نادية لطفي.. أفول نجم من أعظم نجوم السينما المصرية

د. أمــل الجمل

امرأة متماسكة وقادرة وعنيدة وقوية وشجاعة وجريئة، لا تخلو روحها من المغامرة والمخاطرة، عزيمتها صلبة لا تلين، إرادتها لا يهزمها شيء، رغم كل ظروف الضعف من حولها، رغم بيئتها الفقيرة أحيانا، هكذا تبدو مهما تبدلت الأطياف، نظراتها تقول بوضوح إنها جسورة، إنها امرأة لها شخصيتها التي لن يقدر أي شيء أو أي إنسان على سحقها، تدفع الثمن طويلا، لكنها في النهاية تكون سيدة قرارها، لأنها قررت ألا تخذل نفسها، إنها نادية لطفي سيدة الأقنعة.

جسمها الطويل الممشوق بملامحه التشريحية الجميلة كان تساعدها على كشف روح هذه الشخصية المتمردة من دون أن تتخلى عن الحياء، بعيونها الواسعة الجريئة، وشفتها الممتلئة الفياضة بالحياة، وتقاطيع الوجه الدقيقة المتناسقة، والبريئة.

هذه الملامح ذاتُها كانت كفيلة بأن تسجنها في أدوار الفتاة الأرستقراطية الجميلة أو الدلوعة، خصوصا بملامحها الأوروبية وبشرتها الخمرية وشعرها الذهبي، لكنها تمردت على ملامحها، فحولت نفسها إلى فتاة مصرية شعبية في الصميم.

أول ظهور سينمائي لنادية لطفي عام 1958 بفيلم “سلطان” أمام الراحل فريد شوقي

 

قناع الشخصية.. التماهي في الدور

حولت البراءة إلى جرأة متناهية أحيانا، جرأة فيها قدر من الوقاحة في بعض الأوقات وفق ما يتطلب نمط الشخصية الدرامية التي تؤديها، كان في صوتها قدر من الخشونة، لكنها بمهارة بدلتها إلى رقة بالغة وقتما تريد، ثم تستعيد خشونته في اللحظات المناسبة.

ساعدها على ذلك إدراكها لتفاصيل صغيرة دقيقة تفصل بين الحالات الإنسانية والنفسية المتباينة، بين المستويات الاجتماعية وبيئاتها المختلفة، فمزيد من الكحل حول العينين الواسعتين من الأصل، يمحنهما مزيدا من البريق المتوحش الذي لا يتخلى عن الجمال، وتغيير شكل الحواجب وتحويلهما إلى خطين رفيعين أحيانا لتمنح القناع مصداقيته عندما ترتدي زي الراقصة الغانية، أو المرأة اللعوب. ثم يأتي دور الشَعر بتنويعاته ليحولها تارة إلى فلاحة، أو صاحبة فندق خبيرة في التلاعب بالرجال من أجل المال، أو فتاة شعبية بالمنديل “أبو قوية”، أو تسريحة الشعر المبهرة المناسبة لنجمة سينمائية صاعدة، أو الشعر المقصوص اللائق عليها أيضا ليمنحها مظهر المرأة العصرية الراقية زوجة المحامي.

بعد كل تلك التفاصيل تأتي الملابس لتُكمل الملامح الشكلية للشخصية، عندئذ ما إن تنطق نادية لطفي بالكلمات والإيماءات والإشارات حتى نجد أنفسنا أمام طيف لشخصية درامية، طيف يجعلنا نشعر أن نادية لطفي لم يعد لها وجود على الشاشة، فقد تلاشت تحت جلد ومسام أقنعتها التشخيصية؛ سواء كانت في دور ريري أو مادي أو شُهرت أو ناني أو إلهام أو لولا أو قشطة أو عايدة أو جينا أو قسمت أو حتى في دور زوبة.

نادية لطفي في العشرينيات من عمرها، قدمت تنويعات بديعة على شخصية بنت البلد بمختلف درجاتها الشعبية والريفية

 

بنت البلد.. تنويعات بديعة

قدمت نادية لطفي تنويعات بديعة على شخصية بنت البلد بمختلف درجاتها الشعبية والريفية، فقدمت المرأة الراقصة والعاهرة عدة مرات بصور مغايرة تماما لشخصية العالمة زوبة في “قصر الشوق”.

كما قدمت سيدة المجتمع الراقية، والمرأة التي تبدو أنها مغلوبة على أمرها القادمة من القاع الشعبي للمدينة، وقدمت الصحفية والزوجة الكارهة لزوجها التي تقرر الانتحار، والمرأة التي تعاني من إهمال زوجها بفيلمين مختلفين تماما عن بعضهما، فتبحث عن هواية تشغلها، كالتصوير الذي سيكون ذات يوم دليل إدانتها.

إنها بولا محمد شفيق، وُلدت لأبوين مصريين، بحي عابدين بالقاهرة (يوم 3 يناير/ كانون الثاني عام1937). خاضت التمثيل على خشبة المسرح المدرسي وهي ابنة 10 سنوات، ونالت دبلوم المدرسة الألمانية بمصر عام 1955.

كان والدها منضبطا، ودقيقا، وحازما، لذلك أدخلها المدارس الألمانية ليغرس فيها تلك القيم، رغم أن بولا تزوجت في سن مبكر جدا لتفلت من أسر والدها وتمارس التمثيل، لكنها تأثرت بشخصيته، فحاولت تحقيق أمانيه فقد كان يحلم بإنجاب ولد يُصبح ضابطا، فتزوجت جارها الضابط بالبحرية، كما أنها حاولت أن تكون مسؤولة أمامه كالرجل، فعوضت ذلك بقوة شخصيتها، واحترامها لنفسها في استقامتها وقناعاتها، في عدم اهتمامها بالمال أو الأضواء، اتجهت بوصلة قيمها الأخلاقية لخدمة مجتمعها الإنساني.

ليس صدفة إذن، أن تكون نادية لطفي صديقة مقربة جدا لشادي عبد السلام، صاحب “المومياء” وأحد أبرز عباقرة السينما المصرية على مستوى الملابس والديكور والإخراج، كان شادي في أفكاره ومعتقداته وسلوكه دائما أصيلا، وكان من الصعب أن يرتبط بصداقة متينة مع إنسان زائف.

إن شادي هو مَن صمم لها ديكور شقتها في “جاردن سيتي”، ظلت طوال عمرها بهذه الشقة من دون أن تُبدل فيها شيئا، حفاظا على لمسات شادي، فظلت بها حتى سنواتها الأخيرة، وتركتها فقط عندما أقامت في أحد مستشفيات الدولة لعدم قدرتها على الحياة بمفردها، بعد أن ضعُفت قواها الجسدية، لكنها مع ذلك لم تفقد بريق روحها وإصرارها على عدم الاستسلام حتى اللحظات الأخيرة.

 

“سلطان”.. على طريق الشهرة السينمائية

قبل أن تبدأ بولا شفيق التمثيل، ترجع الحكاية إلى عام 1953 عندما كوَّن المنتج “رمسيس نجيب” شركة إنتاج سينمائية ضم إليها عددا كبيرا من النجوم مثل: فاتن حمامة، وفريد شوقي، وهدى سلطان، وسيد بدير، وعماد حمدي، إضافة لشادية، ووحيد فريد، لذلك كان دائم البحث عن الوجوه الجديدة، وكانت عيونه الخبيرة تبحث وتلتقط بمهارة.

في 1958 اكتشفها رمسيس نجيب بالصدفة في إحدى السهرات الاجتماعية، فرشحها للتمثيل فوافقت، وهو مَن اختار لها اسمها الفني، “نادية لطفي”، تيمنا باسم بطلة “لا أنام” التي جسدتها فاتن حمامة عام1957.

كان أول أفلامها “سلطان” مع النجم فريد شوقي في دور صحفية خطيبها ضابط “رشدي أباظة” الذي يسعى للقبض على المجرم الهارب سلطان، تُغويها فكرة الذهاب إليه والبحث عنه، وكلامها المنطقي معه وأسلوبها المتفهم لشخصيته والدوافع وراء إجرامه بأن المجتمع هو من دفعه إلى هذا، كل ذلك جعلها تدخل إلى قلب سلطان. كانت في تلك اللحظة تمثل عليه لتستدرجه كأنها قرأت حياته، لكنه يصدقها ويقع في هواها، لذلك يراقبها ثم يختطفها ليلة زفافها، لا تستسلم بل تقاوم وتنجح في ترويضه بعد أن تكتشف صدق الجانب الإنساني داخل أعماقه.

كان هذا الفيلم تجربتها الأولى فحاولت تقديم الدور بتلقائية، لكنها لم تكن تمتلك خبرات نادية لطفي في الأعمال التالية، ومع ذلك فقد اكتسبت الخبرة بسرعة، أو للدقة فقد كشف عن إمكانياتها سريعا. الدليل على ذلك أننا عندما نتأمل أفلامها التالية مع النجم فريد شوقي سنكتشف أن اسمها أصبح موازيا له، هذا الفنان الأسطورة الذي اشتهر بأنه أكثر نجوم مصر حفاظا على اسمه متصدرا الأفيش على مدار سنوات عمره، إلا في حالات نادرة.

بعد نحو عشر سنوات فقط من بداية نادية لطفي مع فريد شوقي سيُكتب اسمها على نفس مستوى اسم فريد شوقي، وبنفس حجم الخط على الأفيش، ولكن اسمها سيكون على اليمين، بينما وحش الشاشة على اليسار، وذلك بفيلم “سكرتير ماما” (1969)، وإن كان اسمها بفيلم “غراميات مجنون” عام 1967 مع فريد شوقي شهد نقلة أخرى على الأفيش.

صحيح أن اسم فريد شوقي كُتب بحجم أكبر قليلا على اليمين، لكن اسم نادية لطفي وُضع مرتفعا بعض الشيء عن اسم الملك على اليسار، وجاءت حركة يديْ نادية التي تُمسك عصا التحطيب في يديْها كأنها تفصل بين الاسمين، وبين النزاع المعتاد على اسم مَن سيتصدر الأفيش، وفقا لقانون شباك التذاكر، وحجم نجومية الفنان.

 

“المومياء”.. التجسيد الصامت

بعد تجربة نادية لطفي في “سلطان” لم تخرج الأدوار التي قامت بها نادية لطفي عن إطار الزوجة والخطيبة، سواء مع يوسف شاهين “حب إلى الأبد” (1959)، و”حبي الوحيد” مع حسين كمال، وفيلم ثالث مع السيد بدير.

المتأمل لمسيرتها يجدها أحيانا تقدم ثلاثة أفلام في العام الواحد وأحيانا فيلمين، ومرات تقدم فيلما واحدا وتختفي في العام التالي لتعود مجددا في العام الذي يليه باثنين من الأفلام، كأنها تدرس خطواتها، تتريث وتبحث عن الدور الذي يستفز إمكانياتها، وترى فيه شيئا تُحب أن تقدمه، ربما كان الاستثناء عام 1963 إذ قدمت سبعة أفلام، أما في الأعوام 1962و1964 وكذلك عام 1967 فقامت ببطولة ستة أفلام دفعة واحدة في كل عام، وهى حالات نادرة على مدار سنواتها بالفن، إلى أن توقفت سينمائيا عام 1988، إذ كان آخر أفلامها: “الأب الشرعي” من إخراج ناجي أنجلو.

وقتها كان اسمها لا يزال يتربع على الأفيش، بالمشاركة مع محمود يس، ولم يكن يشغلها مساحة الدور أو حجمه أبدا خصوصا مع المخرجين الكبار، وتجربتها مع “المومياء” نموذج على ذلك، فقد ظهرت بلقطات قصيرة جدا، لكنها كبيرة الأثر، حتى أنه من المستحيل أن يُذكر اسم “المومياء” من دون أن نتذكر وجه نادية لطفي فيه، إنها براعتها في التجسيد الصامت بعينيها الناطقتين بأجمل اللغات، وكان شادي عبقريا فخلق من المكان بالتناسق مع ملابسها نسقا تعبيريا استثنائيا.

لا بد أن نقول إنها هي مَن اقترحت أن تشارك بالفيلم بأي دور صغير حتى يأخذ حصته من دعم مؤسسة السينما، فقد كانت هناك حرب شعواء ضد شادي عبد السلام وفيلمه، فاقترحت أن يُوضع اسمها كنجمة لترغمهم على منحه الدعم، أيضا شاركته بفيلمه التسجيلي “جيوش الشمس” عقب حرب أكتوبر1973، عندما زارت الجرحى في القصر العيني لتساعد في التخفيف عنهم، ثم أخذت كاميرتها ومارست هوايتها في التصوير، في الاستماع إلى تجربتهم بشغف وحب وفخر كبير، كل ذلك يبدو جليا بالفيلم.

عندما نعود إلى بداياتها الأولى سنجد فيلم “عمالقة البحار”، وفيلم “لا تطفئ الشمس”، وفيلم “عودي يا أمي”، وفيلم “مع الذكريات”.

كان اسمها لا يزال يسبقه أسماء النجوم والنجمات الأخريات اللائي رسخن مكانتهن، لكن مع عام 1962 تقدم اسمها الجميع بفيلم “مذكرات تلميذة”، حتى النجم أحمد رمزي تقدمت عليه، وكذلك الحال بفيلميْ “أيام بلا حب” و”قاضي الغرام”.

لقطة لنادية لطفي مع عبد الحليم حافظ في فيلم “أبي فوق الشجرة”

 

بائعة المياه الغازية.. طيف الكوميديا

صار اسم نادية لطفي يتقدم الجميع ومنهم رشدي أباظة إذ سوف سبقته باسمها على الأفيش منذ فيلمهما سويا “عدو المرأة” (1966) من إخراج محمود ذوالفقار، ويستمر هذا الحال حتى فيلمهما “أبدا لن أعود” (1975)، من إخراج حسن رمزي، كان الاستثناء في ذلك أحمد مظهر في “صراع الجبابرة”، وكذلك سعاد حسني في “من غير ميعاد”، وعبد الحليم حافظ في “الخطايا”، لكنها بعد قليل جدا ستتقدم باسمها لتسبق اسم أحمد مظهر، بدءا من عام 1968 بفيلم “أيام الحب”، وكذلك بفيلم “حبيبة غيري” (1976) من سيناريو وإخراج أحمد مظهر نفسه. وفي “أيام الحب” من إخراج حلمي حليم 1968 المقتبس عن ” سيدتي الجميلة” الذي هو أيضا معالجة لمسرحية “لوبجماليون” للكاتب الكبير جورج برناردشو.

في النسخة المصرية لنادية لطفي تدور الأحداث أيضا في إطار كوميدي، فنرى بائعة المياه الغازية “قشطة” وقد أُعجب بها المخرج السينمائي “شريف” (أحمد مظهر)، الذي أراد أن يتخلص من نجمته المتكبرة (سهير البابلي)، فقد تشبع من غطرستها، وأراد أن يلقنها درسا لا تنساه، فقرر أن يصنع نجمة جديدة، من هنا اختار “قشطة” الفتاة البسيطة، بلسانها السليط، التي تبدو كغجرية في سلوكها، لكنها بنت بلد شهمة ونقية.

هنا يُصبح على المخرج “شريف” أن يحول هذه الفتاة السوقية إلى برنسيسة تصلح لدور البطولة بفيلمه الجديد، لكنها تقع في غرامه، وترتبك بسبب عواطفها، فيسايرها حتى تتحمس لعملها، وعندما ينتهي الأمر وينجحان وتستقبلهم الصحافة بالتهليل، يجرحها ويصارحها بأنه لا يحبها، لأنها ستكون قيدا عليه، لكنه بعد قليل سيكتشف أنه قد وقع في غرامها بالفعل.

عملت نادية لطفي مع العديد من المخرجين، بعضهم كان متواضعا، وبالتالي قدم لها أفلاما متواضعة، كما هو الحال في أعمالها مع المخرجيْن عيسى كرامة وحسن الصيفي، وهي ذاتها اعترفت في تصريحات متلفزة لها بأنها قدمت أعمالا لم تكن راضية عنها بعد أن شاهدتها في صورتها النهائية.

أما محمود ذو الفقار فأهمية تجربتها معه في أنه قدمها في إطار كوميدي، إذ اكتشف هذه الطاقة عندها، رغم أنها في مرحلة من حياتها توقفت عن التمثيل للمسرح بسبب اعتقاد أنها غير قادرة على إضحاك الجمهور، فاكتفت بتجربة واحدة يتيمة هي “بمبة كشر”، واكتفت في التلفاز أيضا بعملين ثم توقفت، كان غرامها وهوايتها وعشقها هو السينما.

جاءت تجربتها الكوميدية مع محمود ذو الفقار بعد نجاح فيلمها “السبع بنات” مع عاطف سالم، وكان عنوان الفيلم “للرجال فقط” (1964) مع سعاد حسني وإيهاب نافع وحسن يوسف.

تدور الأحداث في إطار كوميدي لطيف، حول “إلهام وسلوى”، وهما مهندستان عُيّنتا في شركة بترول بالقاهرة، لكنهما تسعيان إلى المساواة مع الرجال والعمل في الصحراء، رغبة في استكشاف آبار بترول جديدة، ونظرا إلى أن الشركة لا ترسل إلا الرجال فقط، تنكرت المهندستان في زي الرجال وتقدمتا للوظيفة الجديدة، هناك تتعرفان على زملائهما في العمل بالصحراء، وتقيمان معهما على أنهما رجلين، وهنا تحدث المفارقات الكوميدية الرومانسية.

 

انتفاء الوازع.. نظارة سوداء

رغم تنوع تجربة نادية لطفي مع المخرجين، لكن بتقديري أن أفضل أربعة عملت معهم هم؛ المخرج كمال الشيخ، وحسن الإمام، وحسين كمال، وحسام الدين مصطفى، قد يندهش البعض من إضافتي للمخرج الأخير الذي اشتهر بتجارية أعماله، لكن هذا الحس التجاري الذي تميز به وجعله يحقق مع حسن الإمام أعلى الإيرادات لم يمنعه من أن يقدم أعمالا مهمة خصوصا تلك المقتبسة عن نصوص أدبية.

قدمت نادية لطفي مع حسام عددا من الأعمال منها أربعة أعمال شديدة الأهمية والثراء، إذ تجاوزنا عن شخصية نادية شاكر في “أيام بلا حب” 1962 لأنها ليس في قوة ما يلي رغم أنها تجسد دور فتاة تتحدى والدها الثري. تقف في صف حبيبها الفقير ابن الصياد، تقرر أن تهرب معه، وتتزوجه، لكن رجال والدها يطاردونهما، ويهددون الحبيب، وكذلك فيلم “جريمة في الحي الهادي” عن واقعة اغتيال حقيقية في عام 1947، وإن كان المخرج نقل الأحداث إلى عام 1967، بسبب عدم القدرة على تحمل نفقات بناء ديكور وتصميم شوارع لتلك الفترة.

هنا نتوقف أمام شخصية “مادي” في فيلم “النظارة السوداء” المنتج عام 1963 بتوقيع حسام الدين مصطفى عن رواية لإحسان عبد القدوس، فهي الفتاة التافهة، المدللة، الأرستقراطية التي لا تعترف بالفضيلة، إنها بعيدة عن الحس الأخلاقي والإنساني، تغرق في ملذات الحياة، بلا أي وازع أخلاقي، لذا ترى الحياة من خلال نظارتها السوداء، لا ترى الضوء الحقيقي للنهار، أو للشمس. عندما تقابل عمر المهندس/ أحمد مظهر، تُعجب به لأنه مختلف عن باقي أفراد شلتها، إنها تشعر بالملل، ولا تجد هدفا لحياتها، لكن عمر يُحاول أن يمنحها ذلك الهدف بأن يرشدها إلى مساعدة الآخرين مثلما يفعل هو.

 

“ريري”.. فتاة الليل الهاربة

على النقيض من مادي تأتي شخصية ريري في فيلم “السمان والخريف” 1967 المقتبس عن رواية نجيب محفوظ. إنها فتاة الليل الفقيرة الهاربة من قريتها بسب علاقة حب مع أحد شباب القرية، هربت بعدها خوفا من مواجهة الفضيحة بعد أن علمت القرية بأسرها، هربت مع طالب يدرس في الإسكندرية، وهناك واصلت الهروب، ملل، شقاوة.. هكذا تعترف لعيسى الدباغ/ محمود مرسي، عندما تفتح له خزينة أسرارها، فمن هو عيسى الدباغ؟

إنه رجل سياسي يفقد مكانته في لحظة تاريخية، فيتحول إلى إنسان ضائع، تلتقيه ريري ذات مساء في الشارع على الكورنيش، كانت شريدة بلا مأوى، بملابس رخيصة، تتوقف أمامه، يحتقرها بضحكة ساخرة، تهم أن تمشي فيتوقف عن الضحك، ويمد لها يده.

تذهب معه في الصباح يطردها، تحاول التشبث بحجج كثيرة، تحاول مسح الشقة، يرفض بعناد، تخرج، يمنحها خمسين صاغا، تعود إليه بعد أيام فيبقيها معه، كأنها قطة يستأنس بها، يأمرها إن ظلت ألا تسأله، ألا تنطق، ألا تغضب لو أحضر امرأة أخرى، تصمت في استسلام، لأنها تحبه، يؤكد عليها: “مفيش لا حب ولا عواطف.. ولا مشاكل…” يعاملها بحزم وصرامة قاسية.. تصمت.. لكنه في اليوم التالي يشتري لها ملابسا جديدة بعد أن يرى التشققات في كعوب قدميها وهي نائمة.

تبكي عندما ترى الملابس.. تحتضنه، تبكي لأنه فكر فيها، لأنه ربما لأول مرة هناك إنسان يُفكر فيها، ربما أيضا لأن قسوته في الليلة السابقة جعلتها تحزن بقوة، ثم فجأة وجدته بهذا الكرم والرقة، ثم يتواصل حديثهما في جلسات السمر، تدور بينهما حوارات تكشف عن الفروق بين المستوي الاجتماعي، كذلك للحوار جانب إنساني، فريري تتمنى “أن تبقى معه، أن يكون لها بيت، ورجل يحبها وتحبه، أن يكون لها ولد أو بنت، تربيها وتكبرها وتعلمها، حتى لا تكون مثلها”.

عندما يكتشف عيسى أنها حامل يطردها، يلقي بها على السلم، ويرمي فوقها ملابسها، عندما تراه مرة أخرى في الكازينو تدخل إليه، تحاول أن تتكلم معه، لكنه ينكرها، ويسبب لها حرجا أمام الجميع، تتزوج ريري من رجل كبير في السن كانت تعرفه، وافق أن يسجل الطفلة باسمه، تُوفي وترك لها المحل فتديره، تصبح ريري سيدة محترمة مسؤولة، تحمي ابنتها.

ذات يوم يأتي إليها عيسى الدباغ في المحل طالبا الصُلح والصفح، وأن تعود إليه هي والبنت، الآن أصابه وجع القلب بسبب الابنة. لكن ريري تنكره، تعامله بنفس قسوته وإنكاره لها في الكازينو، فهل كانت تنكره انتقاما وثأرا لكرامتها، أم أنها تريد لابنتها حياة بعيدة عن قسوته؟ يذهب للبيت لكنها تُغلق كل أبواب الرحمة في وجهه، مع ذلك لا ينتهي العمل إلا بنهاية سعيدة كعادة الأفلام المصرية، غالبا لإرضاء الجمهور.

 

قاع المدينة.. هُوة الانسحاق

إذا كانت رحلة ريري في “السمان والخريف” هي رحلة صعود وسمو، إذ تحولت من فتاة ليل مشردة إلى سيدة وأم مسؤولة فإن شخصية “شهرت” في فيلم “قاع المدينة” 1973عن قصة ليوسف إدريس تناقضها، في أنها رحلة هبوط وانحطاط، بمزيد من الانسحاق رغم القوة التي تتسلح بها، إنها هنا، امرأة شعبية جدا تعول ثلاثة أطفال في ظل رجل عاطل يتعاطى الدخان المكلف، تقبل في انكسار ورغما عنها أن تعمل كخادمة، لكن سيدها سيختبر فيه ذكورته، وقدراته على نسيان حبيبته الأرقى منه اجتماعيا، في البداية تبكي، تترك المال والأكل، تؤلمها كرامتها، وعزة نفسها، لكنها بعد أيام تعود، وتواصل الطريق، بعد أن اختفت تلك النظرة العبقرية في تجسيد الانكسار والحزن.

وعندما يطردها تُصبح فتاة ليل خبيرة، فلديها أطفالها عليها أن تُطعمهم وتربيهم، يتوقف سيدها بسيارته ذات يوم صدفة بجوارها لا يتعرف عليها في زيها الراقي، عندما تنتبه لوجهه تتراجع، تغلق باب السيارة، تبصق قطعة اللادن”/اللبان، التي كانت تمضغها من فمها كأنه تبصقه هو.

في “الإخوة الأعداء” يُذكرنا قناع “لولا” بشيء ما من مادي “النظارة السوداء. الأخوة الأعداء 1974 عن رواية “الإخوة كرامازوف” لمبدعها “دوتسويفسكي”.

لكن “لولا” تبدو أكثر توحشا، وشراهة في غرائزها، إنها أقوى بمراحل من شخصية مادي، إنها كالشيطان الذي يتمادى في جذب الآخرين إليه، إنها الراقصة والغانية، صاحبة فندق، تبيع نفسها للرجال، لمن يدفع أكثر، للأرماني “يحيى شاهين” الذي كان يعشقها، ومن أجلها ظلم أبناءه وحرمهم من الميراث، لن تكتفي، فعندما يزورها ابنه توفيق حسين فهمي تنجذب إليه، وتقرر أن يكون لها.

تأخذه من خطيبه عايدة/ ميرفت أمين، ثم لاحقا تذهب إليها، تتحدث معها برقة وإنسانية، تعترف بخطئها وأنها قررت أن تترك لها توفيق مرة ثانية، لكنها تعود فتتحول 180 درجة، وتصير إنسانة سادية، قاسية القلب. عندما يحضر الأخ المدرس المهذب الوديع أحمد الأرمني/ سمير صبري، وهنا تعلن أنها لازالت تحب توفيق وأنها لن تتركه لها، ثم تُهينها وتذكرها بأنها هي أيضا باعت نفسها من قبل.

تنهار “ميرفت” بسبب” لولا”، وبسببها أيضا يدخل توفيق السجن بعد ارتكابه جريمة قتل، بسببها قُتل الأب، وتصارع الجميع، لقد دمرت لولا هذه الأسرة وجعلت الابن يفكر في قتل أبيه، وإنْ بالتهديد، إنها أطلقت غرائزهم، جعلتها مُنطلقة بحالة جنونية، من ثم جاءت النهاية الحتمية بالخراب على الجميع.

 

“ما ينفعش تسيبه وتهرب”.. الأم المضحية

على قدر الانحلال في شخصيات “لولا”، و”مادي”، والجرأة في عيون كل من “ريري” و”شهرت”، نجد على النقيض تماما شخصية “ناني” في فيلم “في المستحيل” بتوقيع حسين كمال، 1965، عن قصة د. مصطفى محمود.

ترتدي نادية قناع ناني التي تضحي بنفسها، وبسعادتها، وبرغباتها، وبجسدها، من أجل ابنها وزوجها صلاح منصور الذي لا تطيقه، والذي تزوجته مرغمة، إنها تتخلى عن حبها الحقيقي لأجل ابنها، مبررة ذلك بأن “الماضي هو نتيجة أفعالها وتصرفاتها.. ما ينفعش تسيبه وتهرب.. لأنه سيلاحقها.. وأنها إذا تخلت عن ابنها وزوجها يجب ألا يثق فيها حبيبها حلمي (كمال الشناوي)”.

صورة تجمع الفنانة الجريئة الداعمة لفلسطين نادية لطفي مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات

 

ترانيم على نفس اللحن

في “على ورق سوليفان” 1975 لحسين كمال، تعيش “قسمت” في حيرة، لأنها تعاني من انشغال زوجها د. محمد/ أحمد مظهر، بمرضاه وجراحاته، والعمليات، تلتقي ذات مساء مع الشاب المنفتح هشام/ محمود ياسين، معه يتجدد معنى الحياة، تنمو الصداقة بينهما، وتتعدد اللقاءات، ثم في لحظة تبدأ المقارنة بين هشام وزوجها المشغول دائمًا. إلى أن ترى زوجها ذات يوم في عمله فتشعر كأنها تراه لأول مرة، وتدرك قيمته.

قدمت نادية لطفي تنويعة أخرى على نفس اللحن السابق حيث معاناة الزوجة من إهمال زوجها بسبب انشغاله في عمله بفيلم “الخائنة” بتوقيع هيتشكوك السينما المصرية كمال الشيخ، عام 1965، تأليف إبراهيم الورداني، سيناريو عبد الحي أديب، وحوار موسى صبري.

الفيلم مصنوع في إطار من التشويق، الذي يميز أعمال الشيخ، الزوجة هوايتها التصوير، تعامل زوجها بِندية شديدة، كرامتها في المقدمة، لذلك تمارس الخطيئة في لحظة ضعف وغيرة وانتقام، لكننا لا نعرف الشخص الذي فعلت معه ذلك، تدور الشكوك حول ثلاثة من الأصدقاء، وينتهي الفيلم بمأزق نفسي وندم من الزوجة، يصل لمحاولة الانتحار عندما يكتشف الزوج لقطة مصورة عن طريق الخطأ.

تنوعت أدوار نادية لطفي لكن ستظل أيضا عالقة في أذهان الناس بشخصيتها بفيلم “الناصر صلاح الدين” تلك المرأة الأوروبية، “لويزا”، التي تهيم حبا بعيسى العوام، هذا الحب يجعلها تفتح عينيها لترى عدالة قضيته، لذلك تساعده في الهرب متسلحة بجرأتها ومساحة من المغامرة في شخصيتها.

من خارج الفن السابع.. الجريئة المناضلة

استمرت لطفي أعمالها المتنوعة التي بلغت نحو 85 عملا سينمائيا طوال رحلة فنية وإنسانية استثنائية، تركت خلالها في نفوس جمهورها، وكل مَن عرفها عن قرب أثرا عظيما، وفوق هذا لم يكن الفن السابع هو كل حياتها فقط، لكنها انخرطت في خدمة قضايا وطنها وقت الحرب فزارت الجبهة عدة مرات.

دعمت القضية الفلسطينية، مثلما ذهبت إلى بيروت وقت الحصار، إنها الجريئة المناضلة التي لم تنشغل أبدا عن قضايا وطنها أو إنسانيتها، وامتلكت قدرة كبيرة على العطاء وإسعاد من حولها.