مي زيادة.. فراشة الأدب التي انتهت إلى مشفى المجانين

 

“يقول السادة الرجال –عفا الله عنهم وعن ذنوبهم العديدة- هذه المدينة إنما هي صروح وأنظمة وتشريع وزراعة وصناعة وآلات وثقافة وعلوم وفنون وآداب، فأين يد المرأة في كل ذلك؟ الرجل هو من ابتكر وأنتج، والمرأة تستغل ذلك الإنتاج وتستهلكه، فأي فضل للمستغِل المستهلِك؟ فضل المستغل المستهلك أيها السادة يقوم في كونه يُمَكِّن العامل المنتج من المضي في العمل والإنتاج، ويوحي إليه جديد ما يبتكر ويغذي حركة الصناعة والزراعة والعمران، فلو لم يكن للمرأة غير هذا الفضل على المدينة لكفى به فضلا!”.

كان ذلك جزءا من مقالة الكاتبة الفلسطينية مي زيادة في مجلة المرأة المصرية عام 1934 تحت عنوان “حاضر المرأة ومستقبلها.. فضل المرأة على المدنية الحديثة”.

كانت مي زيادة طليعة الفيمينزم (حركة نسوية تطالب بحقوق المرأة وفرص مساوية للرجل) في الثقافة العربية، فقد جاءت في زمن كانت الكتابة النسائية فيه نادرة فاقتحمتها هي

 

في عَصر “للرجال فقط”!

في عام 1886 ولدت الكاتبة والأديبة والشاعرة مي زيادة في الناصرة بفلسطين، وتلقت تعليمها الابتدائي في الناصرة، والثانوي في لبنان ثم انتقلت إلى مصر عام 1907.

نشأت تلك الطفلة الشغوفة بالقراءة نشأة مريحة ومترفة في كنف والدين مثقفين ساعداها على أن تتعلق بالقراءة منذ نعومة أظافرها، فبينما تستمتع فتيات حارتها بطفولتهن باللعب، تلجأ الطفلة مي إلى العزلة وتختبئ بين أحضان الكتب، فكلما بحث عنها والداها وجداها منعزلة تحت شجرة تنهل من الكتب.

ولم يكن ذلك الشغف بالقراءة والاطلاع غريبا عليها، فقد ورثت حب الكتب من والدتها نزهة التي كانت تحفظ ديوان ابن الفارض عن ظهر قلب وتحفظ مئات من عيون الشعر العربي.

عُرفت مي بنبوغها، فأتقنت تسع لغات منها الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية، كما نشرت ديوانا بالفرنسية وألفت 12 كتابا فكان ديوان “أزاهير حلم” بالفرنسية هو باكورة إنتاجها الأدبي.

وجاءت شهرتها في المجتمع المصري بسبب تفردها في وقت ظهر فيه جهابذة العلم والشعر والأدب مثل مصطفى صادق الرافعي وأحمد شوقي وجبران خليل جبران.

كتبت مي زيادة في العديد من الصحف المصرية مثل المحروسة والأهرام والمقتطف، وكانت منفتحة على الثقافة الغربية.

شغلت قضايا المرأة الأديبة مي زيادة فتعرفت على رائدات الحركة النسوية في مصر مثل هدى شعراوي، وكانت أول من استخدم مصطلح القضية النسوية ومن أوائل من كتب كتابة نقدية حقيقية عن هذا الموضوع، كما دافعت بشدة عن حق المرأة في المساواة مع الرجل، واهتمت بقضايا التنوير وتعليم الفتيات، فخلقت هاجسا في المجتمع المصري إزاء المرأة ودورها في المجتمع.

كان شارع مظلوم باشا القاهري شاهدا على صالون تلك المرأة التي ناقشت الرجال بندية في مجتمع شرقي لم يعتد على ذلك، فاحتضنت أروقته جهابذة الأدب والحصافة والشعر المنبهرين بتلك المرأة المثقفة والأديبة الفريدة، مثل طه حسين وخليل مطران وعباس العقاد ومصطفى صادق الرافعي.

يقول العقاد عن صالون مي الذي استمر 20 عاما “لو جُمعت الأحاديث التي دارت في ندوة مي لتكونت منها مكتبة عصرية تقابل مكتبة العقد الفريد ومكتبة الأغاني في الثقافتين الأندلسية والعباسية”.

مي زيادة أحبت جبران خليل جبران بصدق وظلت تبادله الرسائل 19 عاما حتى وفاته في 10 أبريل/نيسان 1931

 

في حب الفراشة

روحي على بعض دور الحي حائمةٌ

كظامئ الطير تواقا إلى الماء

إن لم أمتع بميٍّ ناظري غدا

أنكرتُ صبحك يا يوم الثلاثاء

هكذا عبر الشاعر إسماعيل صبري عن حبه لمي زيادة، ولم يَسلم حتى الشيوخ من الوقوع في حبها، فقد أحب شيخ الأزهر مصطفى عبد الرزاق مي في صمت وحرص على حضور صالونها الأسبوعي، بعث لها رسالة من فرنسا يقول “وإني أحب باريس، إن فيها شبابي وأملي، ومع ذلك فإني أتعجل العودة إلى القاهرة، يظهر أن في القاهرة ما هو أحب إليَّ من الشباب والأمل”.

تعددت الروايات حول وقوع الكثير من الأدباء في حب تلك الفتاة الرقيقة الجميلة الشاعرة والحالمة، حتى تخيل كل الأدباء من رواد صالونها أنها تحبهم، إلا أن تلك الفراشة لم تُسلم قلبها إلا لرجل واحد شكك البعض في حبه لها وهو جبران خليل جبران.

أحبت مي جبران بصدق وظلت تبادله الرسائل 19 عاما حتى وفاته في 10 أبريل/نيسان 1931، فحفلت المكتبات العربية بالعديد من أدب المراسلات.

لكن الكثير من المؤرخين شكك في حب جبران لمي التي لم تلتق به ولو لمرة واحدة، إذ إنه لم يصرح لها ولو لمرة في رغبته بالزواج منها، كما أنه كانت تربطه علاقات مع نساء أخريات غيرها. لكن مي لم تجد في أي رجل آخر من رواد صالونها ما أرادته إلا في جبران، فكتبت تقول له “ما معني هذا الذي أكتبه.. إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي وأني أنتظر من الحب كثيرا”.

 

في مستشفى المجانين

احتضنت مستشفى الأمراض العقلية بلبنان تلك “الفراشة” المكتئبة صاحبة الانفصام في أيامها الأخيرة، وقد دخلت مي في حالة من الاكتئاب بعد وفاة والدها عام 1930 ثم توفي بعده جبران الذي أحبته بصدق عام 1931 وفي عام 1932 توفيت والدتها.

عادت مي إلى لبنان ليُدخلها أهلها مستشفى الأمراض النفسية والعقلية، فكتبت في مذكراتها “باسم الحياة ألقاني الأقارب في دار المجانين.. أحتضر على مهل وأموت شيئا فشيئا”. ويقول بعض المؤرخين إن أهلها طمعوا في وِرثها فاتهموها بالجنون.

لم يهتم أحد بغياب مي، ولم يُلحظ اختفاؤها، حتى تدخلت الصحافة بعد غيابٍ مطالبة بإخراجها من مستشفى الأمراض العقلية، فخرجت مي وعادت إلى مصر، ولكن الناس انصرفوا عنها بعد إصابتها بالفصام حتى ماتت عام 1941 ولم يحضر جنازتها سوى ثلاثة أشخاص فقط.

تقول الأديبة مي في مذكراتها “أتمنى أن يأتي بعد موتي من ينصفني ويستخرج من كتاباتي الصغيرة ما فيها من صدق وإخلاص”.