“مصور نيويورك”.. حكاية “هارولد فاينستاين” الذي خلد يوميات المدينة

خاص-الوثائقية

“هارولد فاينستاين” أحد أهم المصورين الفوتوغرافيين المبدعين، استمرت مسيرته الفنية ستين عاما قدم خلالها مجموعة كبيرة من الصور الساحرة ذات الطابع الإنساني.

فقد كان أستاذا في التركيب ومتمكنا من أدواته، وقد جاب شوارع مدينته نيويورك و”كوني آيلاند” لينقل لنا صورا نابضة بالحياة وعميقة تحمل أطيافا روحانية، وتعكس الهدف الإنساني بداخله، ولكن رغم تفوقه فإنه بقي مغمورا، فما السبب وراء ذلك؟

في هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية نلقي نظرة على حياة وأعمال واحد من أشهر المصورين في تاريخ الولايات المتحدة، وتعكس اللقطات التي لم يسبق عرضها على التلفزيون رؤيته الفريدة للحياة التي أكسبته الكثير من المعجبين.

 

كوني آيلاند.. “خليط من البشر يعكس روح أميركا”

كوني آيلاند ساحل يمتد أميالا، ويكتظ بالناس من جميع فئاتهم العمرية حيث البهجة والشمس والبحر. يقول “هارولد” لطالما كانت “كوني آيلاند” غالية علي وستبقى كذلك، فهي ٤٤ مكان أزوره حين بدأت التصوير، وما يميزها أنها خليط من البشر يعكس روح أميركا الحقيقية، لم يكن الناس يملكون كاميرات ولكنهم لم يكرهوا التصوير، وعندما كان يراني الأطفال يقفزون أمامي.

عرف “هارولد” بحب الناس له وبقربه منهم، وامتاز بأسلوب يزيل الخوف وبجرأته وصراحته، وهذا ما سمح له بالتقاط صورة قريبة ومعبرة وخالدة، فهو يصف التصوير بأنه لحظة مثيرة، كما تحتوي صوره على سحر طفولي، وتعكس تنوع نيويورك التي تغيرت جذريا في يومنا هذا، وهذه الصور تأريخ لتلك المدينة.

يقول عنه المصور “بيتر إنجيلو”: إن من أعماله التي يحبها صورة لثلاثة أطفال بملابس رثة فوقهم جدارية للمسيح فيها صدع حاول أحدهم إصلاحه بشريط لاصق وهي صور استثنائية ومحزنة.

“هارولد فينستين”.. مصور نيويورك في الثمانين من عمره

 

“هارولد أنت فنان”.. نقطة مشرقة في طفولة الطفل المعجزة

هاجر “لويس وصوفي” والدا “هارولد” من أوروبا الشرقية وكان لديهم ستة أطفال أصغرهم “هارولد”، يصفه ابن أخته “موساوي سبينل” بأنه كان طفلا لعوبا ورفقته ممتعة، لقد ترعرع في حي “بينسون هيرست” الذي ضم إيطاليين ويهودا.

يصف “هارولد” والده بأنه بائع لحم شغوف ضخم الجسم ومدمن كحول، وكان يضربهم، لذا كان يخافه، وهذا هو السبب وراء انتقاله إلى العيش في جمعية الشباب المسيحيين وهو ابن ١٥ عاما.

كان “هارولد” فنانا ومختلفا عن باقي أفراد العائلة، يقول: أتذكر أستاذا في الصف الثالث رأى رسوماتي فقال لي “هارولد أنت فنان” وكانت أول مرة أدرك فيها ذلك.

في الطابق العلوي من المبنى الذي يقطنه كان يسكن مصور لديه كاميرا رولي فليكس، وكانت أجمل كاميرا في نظره، فقد كان كل شيء يصبح صالحا للتصوير فيها، فهي الملهمة له وهي التي صور الحياة فيها كما هي.

يرى “هارولد غرينبيرغ” مالك معرض نيويورك أن “هارولد” كان جريئا ومستقلا، وقد عرف بالطفل المعجزة وكان محط الأنظار في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وقد اهتم بالجانب الإنساني والاجتماعي وانضم إلى رابطة المصورين وكان أصغرهم سنا.

في الطابق العلوي من المبنى الذي يقطنه كان يسكن مصور لديه كاميرا رولي فليكس، وكانت أجمل كاميرا في نظره

 

متحف الفن الحديث.. طريق الاحتراف والشهرة

عرفت مدينة نيويورك بدورها الريادي في الولايات المتحدة لكثرة المتاحف والمسارح والمدارس فيها، وكان متحف “ميترو بوليتون” أروع مركز للفن الكلاسيكي في أميركا، بينما كان متحف الفن الحديث مخصصا للأعمال الحديثة.

في تلك الفترة التقى “هارولد” بـ”دورثي نورمان” التي كانت راعية للفنون وعرفته بـ”إدوارد ستايشن” وكان مدير التصوير في متحف الفن الحديث، وقد التقط ثلاث صور لـ”هارولد”، وكان عمره وقتها 19 عاما.

كانت إحدى الصور لفتيان على الشاطئ وهي صورة مؤثرة وبسيطة ومركبة، عندما قدمها لـ”ستايشن” اقتطعها.

لقد تمتع “هارولد” بحرية كبيرة وكان مصورا غير تقليدي وحقيقي وما قدمه في عمره الصغير كان عظيما .

شارك “هارولد” في حرب كوريا عام ١٩٥٣ وكان عمله هناك مصورا

 

مسرح الحرب الكورية.. نظرة مختلفة لتصوير الحروب

ذهب “هارولد” إلى كوريا عند اندلاع الحرب فيها عام ١٩٥٣، وكان على متن السفينة التي غادر فيها خمسة آلاف شخص. يتحدث “كلارك ماكومبر” عن تجربته في تلك الرحلة كمجند وعن “هارولد” الذي كان شابا صغيرا مرتبكا كما هو حالهم جميعا.

انفصلوا فجأة وأخذوا الى معسكر إعادة التعيين، وقد أخبرهم “هارولد” بأنه مصور لكنهم عينوه بفرقة المشاة، فكانت فرصة له ليصور ما أراد من صور الحياة اليومية للجنود.

يقول “شون كوكوران” قيّم متحف نيويورك: كانت صور “هارولد” مختلفة عن صور الحروب كصور “جين سميث” و”لاري بورز” في فيتنام، فقد تناولت صوره حياة الجنود اليومية بتركيبات جميلة تشبه صوره في كوني آيلاند، ورغم اختلاف المكان فقد نقل المشاعر الإنسانية، وقد أثار التقارب الجسدي اهتمامه وحركة الأجسام التي أعتبرها أساس تماسك العالم.

كانت موضوعات الصور تدور حول التسكع والانتظار والشوق صور حميمية لرجال يستأنسون برفقة بعضهم بعيدا عن الوطن والأحبة.

صمم هارولد أغلفة ألبومات “بلونوت كورد” الموسيقية

 

فن الطباعة.. نيويورك تستقبل فنانا مختلفا عن فنانيها

كانت خطوة “هارولد” الثانية بعد عودته البعد عن والده، يقول لحسن الحظ عشت في الجزء الجنوبي في منهاتن في الجادة 821، وكان ما يميز نيويورك انخفاض تكاليف المعيشة فيها، وكان يعيش في المنطقة التي سكنها الكثير من الفنانين والموسيقيين، وقتها صمم أغلفة ألبومات “بلونوت كورد” وكان مالكها مصورا وطلب من “هارولد” تلك التصميمات على أسطوانات الغاز وكانت مواكبة للموضة وأنيقة.

كان “هارولد” يخرج للشارع في نيويورك لالتقاط صور لتلك المدينة بطابعها التقليدي التي بدا على سكانها ملامح التعاسة والاكتئاب والعزلة، لكن ما ميز “هارولد” أنه أظهر لحظات من المتعة والسحر والعاطفة الإنسانية، ففي إحدى صوره بحاران ذوا عضلات يستقلان قطار، لكن خلف تلك الأجسام القوية أناس لطيفون يستحقون الاحترام.

وتشكل رؤيته في أعماله 50% والباقي يعتمد على كيفية التطبيق النظري، كما أنه كان بارعا في الطباعة، فقد استخدم ألوانا عميقة وغنية وداكنة، وكانت تختلف عما قدمه مصورو جيله في نيويورك، وكان لديه تصور واضح عما يريد فعله في غرفة التحميض.

ويعتبر “هارولد” الطباعة التتمة لعملية التصوير، حيث تريه نتاج عمله وتظهر الصورة كمعجزة عند خروجها.

إحدى صور “هارولد” الشهيرة لأطفال سعيدين رغم البؤس الذي يعيشونه

 

معرض عائلة الإنسان.. ضريبة التحرر

في خمسينيات القرن العشرين عرض “هارولد” صوره وبيعت، وكان يستعد للالتحاق بأمثال “غاري” و”ينوغراند” و”فاستيل” و”ولتير سيلفر” مصوري النخبة في نيويورك، وكانت أعماله بهذا المستوى الرفيع.

شهدت تلك الفترة على روعة المعارض التي أقامها “هارولد”، لكن بعد أربعين عاما لم يعد معروفا إلا لدى بعض الناس، والذي حدث أن “ستايشن” كان يعد لمعرض جماعي كبير تحت اسم عائلة الإنسان في متحف الفنون الحديث، وقد اختار ستة مصورين لهذا المعرض من بينهم “هارولد” وطلب منهم إرسال الصورة السلبية (النيغاتيف).

لم يعجب “هارولد” أن تقطع صوره وتحدد أحجامها وقام بسحبها، فقد كانت له قوانينه الخاصة وكان حرا عنيدا، وقد أثر هذا التصرف على مسيرته الفنية وحاول مجاراة أقرانه الذين ظهروا في كتاب المعرض الذي طبع بعدة نسخ وعرضت أعمالهم في المعرض المتنقل الذي أصبح أطول المعارض المتنقلة، لكنه استثني من ذلك بسبب فعلته، فقد كان صاحب مبدأ وكانت معاييره الشخصية عالية .

لم يحب “هارولد” القيود يوما، وتذكر زوجته السابقة “دوري وودسون” أنهما تعارفا عندما كانت في سن العشرين وكان يكبرها بثلاث سنوات، وتعتبره شخصا ودودا ومرحا قضت معه أجمل سنوات عمرها، وقد التقط لها صورا عكست علاقتهما كفنانين، فقد كانت دوري عازفة وكانا يعيشان بحرية.

صور “هارولد” بمعرض “ليكا” لوس أنجيلوس

 

جامعة فان سيلفينيا.. مواهب المصور الجانبية

في عام ١٩٥٦ حصل “هارولد” على عرض عمل في جامعة فان سيلفينيا الواقعة في فيلادلفيا، ويعتبر “هارولد” الفرار من المؤسسة كالفرار من البيت فقد قاوم النقاد والمؤرخين الذين يملون قواعد الفن.

عندما غادر نيويورك لم يعد إليها إلا بعد عشرين عاما أبعدته عن المعارض والنقاد، وأصبح التدريس الجزء الأكبر من حياته، وخرّج عددا من المصورين البارعين.

كان “هارولد” إلى جانب فنه فيلسوفا ومدرسا غير تقليدي، وأسس لمدرسة خاصة به. يقول المصور “ديفيد كاراس”: أصبحت تلميذا عنده في كلية ويندهام، وكان مثل المزمار السحري عشنا بيئة مفعمة بالحرية والمتعة.

لقد عرف عن “هارولد” أنه كان يعطي دروسا وهو يتعاطى المخدر، وكان منفتحا يحب المتعة والنساء. تقول “سارة كينيل” قيّمة متحف “بيبودي إيسيكس”: لقد منح “هارولد” نفسه سيناريو الفنانين ليكون أقل مسؤولية، فقد كان يتأخر في دفع الفواتير فتقطع عنه الكهرباء، فيقول أنا فنان وكانت الكحول مشكلته.

وكان يعاني من الإدمان بسبب سلوك عائلته المدمن وأراد نسيان طفولته وخلق عالمه الخاص، من يُعاين أعماله يجدها مليئة بالفرح والبهجة وتبرز المزايا الحسنة للبشر، لكن في العمق وتحديدا في صور الأطفال المعبرة لا تجدهم سعداء، وتجلب تلك الصور التعاطف، وفيها يظهرون بمشاعر الوحدة والخوف.

صورة الفتاة الغجرية التي التقطها هارولد بعمر 15 عاما، وظل مرتبطا بهذا واستطاع أن يفهم مشاعر الفتاة الصغيرة

 

“كان مبهرا يعلم الناس الفن والجمال”.. معرض تكريمي

كان أسلوب “هارولد” شاهدا ليس على الأطفال فقط لكن على نفسه أيضا، ومن ذلك صورة الفتاة الغجرية التي التقطها حين كان عمره 15 عاما، فقد كان مرتبطا بهذه الصورة واستطاع أن يفهم مشاعر الفتاة الصغيرة، حيث تعكس الضعف في وجهها المتسخ، ولا يمكنها دفع ثمن لعبة دوامة الخيل، “لقد كانت صورة مذهلة لمصور فتي”.

مع كل ذلك، فقد كان لـ”هارولد” جانب أسود مفعم بالألم، وسترى جزءا منه في تلك الصور. يقول ابنه “جيون”: كان مبهرا يعلّم الناس الفن والجمال.

لقد أقامت منظمة غير ربحية اسمها مركز موارد التصوير الفوتوغرافي معرضا متنقلا لـ”هارولد فاينستاين” اعترافا منها بموهبته وبراعته، ولأنه لم ينل الاستحقاق الذي يليق بما قدم من أعمال خالدة، وذلك بتقديم أعماله للصحافة ونشر كتاب له. يقول “تيري بيغاينون” مالك معرض إنه أحب أعمال هارولد وأذهلته، فهو ليس مصورا فقط بل إنسان، وعقلية فلسفية عميقة وأعماله تستحق العرض.

يقول “هارولد” إنه رغم تقاعده ما يزال يعاين أبعاد الموقف ويتنقل نظره كأنه يريد التقاط صورة، وهذه طبيعة أصيلة فيه.

ويقول “دائما، أركز على الزهرة الأولى والمرأة الأولى والقبلة الأولى”، كان هذا سر أعماله، وكل من عرفها يتأثر بالجانب الإنساني فيها وحبه للحياة الذي يلامس دواخلنا، ستبقى تلك الأعمال مرجعية تاريخية لنيويورك وساكنيها.