هشام سليم ونجومية الرحيل.. عندما تقدّرك الجماهير بعد موتك

أسماء الغول

من المحزن أن هشام سليم نال جماهيرية بموته أكثر من حياته، وكم كان سيكون مختلفًا لو أنه رأى كل هذا الحب قبل غيابه، فنجومية ما بعد الموت لن تقول للفنان شيئًا، ربما تُعظّم مكانته وتُؤجج ذكراه، لكن لن يعرف أبدًا الانعكاس الحقيقي لصورته لدى العامة.

إلا أن حالة التقدير المتأخرة هذه لم تحدث فقط مع هشام سليم، فكأن المتفرجين يمرون بحالة غريبة من تذكر النجوم وتبجيلهم بعد أن يضمهم الموت، فقد حدث ذلك قبل أسابيع قليلة حين اختار الموت جورج الراسي، فكانت فاجعة، وكأن الجمهور شعر بالذنب الجماعي تجاه إهمال هذا الصوت الذي ظُلم في حياته.

وفي كل الأحوال ما هو الفنان إلا ذكرى، وأعماله هي التي تبقى سواء أكانت غناء أم تمثيلا أم رسما. لذلك ربما يكون تبجيل ما بعد الموت يُعزّز هذا الإرث، لكن لن تجعل من الفنان يومًا إنسانًا سعيدًا، فقد فات الأوان، وسيعيش مشكّكا في نفسه حتى آخر وقته، كما يجدر بالفنان الموهوب الذي لا يتلقى مديحًا كافيًا. وعلى الدوام كانت هذه حال هشام سليم، وهو ابن مرحلة مهمة في جيل السبعينيات والثمانينيات، وبقي كأنه “تميمة” طمأنينة معلقة في الزمن، وحين سقطت استيقظت الجماهير فجأة.

رقص وغناء وتمثيل.. أدوار بَصمَت حياته

رَقَصَ وغَنّى ومَثّل وأضحك الناس وتمرد، تقمص أدوارًا لا تزال تعيش معنا، بل كأنه خرج للتو منها، فهي نابضة بالحياة، كدوره في فيلم المخرج يوسف شاهين “عودة الابن الضال” (1976)، على الرغم من أنه بحسب مقابلاته هرب بعد عرض الفيلم خوفًا من أسئلة الجماهير عن المشاهد التي صعبت عليهم.

لكنه هكذا يقفز عن المتوقع، ولا يركن للآمن، حاول دائمًا أن يخرج من جلده، جلد الوسيم الهادئ الأرستقراطي، وحلم بنات جيله والجيل الذي يليه، فهو يشبه دائمًا أحدا ما لطيفا في ذاكرتنا.

هشام سليم من مشهد في فيلم عودة الابن الضال رفقة ماجدة الرومي

 

وهذه الهالة القوية المحيطة به جعلت محاولات الخروج عن جلده تشبه مزحة ما، بل لم تفلح معه حتى في أدوار الأفلام التجارية التي لعبها نهاية الثمانينيات. الغريب أنها بشكلٍ أو بآخر زادت من التأكيد على نبله، فهشام الممثل كان وبقي رجلًا صريحًا دمث الأخلاق، يعترف بأخطائه بسهوله، لا يعنيه ماذا يعتقد المحيطون به.

وهذه الاعترافات التي كانت عبر لقاءاتٍ إعلامية قليلة -مثل تجربته المخدرات في شبابه، أو عنفه مرة مع زوجته السابقة- تسامح معها الجمهور على الدوام، وهو الأمر الذي لم يكن سيحدث مع فنانين آخرين لن يعترفوا أبدًا بلحظات ضعفهم، وإذا حدث فسيُلامون.

 

لقد نال هشام تعاطفًا في حياته وحبًا في مماته، جعلته أيقونة فنية وإنسانية، حتى لو لم يلعب على الدوام دور البطولة في الأفلام والمسلسلات.

أحبته الجماهير كابن ضال، وقبلها كفتى متمرد على والدته في “إمبراطورية ميم” (1972)، يتشاقى مع البنات، ويُدخن بالسر، ثم أطل علينا بشخصية عادل البدري الذي خلع ثوب البرجوازية وذهب ليعيش في حارة حبيبته الشعبية.

تقمص كل هؤلاء المتمردين، لكن عند الجمهور بقي الفتى اللطيف هشام سليم الذي لم يتخيل أحد أنه بلغ الرابعة والستين بهذه السرعة ثم أصيب بالسرطان ومات، كأن الزمن خطفه من الماضي قبل الحاضر.

المتمرد.. محاولة الخروج من جلباب والده

لم يكن تمرد هشام سليم فقط على مظهره وأرستقراطيته وكونه الفتى الغض، بل هو بالأساس تمرّد على الأسرة والأب، فقد كان يعيد في مقابلاته الحديث عن قسوة والده الذي كان من أشهر لاعبي النادي الأهلي وقتها الكابتن صالح سليم.

وأراد هشام الخروج فعلًا من جلباب والده الذي وصف أحد المواقف معه في إحدى مقابلاته قائلًا: “طول عمر اسم والدي شرف كبير بالنسبة لي، في يوم من الأيام كنت في النادي، والمدرب زعق في، فأجبته وقلت أنا ابن صالح سليم، لكن عندما عدت للمنزل، ضربني والدي علقة ساخنة وقال لي أنا صالح سليم أنت من.. أنت لا تساوي 3 تعريفة، وكان هذا الموقف بمثابة درس كبير”.

ويبدو أن الأمر كان أعمق من مجرد درس، بل كان الندبة الأولى من ندوب هشام في الحياة، ليختار اسم هشام سليم ويتجاوز اسم والده، ويُمثل أدورًا يتمرد فيها على الفتى ذي العائلة الشهيرة، خاصة أن والده عارض دخوله التمثيل بشدة لولا الممثلة فاتن حمامة وإصرارها أن يكون معها في “إمبراطورية ميم”، وكان كل ذلك انتقاما قديما من والده، فترك تخصص دراسته إلى غير رجعة وأقبل على الفن.

نورا ونور.. أزمة كادت تُفقده ابنته

وهكذا شق طريقه بعيدًا عن والده وحتى بعيدًا عن مكتشفته فاتن حمامة. لقد كان دومًا متخليًّا عن جميع الآباء والرعاة في حياته، ومع ذلك كان من أعظم الآباء ولم يتخلَ عن ابنته نورا حين قامت بعملية التحول إلى ذكر وأصبح اسمها نور، ووقف بجانبها كي تُغيّر اسمها وحالتها في الأوراق الرسمية المصرية، بل توجّه إلى المجتمع وتحدث عن القضية دون الاختباء كما يفعل كثير من ذوي العابرين والعابرات جنسيًا.

وهنا اكتملت صورة الممثل المستنير والأب المضحي، والرجل الذي يواجه ضعفه بشجاعة، فقد اعترف في كثير من المرات أنه في البداية لم يكن قادرا على معاملة ابنته كشاب، وكان يتعامل معه على أنه ابنته، ويخاطبه بصيغة الأنثى، وهو ما فرّق طريقهما، لكن سرعان ما تلاقت من جديد حين وقف إلى جانبه، وقال للإعلام في فيديو مصور “مهمتي أن أجعل هذه الحياة أقل قسوة عليه”.

 

ممثل وفقط.. بسيط حمّله الناس أكثر مما يحتمل

إن تفسير مرحلة تاريخية كاملة عبر تحليل شخصية وأدوار هشام سليم كما نرى الآن في حُمى المنشورات عنه على وسائل التواصل الاجتماعي، لهو أكثر مما يحتمل كسيرة فنان وممثل، فهو لم يكن فيلسوفًا أو متحدثا في السياسة، بل أراد أن يكون بسيطًا، كما هو في أدائه ومقابلاته، وصريحًا، وصادقًا.

وحين حاول أن يكون أكثر من ذلك كما فعلت سعاد حسني حين تورطت بالسياسة بسبب صداقتها مع الشاعر صلاح شاهين؛ فاق الأمر قدرتها. ربما أرادت سعاد التخلص وقتها من لازمة “الجميلة المدللة”، أما هو فأراد التخلص من صفات الفتى اليانع، لكنه هناك كان مخلصًا لهذا النبل والحياد في نفسه، لذلك حين سألوه: كيف وجدت تجربة التمثيل مع يوسف شاهين في الابن الضال؟ أكّد أنه لم يتسق مع مدرسته.

ويقول في لقاء تلفزيوني معه إنه أحب السينما من هذا الفيلم، فحين مثل أول فيلم له “إمبراطورية ميم” كان الأمر تجربة أكثر منه فهما للحالة، بينما في “الابن الضال” بدأ تعلم الحرفية وأحب السينما.

أما عن تجربته الثانية مع المخرج شاهين في فيلم “إسكندرية كمان وكمان”، فقال عنها: “كان المخرج يوسف شاهين يريد مني أن أنظر إلى عينيه خلف الكاميرا طوال التصوير، وشعرت أنه يكتّفني ولا يعطيني المساحة التي أستطيع التعبير فيها عن نفسي، بل الالتزام بتعبيرات معينة”.

العنيد النبيل.. مسار مبدع في حالة بحث دائم

لقد كان هشام سليم في حالة بحث دائمة في السينما والحياة، فقد أنتج عددا من الأفلام الوثائقية التي تخلد ذكرى فنانين آخرين، وشارك في أعمال درامية، وقدم البرامج، وفي الحياة كان الصديق الأمين للعديد من الفنانات اللواتي رثينه بكثيرٍ من الحزن، كالفنانة شريهان ولطيفة وماجدة الرومي، ولا يمكن تجاوز أنه كان من الرجال القليلين الذي تمكن من أن يبني صداقات عمْر مع النساء.

هشام سليم رفقة المخرج يوسف شاهين

 

ذلك هو هشام سليم، الغض العنيد حتى آخر نفس، فحين عرف أنه مصاب بسرطان الرئة بمراحل متقدمة بعد عقود من التدخين، اعتزل وحيدًا، لم يرد أن يستعطف أحدًا أو يتاجر بأزمته، فقد تعلم صغيرًا ألا يتاجر باسم والده.. دروس قاسية لكن ثمنها كان كل هذا الولاء الجماهيري له في موته، في زمن عز فيه النُبل.

وحين خرج في اللقاء الصوتي الأخير أكّد أنه بخير، بل يعيش في “السخنة” على البحر، سعيدًا أنه ليس مصابًا بفايروس كورونا على الأقل.

لن نعرف أبدًا رأيه بكل هذا الاحتفاء به عقب وفاته، لكن بالتأكيد كانت كلّ شكوكه ستزول عن نفسه وموهبته وخياراته، والأهم إرثه السينمائي في وقت عاش وسط زمن عمالقة التمثيل كأحمد زكي ومحمود عبد العزيز، فلم يقبل أن يكون في ظلهم، بل كان متأكدًا من طريق آخر موازٍ راهن عليه وكسبه، ليجعله الجمهور في موته فتى الشاشة الأول، وفارس القلوب النبيل.

نحن بالفعل ودّعنا معه حقبة التسعينيات، وجيل آبائنا ودّع معه الثمانينيات والسبعينيات، ودّعنا وسامة وخطايا عادل البدري، وليالي الحلمية، وليالي جيلنا الطويلة، وأغنية مسلسل صدحت من أجهزة التلفزيون القديمة في آذاننا لسنوات:

منين بييجي الشـــجن.. من اختلاف الزمن

ومنين بييجي الهـوى.. من ائتلاف الهــوى

ومنين بييجي السـواد.. من الطمع والعنــاد

ومنين بييجي الرضا.. من الإيمان بالقضا

ليه يا زمـــــان ما سبتناش أبريـــا.. وواخدنا ليه في طريق ما منوش رجوع.