نجيب محفوظ.. هل مهّد تأييده لكامب ديفد والتطبيع الطريق لجائزة نوبل؟

في مثل هذه الأيام قبل نحو 31 عاما حصل الأديب المصري نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الأدب، وبهذه المناسبة تفتح الجزيرة الوثائقية ملف هذا الأديب بما له وما عليه في أربع حلقات، وفي الحلقة الثالثة بعنوان “النجيب.. الطريق إلى نوبل” تناقش اللغط الكبير الذي تلا حصول نجيب على جائزة نوبل واتهامات بأن هذه الجائزة كانت ثمنا لمواقفه المتعلقة باتفاقية كامب ديفد وتطبيعه مع إسرائيل.

حبيب مايابى

في ظُهر 13 أكتوبر/تشرين الأول 1988، كان نجيب محفوظ -البالغ من عمره 76 عاما- كعادته قد خلع ربطة عنقه ليخلد إلى القيلولة في غرفة نومه بالمنزل، وقبل أن تستغرقه الأحلام، أيقظته زوجته بخبر فوزه بجائزة نوبل للآداب.

ورغم أن حصول الأديب على الجائزة كان قد تنبأ به الكُتاب قبل عقدين أو أكثر، فإن طريقه كانت صعبة وشاقة، حيث استخدم فيه الإبداع والمواقف والسياسة وأشياء أخرى.

وكان السياق السياسي والتاريخي الذي حصل فيه محفوظ على نوبل محورا لفيلم وثائقي بعنوان “الطريق إلى نوبل” ضمن السلسلة التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية.

وقد استعرض الفيلم الأحداث التي كانت لها علاقة بمسيرة محفوظ نحو العالمية، واستمع لآراء الكثير من الكتاب والنقاد وأساتذة الجامعات الذين عايشوا ذلك الحدث.

فرح يتصدر الأحداث

في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1988، استقبلت زوجة محفوظ اتصالا من جريدة الأهرام يخبرها بحصول زوجها على جائزة نوبل للآداب. ومنذ ذلك الحين أصبح 13 أكتوبر يوما استثنائيا بالنسبة للمصريين والعرب، حيث إنها المرة الأولى التي يحصل فيها عربي على تلك الجائزة الأدبية.

وفي اليوم الموالي تصدّر الخبر قائمة الصحف والمنشورات في جمهورية مصر العربية كأهم حدث في البلاد، رغم أن ذلك التاريخ كان يوافق الذكرى الثامنة لتولي الرئيس حسني مبارك مقاليد السلطة في الدولة.

كما تزامن خبر حصول نجيب على الجائزة مع نشر روايته الموسومة بـ”قُشْتمر”، والتي تعتبر آخر رواياته.

وبعد الخبر وذيوعه، قدِم إلى مصر رئيس لجنة جائزة نوبل ستوري آلن لدعوة نجيب إلى حضور الحفل في السويد وتسلم جائزته.

محفوظ كان قد تكلم عن الصلح مع إسرائيل في ندوة نظمتها جريدة الأهرام مع الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي
محفوظ كان قد تكلم عن الصلح مع إسرائيل في ندوة نظمتها جريدة الأهرام مع الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي

نوبل ملتبسة!

لكن فرحة الأديب ربما أفسدتها الشائعات وأحاديث الوشاة، حيث اعتبر بعض الكتاب والعارفين بدهاليز السياسة وتأثيرها أن حصول محفوظ على الجائزة كانت وراءه جهود إسرائيلية.

ويرى الباحث الأدبي ومؤلف كتاب “أنا نجيب محفوظ” إبراهيم عبد العزيز أن محفوظ كان قد تكلم عن الصلح مع إسرائيل قبل حرب 1973، وكان ذلك في ندوة نظمتها جريدة الأهرام مع الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي.

وفي تلك الندوة طرح نجيب فكرة التفاوض مع إسرائيل بدل الحرب معها، وكان ذلك الرأي نشازا لأن الجماهير حينها تستعد للثأر من هزيمة 1967. وعلى الرغم من أن حرب أكتوبر قامت، فإن نجيب اعتبرها بداية للتفاوض الذي بإمكانه أن يأتي بالسلام مع دولة الاحتلال.

وفي عام 1977 تبين أن نجيب لم يكن وحده في تبني نظرية التفاوض مع العدو، فقد وافق رأيه هذه المرة الرئيس المصري أنور السادات. تلاقت آراء الأديب مع سياسة الرئيس، فكان أول المؤيدين لاتفاقية كامب ديفد والمنظرين لها قبل أن تكون واقعا ملموسا.

وفي مشاركته بالوثائقي، قال الكاتب الدكتور مازن النجار: نجيب محفوظ كان متعاطفا ومؤيدا للاتفاقية، وهو واحد ممن يعتقدون بأن الحل في الصلح مع إسرائيل إذا لم تكن الهزيمة ممكنة.

ويرى الكاتب الصحفي خالد السرجاني أن نجيب لم يُدن بسبب تأييده لاتفاقية كامب ديفد، ولكن بسبب تنفيذ ما جاء في الاتفاقية فيما يتعلق بالتطبيع الثقافي ولقائه نخبا إسرائيلية ونقادا إسرائيليين ووفودا إسرائيلية، فنجيب محفوظ لم يكن موقفه ملتبسا فيما يتعلق بكامب ديفد، بل كان موقفا واضحا.

وفي أستوكهولم عام 1978 نودي على الرئيس السادات بحصوله على جائزة نوبل للسلام مناصفة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها مناحيم بيغن. وكان حصول السادات على الجائزة تقديرا لحضوره في مقر الكنيست الإسرائيلي لتوقيع الاتفاقية، فأثير لغط إزاء تلك الجائزة، ومنذ ذلك الحين أصبحت محل شبهة واستفهام.

وبعدما أُعلن عن تسمية نجيب محفوظ حاصلا على نوبل للآداب، اعتبر كثير من المتابعين أنها جاءت نتيجة لجهوده في التنظير ودعم اتفاقية السلام مع إسرائيل.

لكن الفترة الواقعة بين 1978 و1988 التي حصل فيها نجيب على الجائزة تجعل من احتمال مكافأته بالجائزة على اتفاقية السلام مع إسرائيل أمرا مستبعدا لأنه قد مضى وقت كثير، فلماذا لم يحصل نجيب على الجائزة في العام الذي وُقّعت فيه الاتفاقية، أو في العام الذي يليه؟

يرى الكاتب الدكتور مازن النجار أن محفوظ رغم ما حيك حوله من شائعات وشبهات قد تكون صحيحة، فإنه يستحق تلك الجائزة لأنه أديب عملاق ومقتدر ويستحق أكثر من نوبل.

اعتبر كثير من المتابعين أن الجائزة جاءت نتيجة لجهوده في التنظير ودعم اتفاقية السلام مع إسرائيل
اعتبر كثير من المتابعين أن الجائزة جاءت نتيجة لجهوده في التنظير ودعم اتفاقية السلام مع إسرائيل

مع السلطة أم ضدها؟

وتعتبر كتابات نجيب محفوظ التي كتبها في تلك الفترة تجعل من فكرة تنسيقه مع السلطات السياسية بهدف جعله في المحافل العالمية أمرا مستبعدا.

ففي رواية “الكرنك” مثلا ركز فيها على نقد استبداد السلطة المتجذر في التاريخ المصري، وعبر عنه بشخوص الرواية وأحداثها. ومن كثرة انتقاده للسلطة في تلك الرواية حذفت الأهرام أجزاء متعددة منها، كما رفضت نشر روايات أخرى له.

يقول عضو شلة الحرافيش زكي سالم: حُذف من رواية الكرنك الكثير، وأخبرني نجيب محفوظ أنه تمنى لو لم تنشر الرواية لكثرة ما حذف منها.

وفي تلك الفترة كان نجيب قد ضاق ذرعا بتدخل السلطات في رواياته التي تنشر عبر صحيفة الأهرام، ففكر في أسلوب يُحصّن به إنتاجه الأدبي.

وهروبا من الواقع والرقابة على أحداثه، عاد بخياله إلى التاريخ البعيد مستوحيا منه شخوصا ورموزا انتهى زمنها، ليعبر من خلالها عن آرائه التي بدا أن الحاضر قد لا يكون متقبلا لها.

وحينما عكف على أحداث الماضي ليُسقطها على واقعه، جاء بمشروعه الكبير رواية “الحرافيش” التي تحكي قصة الحكم والاستبداد بالسلطة في مصر منذ تاريخ المماليك إلى يوم نجيب محفوظ. وبحرفية نادرة استطاع صاحب الرواية عبر الرموز والإسقاطات أن يوصل أفكاره ويخرجها للقراء، دون أن تتعرض لمقص الرقيب ومصادرة السلطات.

رواية "الحرافيش" التي تحكي قصة الحكم والاستبداد بالسلطة في مصر منذ تاريخ المماليك إلى يوم نجيب محفوظ
رواية “الحرافيش” التي تحكي قصة الحكم والاستبداد بالسلطة في مصر منذ تاريخ المماليك إلى يوم نجيب محفوظ

الطريق إلى العالم

وفي نهاية السبعينيات وعد السادات شعبه بعهد من الرخاء ومرحلةٍ من الانفتاح الخارجي لم تعرفها مصر منذ أمد بعيد؛ ذلك الانفتاح الذي لم يترك أثرا على صعيد السياسة والاقتصاد فحسب، وإنما تجاوز ذلك إلى ميادين الفكر والثقافة والفنون.

وحينها جاءت اللحظة المناسبة لترجمة أدب محفوظ نحو لغات العالم الآخر، ليتعرف عليه القراء والمثقفون، ويُعرضَ على نقاد أكثر تحررا وتجردا.

يقول المترجم ديفِنز جونسون: تلك المرحلة من التاريخ المصري لم تكن فيها حركة للترجمة، والأدب العربي كان محتاجا لمترجمين. وأضاف: في تلك المرحلة الأولى، رجعتُ لمجموعة نجيب محفوظ الأولى “همس الجنون” وترجمتُ جزءاً منها.

ويذكر الناشر بالجامعة الأمريكية في القاهرة نيل هيوسن أن العلاقة بين نجيب محفوظ وقسم النشر بالجامعة بدأت في عام 1978.

وعن عالمية روايات محفوظ وانتشارها في العالم، قال الروائي ومؤلف كتاب المجالس المحفوظية جمال الغيطاني إنه لاحظ في مكتبات الولايات المتحدة الأمريكية وجود روايات محفوظ بين أعلام الأدب الإنساني.

وقد فتحت روايات محفوظ المترجمة إلى اللغة الإنجليزية البابَ أمام ترجمات أخرى، ساهم من خلالها المترجمون إلى نقلة في تاريخ الأدب المصري حسب رأي أستاذ الأدب الإيطالي الدكتور حسين محمود.

تزامن خبر حصول نجيب على الجائزة مع نشر روايته الموسومة بـ"قُشْتمر"، والتي تعتبر آخر رواياته
تزامن خبر حصول نجيب على الجائزة مع نشر روايته الموسومة بـ”قُشْتمر”، والتي تعتبر آخر رواياته

كاتب مهني

وخلا مشواره الطويل في الأدب، تميز محفوظ عن غيره من الأدباء بأنه كان ينظر للكتابة على أنها مهنة وليست إلهاما تفيض به الأحاسيس والمشاعر في وقت غير متوقع.

ويرى الغيطاني أن نجيب كان يعتبر الكتابة غريزة، كما أن جوهر حياته يتجلى في لحظة الكتابة والإبداع.

وفي رواياته العديدة، تفنن نجيب في أساليب الكتابة وجرب جميع أنماطها. يرى الناشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة نيل هيوسن أن السر وراء تميز نجيب محفوظ هو كتابته عن شخصيات محلية بصورة أوصلتها للعالمية، حيث لم تعد شخوص رواياته مقصورة على المصريين الذين باستطاعتهم قراءة أعماله بسهولة، وإنما كتب عن شخصيات واقعية ومشكلات حقيقية ذات علاقات وثيقة بين البشر، ولم يكن لكتّاب ذلك الوقت قدرة على معالجة تلك الظواهر بنفس الأسلوب الذي كان يستخدمه.

وقد وصل إنتاجه في الكتابة إلى 50 مؤلفا ما بين قصة ورواية، استطاع من خلالها أن يضع أدب الرواية العربية على طريق العالمية والنجومية.

وبالمثابرة والقدرة على استبطان المخزون الثقافي لمصر وللعرب والمسلمين، استطاع أن يكتب أدبا عربيا جميلا، يُمثل ذخيرة بالنسبة لأجيال الأمة القادمة التي سيجعلها قادرة على رؤية التاريخ والمجتمع بشكل إيجابي، على حد تعبير الدكتور مازن النجار.

وفي سنة 1988 انتهي محفوظ من كتابة روايته قشتمر، وسلمها لجريدة الأهرام كي يبدأ نشرها في سبتمبر/أيلول من العام نفسه.

المترجم ديفِنز جونسون الذي اقترح نجيب محفوظ للحصول على نوبل في الأدب
المترجم ديفِنز جونسون الذي اقترح نجيب محفوظ للحصول على نوبل في الأدب

التتويج بنوبل

وبعدما بدأت الأهرام في نشر رواية قشتمر، حان وقت حصاد السنين، وبدأت روايات الأديب المترجمة تؤتي أُكلها في وقت لم تكن الساحة الثقافية قد أخذت معه موعدا، فكانت المفاجأة من عناصر جمال الفرح الذي سيعيشه أديب مصر مع شعبه.

وفي سبتمبر/أيلول 1988 غادرت زوجة سفير السويد في الخضراء نحو مصر، والتقت بالمترجم ديفِنز جونسون، وأخبرته عن رغبة أعضاء نوبل للآداب بإعطاء الجائزة في ذلك العام لأحد الشخصيات العربية.

اقترح جونسون على زوجة السفير عدة شخصيات كان من ضمنها نجيب محفوظ، وعندما أعلن عن الفائزين كان نجيب هو الحاصل على الجائزة.

وفي 10 ديسمبر/كانون الأول، طُلب من محفوظ الحضور لتسلم جائزته في السويد، لكن ظروفه الصحية لم تسمح له بالسفر، فأرسل ابنتيه فاطمة وأم كلثوم لتستلما الجائزة عوضا عنه. كما أرسل مؤلف كتاب “في حضرة نجيب محفوظ” الروائي محمد سلماوي لإلقاء خطابه في الحفل.

وقد كان ذلك في حفل مهيب حضره العديد من الشخصيات الثقافية من جميع أنحاء العالم، لكن محفوظ اكتفى بمتابعته على شاشة التلفاز.

ويقال إن الأديب العقاد قد تنبأ قبل وفاته بحصول محفوظ على نوبل. وفي شهادة أعضاء لجنة الجائزة قالوا إن نجيب كان يستحقها منذ ثلاثين عاما.

ويرى محرر دورية نجيب محفوظ حسين حمودة أن حصول نجيب على الجائزة قدم خدمات جليلة للأدب العربي، فقد تشكلت نظرة أخرى لأدب المنطقة، وتُرجمت أعمال جديدة لعدد من الكتاب والكاتبات.

ويؤكد ذلك نيل هيوسن الذي يقول إنه بمجرد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، فُتِحَ باب واسع من حركة الترجمة أمام الروايات، حيث إنه قبل ذلك الحدث كان اهتمام القراء الغربيين بالرواية العربية قليلا جدا.

كتاب الشيخ عبد الحميد كشك "كلماتنا في الرد على أولاد حارتنا" أفتى فيه بخروج نجيب محفوظ عن الملة الإسلامية
كتاب الشيخ عبد الحميد كشك “كلماتنا في الرد على أولاد حارتنا” أفتى فيه بخروج نجيب محفوظ عن الملة الإسلامية

لعنة أولاد حارتنا

سمع نجيب محفوظ الكثير عن دور الإسرائيليين في حصوله على أكبر جائزة في العالم، لكنه لم يتوقع أنه سيدخل في صراعات وصدامات كان يظن أن ذاكرة الزمان قد عفت على أسبابها.

وعندما رصدت لجنة نوبل الأسباب التي جعلت محفوظ يحصل على الجائزة، كان من أولها رواية أولاد حارتنا.

وسبق لتلك الرواية أن أثارت ضجة في المجتمع المصري نهاية الخمسينيات، وتم منعها من الطباعة داخل الدولة المصرية، حيث صُنّفت داخل دائرة الممنوع.

يقول الدكتور مازن النجار: عندما سردت لجنة نوبل أسباب منحهم الجائزة لنجيب ذكروا “أولاد حارتنا” وذكروا “الثلاثية”، وإيراد أولاد حارتنا كأول سبب عندهم لمنحه الجائزة كان يثير الشك.

ويعتبر القيادي في الجماعة الإسلامية علاء أبو النصر أن سبب حصول نجيب على نوبل هو رواية أولاد حارتنا. ويتساءل: لماذا هذه الرواية تحديدا تنال إعجاب الغرب وتحصل على جوائز وتترجم إلى عدة لغات؟

وعند تجدد الحديث عن الرواية في الساحة المصرية، ظهر من جديد كتاب الشيخ عبد الحميد كشك الموسوم بـ”كلماتنا في الرد على أولاد حارتنا” وأفتى فيه بخروج نجيب محفوظ عن الملة الإسلامية.

وبعد الجائزة، دخل محفوظ التاريخ من أوسع أبوابه، لكنه بالنسبة لعدد غير قليل من أهل الدين خرج من دائرة الإسلام، وبدأ في مضايقات لم يكن يطرحها في الحسبان.