المصرية، حيث قدم فيلم «الباب المفتوح»، عام 1963، أمام الفنانة فاتن حمامة، وكان الدكتور الجامعي «فؤاد» الذي يحافظ على المظهر رغم أنه يملك جوهرًا سيئـًا، ثم قدم فيلم « الليلة الأخيرة»، في العام نفسه، وأمام «فاتن» أيضًا، وأدى فيه دور «شاكر» الزوج الذي خدع أخت زوجته لسنوات أقنعها فيها أنها زوجته.

كان يقول «الممثل العظيم هو الذي يستطيع اقتحام الدور والخروج منه دون خوف».. وهو فعل ذلك بإتقان يبعث على الدهشة”. كانت مرحلة الستينيات أهم المراحل الفنية التي عاشها «مرسي» وقدم خلالها أفلام «العنب المر»، و«ثمن الحرية»، «الخائنة»، و«فارس بني حمدان»، ثم قدم واحدًا من أهم أفلامه عام 1967 في فيلم «السمان والخريف»، من بطولة نادية لطفي.

في عام 1969 قدم أهم وأشهر أدواره على الإطلاق، والذي ما زال راسخًا في أذهان الجمهور حتى الآن، وهو دور «عتريس» في فيلم «شيء من الخوف»، وأدى فيه دور الحاكم القاسي الظالم الذي يحكم أهل بلدته بالسطوة والنفوذ.

 

 

 

 

بدأ «مرسي» حقبة السبعينيات بفيلم من أهم أفلام السينما المصرية، حين قدم عام 1971 فيلم «زوجتي والكلب»، وأدى فيه دور «الريس مرسي» عامل الفنار، الذي ترك زوجته وسافر للعمل ثم يرسل إليها برسالة مع رجل ويندم على فعله ذلك بسبب شكه في سلوكهما معـًا.

 

 

 

 

وطوال 40 عامـًا لم يمثل سوى 25 فيلمـًا اختارها بعناية بالغة لتغدو بدورها أهم أفلام تاريخ السينما المصرية، يدافع فيها عن الحرية.. من حرية المرأة في «الباب المفتوح» عام 1963 إلى حرية الوطن المحتل في «ثمن الحرية» عام 1964، إلى حرية الوطن الذي يعاني الاحتلال الإسرائيلي في «أغنية على الممر» عام 1972 و«أبناء الصمت» في 1974، إلى حرية الإنسان كما يجسدها الإسلام في «فجر الإسلام» عام 1971.. إلى حرية الفنان في التعبير عن التناقض في التكوين النفسي للإنسان في «الليلة الأخيرة» سنة 1963 و«الخائنة» عام 1970 و«زوجتي والكلب» عام 1971 و«الشحات» 1973، وطوال ربع القرن الأخير من عام 1975 اكتفى محمود مرسي بالمشاركة في فيلمين، هما «حد السيف» 1986 ثم «الجسر» من إنتاج التلفزيون المصري عام 1998. 

فيلم "زوجتي والكلب"

ولكن عندما تم اختيار أفضل ١٠٠ فيلم في تاريخ السينما المصرية كان نصيبه منها سبعة، «الباب المفتوح» هنري بركات، «الليلة الأخيرة» كمال الشيخ، «السمان والخريف» حسام الدين مصطفى، «شيء من الخوف» حسين كمال، «زوجتي والكلب» سعيد مرزوق، «أغنية على الممر» علي عبدالخالق، «ليل وقضبان» أشرف فهمي. سبعة أفلام أي أكثر من ٢٥% من رصيده تعتبر الأفضل.
بتكوينه النفسي وإبائه وحرصه على الكمال الفني، ابتعد محمود مرسي عن السينما، ولم يقبل شروط صفقة التنازل لمجرد الحضور الفني.
انتقل إلى التلفزيون وحقق نجاحـًا منقطع النظير منذ تقديمه «زينب والعرش»، عام 1979، وحقق النجاح الأكبر في مسلسل «رحلة السيد أبو العلا البشري»، عام 1985، ثم «العائلة»، عام 1994، و«لما التعلب فات»، عام 1999.

استطاع تقديم ثلاثية نجيب محفوظ في التلفزيون بشكل مختلف عما قدمه الفنان يحيى شاهين في السينما، وأضاف روحـًا مختلفة إلى شخصية السيد أحمد عبد الجواد، الرجل الحازم في بيته، وقدم «بين القصرين»، عام 1987، ثم «قصر الشوق»، عام 1988.
 اكتفى في السنوات الأخيرة بأن يسجل عملًا من التراث المسرحي العالمي للبرنامج الثقافي في الإذاعة المصرية، مقابل مئات محدودة من الجنيهات، تسد احتياجاته المادية. 
قضى أستاذ مادة الإخراج في معهد السينما بالهرم في ثمانينيات القرن العشرين، سنوات طويلة في منزله في حي الزمالك الهادئ. لم يكن يتحمس للتكريم، حتى إنه في عام 1995 رفض ترشيحه للفوز بجائزة الدولة التقديرية في مصر لكونه «ممثلًا»، وذكر أنه لا يرى  الممثل مبدعـًا، مؤكدًا أن تلك الصفة تنطوي على المؤلف والمخرج، لأن الممثل لا قيمة له دون مؤلف جيد ومخرج له الصفة نفسها. تم إقناعه بصعوبة بقبول جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 2000، بعدما أصبحت صفة ترشيحه «العطاء الفني طوال تاريخه». 

في حوار مع جريدة «الأهرام»، تقول عنه زوجته الوحيدة سميحة أيوب والدة ابنه الوحيد الدكتور علاء محمود مرسي: «كان نموذجـًا لن يتكرر فنيـًا وأخلاقيـًا وثقافيـًا، وكان زاهدًا وعازفـًا عن ضجيج المجتمع وطبوله الجوفاء، كما أنه كان خليطـًا من عزة النفس والكبرياء والتواضع الشديد أمام العلم والمعرفة».

توفي محمود مرسي في الإسكندرية، مسقط رأسه، في يوم السبت 24 إبريل عام 2004 إثر أزمة قلبية حادة عن عمرٍ يناهز 80 عامـًا أثناء تصوير مسلسل «وهج الصيف».
اللافت للانتباه أن محمود مرسي كان كتب نعيه بنفسه ذاكرًا فيه أسماء أقرب الناس إليه وهم أصدقاء العمر، قبل أي نسبٍ عائلي.
عاش حياته على «حد السيف»، ثم رحل في «وهج الصيف».