مهران كريمي ناصري.. حين يلفظك العالم ويحتضنك المطار

“مهران كريمي ناصري” هو اسم كان يمكن أن يكون مجرد رقم ضمن مئات أسماء المعارضين التي تحولت إلى أرقام في سجون الشاه الإيراني “محمد رضا بهلوي”، لكنه عِوَض ذلك أصبح سجين الصالة رقم “1” في مطار “شارل ديغول” الفرنسي لمدة لا تقل عن 18 عاما.

يظهر وجه مهران كريمي ناصري ذي الملامح الحادة في صورة التُقطت له في ركنه في مطار شارل ديغول محاطا بأغراض مرصوفة بشكل فوضوي وأخرى اتكأ عليها، أمامه طاولة عليها كوب قهوة، ولا شيء في الصورة يوحي أن الرجل في صالة المطار وليس في غرفة غير مرتبة سوى عربة الأمتعة التي اتخذت مساحة كبيرة من الصورة.

يبدو المسافر الإيراني مستعدا للرحلة، لكن لا أحد تخيل أن جلوسه في ذلك المكان سيستغرق 18 عاما، بدوره لم يكن يخطر في باله أنه في الثامن من أغسطس/آب 1988 ستنقلب حياته رأسا على عقب، وأنه سيكون سجين إحدى صالات المطار الفرنسي.

إيراني يُلهم السينما الغربية

ألهم مهران ناصري -أو السير ألفرد- مخرجي أفلام سنيمائية وكتّابا كثرا، ونقل قصته المخرج الفرنسي فيليب ليوري عام 1994 الذي استلهم فيلمه “من السماء” (Tombé Du Ciel) من حكاية الرجل، حيث عاش المسافر “أرتورو كونتي” طيلة يومين مُغامرة مرعبة صوّرها المخرج بشكل كوميدي، وذلك بعد أن علِق في صالة مطار شارل ديغول الفرنسي إثر سرقة حافظة أوراقه هناك.

جسّد دور أرتورو الممثل الفرنسي جون روكفورت الذي قابل مجموعة من الأشخاص العالقين في المطار منذ زمن طويل، وهم كوبية محكوم عليها بالنفي من بلادها، وفتى غينيّ، وإثيوبي لا يجيد سوى لغة “غريبة”، وشخص آخر يظهر عليه بعض الجنون يكتب مذكراته. كان أربعتهم دون أوراق قانونية، لكن أربعتهم خلقوا عالما خاصا بهم وشكلوا مجموعة متضامنة، وشاركهم أرتورو كونتي الذي اكتشف أن مشاكله الشخصية لا قيمة لها أمام الوضع الذي يعيشه الأربعة، ولم يُبلغ المخرج رسالة محددة، لكنه صوّر القصص الغريبة لهؤلاء بشكل عاطفي وكوميدي في الوقت ذاته.

كما كانت حكاية مهران ناصري مصدر إلهام للمخرج ستيفن سبيلبيرغ في الفيلم الشهير “ذي تيرمينال” (The Terminal) سنة 2004، وقد أدى فيه دور البطولة الممثل توم هانكس الذي جسّد دور فيكتور نافورسكي، وكان حظه سيئا مثل ناصري، فمجرد حلوله بمطار جون كينيدي بنيويورك حصل انقلاب في بلده في أوروبا الوسطى، ومُنع من دخول الولايات المتحدة، كما لم يستطع الرجوع إلى بلاده بعد إغلاق حدودها.

هذا الوضع جعل فيكتور يبحث عن التأقلم مع وضعه الجديد، وذلك عبر تقديم خدمات صغيرة لكسب بعض المال، ودخوله في صراع مع المدير المؤقت للمطار الذي حاول طرده من هناك، ودفعه لمغادرته حتى يصبح دخوله إلى الأراضي الأمريكية غير شرعي، لتنتقل مشكلة فيكتور إلى أروقة إدارة أخرى خارج المطار، غير أن فيكتور رفض وصارع من أجل البقاء في ذلك العالم الجديد، حتى إنه قابل امرأة هناك وأحبها.

لم تكن هناك إشارة إلى ناصري في الفيلم الذي قال إنه أحبّ الذهاب إلى الولايات المتحدة بعد خروج الفيلم، غير أنه نقل في جزء منه البيروقراطية حينا والعنصرية حينا آخر، وتلك الترسانة الهائلة من قوانين حراسة الحدود التي يطغى فيها الهاجس الأمني على الجانب الإنساني.

قصة ناصري الذي طُرد من بلاده وبقي عالقا في مطار شارل ديغول بسبب ضياع وثائقه كلاجئ، شبيهة في جانب منها بقصة اللاجئة الكوبية في الفيلم الفرنسي “من السماء”، كما أنها تتشارك مع قصة فيكتور نافورسكي في فيلم “ذي تيرمينال”، ومع قصة الرضيع ألان الكردي وملايين المهاجرين والهاربين من جحيم اليأس في بلدانهم والعالقين في الحدود في مواجهة قوانين صارمة من جهة وفوهات بنادق حراس الحدود أو بطون الحيتان من جهة أخرى.

مهران كريمي ناصري ينظف أسنانه في مطار شارل ديغول الذي أصبح بيتا له بعد مكوثه فيه مدة 18 عاما

اللاوطن.. لعنة أبدية

يبدو أن الحظ السيئ كان قرين ناصري، والبداية كانت في انتقاله إلى بريطانيا عام 1973، ففي مارس/آذار 1974 شارك في مظاهرة في بريطانيا ضد الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي، وبعد قرابة عام اضطر للعودة إلى بلاده، لكنه اقتيد من مطار طهران إلى سجن “إيفين” الذي قضى فيه أربعة أشهر، ثم طُرد من إيران بعد أن افتكّ منه جواز سفره حسب روايته.

حاول مهران كريمي ناصري طيلة ستة أعوام بعد نفيه وعودته إلى أوروبا الحصول على اللجوء لكنه فشل، حيث رفضت خمس دول أوروبية طلبه، وهي ألمانيا الغربية وهولندا عام 1977، وفرنسا عام 1978، وإيطاليا عام 1979، وأعاد طلب اللجوء في فرنسا عام 1980 لكنه قوبل بالرفض، وطردته بريطانيا بعد رفضها طلبه الحصول على الإقامة.

أراد ناصري البقاء في أوروبا بكل الطرق، وذلك بعد أن أصبح مطرودا من بلده، حيث اختبر تجربة اللاوطن التي قال فيها الشاعر الكبير مظفر النواب:

“سبحانك كل الأشياء رضيتُ سوى الذل

وأن يوضع قلبي في قفص في بيت السلطان

وقنعت يكون نصيبي في الدنيا.. كنصيب الطير

ولكن سبحانك حتى الطير لها أوطان.. وتعود إليها

وأنا ما زلت أطير.. فهذا الوطن الممتد من البحر الى البحر

سجون متلاصقة

سَجَّان يمسك سَجَّان”.

بلجيكا المفرّ؟

تجربة مهران ناصري كانت أكثر غرابة وتناقضا، فرغم موافقة بلجيكا على استقباله على أراضيها وحصوله في شهر أكتوبر/تشرين الأول 1980 على اللجوء هناك، واصل الحظ السيئ ملاحقته حين قرر ناصري بعد ست سنوات مغادرة بلجيكا والسفر إلى بريطانيا، لكن سُرقت حقيبته التي كانت تحتوي على جميع أوراقه الثبوتية في محطة القطار في العاصمة الفرنسية باريس، وذلك عندما كان متوجها إلى مطار شارل ديغول، ورغم تمكنه من الوصول إلى بريطانيا فإنه لم يتمكن من تجاوز مطار هيثرو بسبب عدم حيازته وثائق تثبت هويته، فأُعيد إلى مطار شارل ديغول وبقي في صالة الانتظار من أجل تسوية وضعيته لنحو 18 عاما.

بقي مهران ناصري في وضعية غريبة، فمن جهة كان عليه إحضار أوراق بديلة من بلجيكا حتى يتمكن من إثبات هويته في مطار شارل ديغول بصفته لاجئ، ومن جهة أخرى لم يتم السماح له بركوب الطائرة أو مغادرة صالة الانتظار بسبب عدم وجود أوراق ثبوتية، حينها استسلم مهران كريمي ناصري لقدره وصَنَع عالمه في ركن في المطار الذي أصبح منزله.

ورغم موافقة بلجيكا على إعادة إصدار أوراق تثبت صفة مهران ناصري بشروط عام 1985، أي بعد قرابة عشر سنوات من الانتظار؛ رفض مهران العرض البلجيكي لسببين، أولهما أنه لم يكن يريد العيش في بلجيكا، وثانيهما بسبب الموقف البلجيكي في البداية الذي كلفه مدة كبيرة من الانتظار.

وبعد 12 عاما منحته فرنسا وثائق إقامة مؤقتة، لكنه رفض لأنه كان قد بدأ بالانسلاخ عن هويته والدخول في شخصية أخرى، ففي البداية اتخذ اسم السير ألفريد، ثم أنكر أنه إيراني وأنه يتحدث الفارسية وقال إنه سويدي الأصل.

مهران كريمي ناصري في صورة التُقطت له في ركنه في مطار شارل ديغول محاطا بأغراض مرصوفة بشكل فوضوي وأخرى اتكأ عليها

من كريمي إلى ألفرد

ترتكز الأسطورة عموما على ثلاثة أسئلة أساسية هي: من أين أتيت؟ حيث تكونت على أساس هذا السؤال ما تُسمى بأساطير الأصل أو التكوين، ومن أنا؟ وتستلهم أساطير الهوية أصلها من هذا التساؤل، وأين أنا ذاهب؟ وهي أساس أساطير المصير.

على هذا الأساس بُنيت قصة مهران كريمي ناصري، فمنذ خروجه كان ضائعا لا يدري أين يذهب بعد أن جُرّد من حقه في البقاء في بلده، وظلّ مصيره مجهولا طيلة أكثر من ثلاثين عاما، أي منذ أن طُرد من إيران، وحين أراد إعادة بناء حياته في مكان جديد وجد نفسه حبيس سجنين؛ سجن صالة الانتظار في مطار شارل ديغول الفرنسي، وسجن هويته، فهو إيراني منفي بسبب معارضته الشاه المتسلط دون أوراق ثبوتية تدل على أنه لاجئ.

هذا الوضع جعل مهران كريمي ناصري يخوض رحلة استكشافية شاقة، ففي البداية صنع عالما خاصا به رفض به النظام المادي للعالم الذي لفظه، وبدأ حياة جديدة خطّها في كتاب بعنوان “رجل الصالة”، وذلك بالاشتراك مع الكاتب البريطاني أندرو دونكين، وأصبح ركن معيشته محاذيا لمحلات ريلاي التي تبيع كتابه. كان ذلك المكان بمثابة مكان حراسة لحياته التي سكب تفاصيلها في كتابه حتى لا تضيع منه مرة ثانية.

لم يكن المكان يدل على أن هناك شخصا منفيا من كل بقاع الأرض، فالرجل كان حريصا على نظافة هندامه، وكان يقرأ الصحف يوميا ويحرص على قراءة الكتب أيضا، وأحاط نفسه بصناديق أمتعة توحي أنه في حالة سفر في أيّ لحظة. ويقول مهران “أنا مواطن شارل ديغول”، فالمطار الفرنسي هو المكان الوحيد الذي احتضنه بعد أن طردته بلاده، وبعد رفض الدول الراعية لحقوق الإنسان استقباله، لقد أصبح مطار شارل ديغول موطنه بالفعل.

لقطة للممثل توم هانكس في فيلم “ذي تيرمينال”، والذي كان حظه سيئا مثل كريمي ناصري حين بقي بالمطار

بين نكران الذات والعالَم

بدأ مهران كريمي ناصري بإنكار ذاته في مرحلة أولى حين تخلّى عن اسمه واتخذ اسما جديدا هو “السير ألفريد”، وكان لا يردّ على من يناديه بمهران، وكان يتلقى رسائل تحت اسمه الجديد.

كان الأمر بالنسبة للمتعاطفين مع قصته أو للفضوليين بمثابة دعابة، لكن مهران أو ألفريد كان بالفعل في مرحلة متقدمة من رحلة الاستكشاف الذاتي أو ما يسمى بـ(Initiatory Voyage)  إذ اكتشف أنه لا بد من قتل مهران كريمي ناصري وذلك عبر نكران وجود الاسم بعد أن أنكره العالم، حيث خلق شخصية جديدة هي السير ألفريد مثلما خلق عالما جديدا حتى يستطيع المواصلة.

حين عرضت عليه فرنسا اللجوء ووافقت على إعطائه الإقامة بعد عشر سنوات من الانتظار في المطار، رفض ناصري العرض الفرنسي، وذلك لسبب بسيط يتمثل بأن السلطات الفرنسية أخطأت في اسمه، فهو لم يعد يسمى مهران كريمي ناصري بل السير ألفريد، وأنه ليس إيرانيا بل سويدي الأصل، ولا يفهم الفارسية.

تمكن مهران ناصري من نكران ذاته طيلة ذلك الوقت من نكران كل العالم له حتى يتمكن من التأقلم مع سجنه الجديد في تلك المرحلة، حيث وصفه فيها العالم بأنه مضطرب نفسيا، خاصة أنه رفض الخروج من المطار بعد انتظار استمر أكثر من عقد، فقد توقع الجميع أن تكون نهاية قصته العجيبة شبيهة بأفلام هوليود، حيث تنفرج عقدة الفيلم ويخرج بطل القصة من المطار على وقع موسيقى ملحمية، ليبدأ حياة جديدة ويطوي صفحة قرابة عقدين من الزمن عاش فيهما النكران من بلده ومن العالم الحُرّ أو شبه الحُرّ.