واصف جوهرية.. يد تكتب تاريخ القدس وأخرى تعزف الموسيقى

هو ملحن وعازف ومؤرخ مقدسي، رغم أنه وصف نفسه بأنه مجرد موظف بسيط، جعلته الظروف الصعبة التي عاشها مدونا شعبيا للفترة التي عاشها في فلسطين، قبل الانتداب البريطاني وخلاله ثم بعد الاحتلال الإسرائيلي.

في هذا الفيلم التسجيلي الذي تعرضه الجزيرة الوثائقية، نتعرف على واصف جوهرية المسيحي ابن القدس الذي تعلم تجويد القرآن، ونمى حسه الموسيقي وهو يستمع للأذان يرفع في مآذن المدينة العتيقة.

ولد واصف جوهرية في عام 1897 في حي السعدية في البلدة القديمة في القدس لأبوين مسيحيين، وهناك نشأ وترعرع، ورغم أنه ولد لعائلة مسيحية أرثوذكسية، فإن هذا لم يشكل فارقا مهما في حياته، فلقد كان أهل القدس متعايشين مع بعضهم بجميع دياناتهم وأطيافهم، مما ساهم في تكوين شخصيته الفنية وولعه الشديد بالموسيقى العربية، وتحديدا العزف على آلة العود.

تظهر أهمية واصف جوهرية في أنه دوَن مذكراته في أربعة مجلدات مخطوطة، وقد ألحقها بسبعة مجلدات أخرى تحوي مجموعات فوتوغرافية، وركزت هذه المذكرات على رصد التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية للحياة اليومية بالقدس في فترة نهاية الحقبة العثمانية، وفترة الحكم العسكري والانتداب البريطاني، وبداية عهد الاحتلال الإسرائيلي.

“من بيروت كتبت حكايتي في القدس كأنني في القدس”

يكتب واصف في مذكراته الجوهرية، فيقول إني لست بذلك الأديب الفاضل أو الكاتب الماهر أو المؤرخ الشهير أو الرحال القدير الذي يحسن نشر علمه وأدبه وإرشاده على العالمين، فكل ما هنالك أنني موظف بسيط أُغلقت أبواب المدارس في وجهي في الحرب العظمى الأولى عندما كنت على وشك إنجاز دراستي الثانوية، ولم يساعدني الحظ على ترك بلادي فلسطين طيلة حياتي، ولكنها طرأت على ظروف ومفاجآت وحوادث مختلفة، وذلك في العهدي العثماني والبريطاني، وقد جعلتني أفكر في تدوين البعض منها.

واصف جوهرية يكتب في مذكراته “من بيروت كتبت حكايتي في القدس كأنني في القدس”

وقد ذكر في تلك المذكرات أن القدس مدينة ارتبطت بالمدن العربية، وكان ارتباطها عضويا يختلف عن ما نراه اليوم من أحوال القدس وانعزالها.

كما كتب في مذكراته في بيروت بعد أن هُجّر من فلسطين، وقال: من بيروت كتبت حكايتي في القدس كأنني في القدس، بدأت من داخل القدس من بيت صغير ثم إلى حارة السعدية ومنها إلى القدس القديمة، ومن ثم إلى قضائها بما فيه من قرى وبلدات لتكون بعضا من فصول حكاية فلسطين بأكملها.

سيمفونيات فلسطين.. موسيقى تتجاوز آفاق اللهجات العربية

خلق واصف جوهرية حالة من التواصل في الأغنية العربية تتجاوز اللهجات بالإضافة لجمال الكلمة واللحن وأظهر قدرة إبداعية خارقة، من خلال ربط الموسيقى بمحيطه وجعلها محاكاه لما حوله، كما أنه نوّع في موسيقاه دون الرضوخ للقوانين، وظل مخلصا للموسيقى والأغنية الشعبية الفلسطينية رغم وجوده في لبنان.

ويعتبر المؤرخ الموسيقي الدكتور سليم الزغبي واصف جوهرية الجسر الذي وصل موسيقى فلسطين القرن التاسع عشر بموسيقاها في القرن العشرين، فلولا وموسيقاه وأهازيجه لتأخرت الموسيقى اليوم، ففلسطين لديها سيمفونيات بفضله وكذلك أوبرا رغم الاحتلال والضغوط الخارجية التي تحاول طمس التراث الفلسطيني.

وعلى الرغم من عدم قدرته على قراءة النوتة الموسيقية فإنه استنبط أسلوبا خاصا به لتدوين النوتات على شكل رموز قام بابتكارها لينقلها ويدونها، كما أنه اهتم بموسيقى بلاد الشام ومصر موضحا مدى تأثيرها على موسيقى بلاده.

مسامير وأوتار وريش حمام.. محاولة لصناعة الحلم

يقول واصف جوهرية في مذكراته: كنت دائما أشعر بحبي العميق للعزف وكنت أريد العزف على أي آلة موسيقية، أذكر أن والدي اشترى علبة طلاء وبعد استعمالهم الصبغة أخذت العلبة وكانت مفتوحة من الأعلى بفتحة مربعة فوضعت فيها من الفتحة العلوية عصى طويلة ثم خرقت الطرف المقابل للفتحة حتى خرجت تلك العصى بعدها ضربت مسامير ثلاثة في قاع العلبة وثلاثة في العصى وربطت الأوتار وشددتها ثم استعملت ريش الحمام للعزف، كان ذلك الجهد من أجل تقليد عملية العزف على العود.

عشق واصف العود منذ صغره حتى أنه كان يجمع مصروفه اليومي كي يشتري عود جاره إلى أن نجح

كان واصف شغوفا بالموسيقى ويشكل امتلاك العود حلما له، وبفضل والده استطاع أن يدرس الموسيقى على يد العازف الشهير عمر البطش الذي كان قائد الأوركسترا العسكرية العثمانية، وهو من علمه العزف على العود.

يقول جوهرية في مذكراته: كنت أدخر ما أحصل عليه من أجل جمع ثمن العود من العم صبري، وكنت حريصا على زيارة العم صبري خوفا من أن يبيعه لغيري، إلى أن اشتريت العود وأحضرته إلى البيت، وكانت فرحة كبيرة بالنسبة لي لم أسمح لأحد من الاقتراب من العود الجديد، وفي وقت النوم أضعه فوق رأسي، وكثيرا ما كنت أعزف عليه في الليل وفي الصباح الباكر، لقد أدركت آمالي وأصبح حبيبي بين يدي، وقفت على عادات أهل القدس وموسيقاها تحديدا في قضاء القدس حيث تنتشر بشكل لافت، كانت هوايتي الغناء، أغني ما أسمع في بيتنا وعلى السطح ومع أولاد الجيران، وكان الفضل لوالدي رحمه الله، فقد كان محبا للفنون الجميلة، وكان يراقب اللغة والمعنى في غنائي وحرص على إحضار أسطوانات للشيخ يوسف المنيلاوي أحد مشاهير ذلك الزمن.

مسيحي في حلقة القرآن.. شغف العائلة الوراثي

لقد كان والد واصف أول من أدخل الفونوغراف إلى القدس وكان يستمع للكبار مثل سلامة حجازي ومنيرة المهدية وغيرهم من العمالقة في الطرب، كما أن والده ألحقه في حلقات تعليم تجويد القرآن الكريم، رغم أنه مسيحي.

درس جوهرية الموسيقى على يد عمر البطش الحلبي أبرع عازفي العود في العهد العثماني المقدسي

يقول واصف: كان شباك غرفة الجلوس مطلا على المأذنة الحمراء (في حارة السعدية في القدس)، وكنت أستمع بشغف إلى المؤذنين، فقد كان الصوت ملفتا ومعبرا، كان المؤذنون كثرا ومن بينهم الشيخ محمد السلواني الذي تخرج من الأزهر الشريف بمصر، كان له إلمام واسع بأداء الأذان، ويتحكم بإيقاع النغم واللحن كأعظم الموسيقيين، كان والدي رحمه الله يوقظني من النوم حتى أستمع وإياه إلى صوت المؤذن عندما يرتل القران الكريم خلال دراستي، لم أشعر ان ذلك غريبا علي حتى أن والدي كان يحفظ القرآن عندما كنت أراجع ما أحفظ، كان يردني إذا ما قرأت السورة قراءة غير صحيحة، وكان مهما أن أتعلم قراءة القرآن والتجويد.

مدرسة المطران.. رحلة من الاستماع إلى العزف مع العمالقة

يذكر المؤرخ زياد عساف أن التحاق واصف بمدرسة المطران أتاحت له فرصة التعبير عن مواهبه في التمثيل والموسيقى لأن المدرسة كانت تعلم الموسيقى، وبعد تعلم الموسيقى والعزف بدأت مرحلة أخرى ونقلة من الموسيقى الكلاسيكية إلى الموسيقى الشعبية الفلسطينية، وكان يتنقل في القدس ويعزف حتى بات مشهورا وله مكانة خاصة بين أهل القدس.

بعد ذلك أصبح يقابل من كان يستمع إليهم في الفونوغراف وجها لوجه، فحضر حفلة سلامة حجازي في القدس، وحفلة عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش، وعزف مع زكي مراد والد ليلى مراد، ثم التحق بعد ذلك بإذاعة القدس كعازف.

دوّن جوهرية في مجلد “الدفاتر الموسيقية” سجلا للموسيقى الشعبية الفلسطينية

كان جوهرية يرصد النشاطات اليومية العادية في فلسطين ليترجمها من خلال الموسيقى، وهذا ما ميز موسيقاه، كذلك كانت مذكراته حيث أنه نقل واقع الحياة في القدس بطبيعتها بما لها وما عليها بشكل بسيط وجميل وعفوي.

نقل حياة البسطاء كالباعة، كما أنه تحدث عن التآلف الديني في المدينة، ويرى الدكتور سليم تماري كبير الباحثين في مركز الدراسات الفلسطينية أن مذكراته “القدس الجوهرية” هي معالجة حميمية لحياة واصف في القدس في حارته، وكيف انتقل بعدها مع بعض العائلات من المدينة القديمة المصورة إلى الشيخ جراح والمصارة وباب الزاهري ثم الطالبية والقطمون وهي بمثابة القدس الجديدة.

هبوط أول طائرة في القدس.. تأريخ يوميات المدينة

الدهشة هي جزء من مذكرات واصف جوهرية التي عاشها واصفا المشاهدات اليومية وما طرأ عليها من تطور، كاستخدام السبريمو أو بابور الغاز بدل الحطب، وكدخول أول سيارة لمدينة القدس، والدهشة من دخول الكهرباء ومشاهدة الرسوم المتحركة وهبوط أول طائرة في القدس، هذه الوقائع التي سماها الدهشات أثرت في تحصيله المعرفي والحياتي، كما أنها أثرت على شخصيته.

جوهرية يشهد هبوط أول طائرة في سماء فلسطين سنة 1915

لقد قدم واصف جوهرية من خلال مذكراته خدمة جليلة للشعب الفلسطيني بذكر تفاصيل الحياة اليومية في مدينة القدس، لأنه وصفها بطريقة متفردة وواقعية وقام بتجميع صور نادرة للقدس في ذلك الزمان وجمعها بمجلد خاص.

كما أنه نقل مذكراته بطريقة الحكواتي، فكانت أفكاره متسلسلة وواضحة بتعبير فني قدم التراث واعتبر القدس مهدا للحضارة العربية وأعطاها ما تستحقه من التقدير.

“لا تقول مسيحي ومسلم ما دام باعونا”.. حديث عن الانتداب البريطاني

في حديثه عن الانتداب البريطاني والاحتلال، يقول واصف في مذكراته: فجر الأحد التاسع عشر من كانون الأول/ديسمبر عام 1917، أصبحت القدس في يد الإنجليز وحلفائهم، دخل الجنرال “أللمبي” إلى القدس بعد احتفال عسكري ضخم، ما زلت أذكر ذلك اليوم، كان دخوله من جهة باب الخليل، أذكر عندما تلا “أللمبي” بيانه المشهور وأشار إلى انتهاء الحرب الصليبية، انسحب من الاحتفال بعض من زعماء المسلمين.

عاش جوهرية فترة الانتداب البريطاني على فلسطين والذي انتهى بتأسيس الدولة الصهيونية وتهجير الشعب الفلسطيني

لقد عاشت فلسطين فترة الانتداب حال مجاعة، وقد ألف أغنية المجاعة التي لحنها عمر البطش، كما ألف أغنية “الكرسنة (نوع من الحبوب) والفول” التي تتحدث عن الضرائب في ذلك الزمان، فنقل قضايا الناس كما غنى للأفراح والأعراس والاحتفالات الدينية الإسلامية والمسيحية.

يذكر جوهرية الانتداب البريطاني وآثاره السلبية على المجتمع الفلسطيني فيقول: تبدلت أفراحنا أتراحا بعد أن اكتشفنا نوايا بريطانيا السيئة، ونشرت على الملأ بلا خوف ولا وجل، وجاء وعد بلفور المشؤوم، أذكر أنني اطلعت صدفة على جريدة الكرمل التي كانت تصدر في حيفا، فوجدت بها هذه الأبيات:

طلع يا مصعبنا صوت الجراف سان ريمو واللي بقلك ما بخصه ربنا لا يعينه

في الحال، وبصفتي فنانا، حلت فكرة في مخيلتي فألفت بعض الأبيات تكملة لما قرأت:

ما قريتش يا خويا أخيرا في جريدة الكرمل

مصيبتنا السودة بتعيين المستر صموئيل

ومن في الدنيا ما سمعشي دلال بيدلل

واللي ما يعجبوش من الصبح يحمل

لا تقول مسيحي ومسلم ما دام باعونا

كيف بدنا بكرة نسلم للي اشترونا

بدال عن اسم أنور وجمال حكمونا

شبتاي وشلوم وحايم يكرهونا

“هل نرى فلسطين مملكة إسرائيل”.. ربع قرن من التهجير إلى بيروت

يذكر واصف جوهرية قرار التقسيم والتهجير القسري للشعب الفلسطيني فيقول: أصبح الجو مكفهرا في طول البلاد وعرضها، إنه قرار التقسيم، يومها تركت البيت وشاهدت العرب مجتمعين وهم في قلق على مصير هذا الوطن يتساءلون.. هل يا ترى يتحقق هذا الخبر المشؤوم، وهل نرى فلسطين مملكة إسرائيل؟ وفعلا وقع ما كنا نخشاه بعد أشهر فقط وتحديدا في صباح الثامن عشر من نيسان/أبريل من عام 1948، تركنا الدار وتركنا القدس والدموع تجري من عيوننا.

طُرد واصف جوهرية من بيته في القدس فهاجر إلى لبنان ليختم حياته فيها بعد 25 عاما

هاجر واصف جوهرية إلى بيروت، لقد عاد كما كان عندما كان طفلا، فقد وطنه وعوده وموسيقاه، وفي إحدى الجلسات مع أصدقائه المقدسيين الذين كانوا تواقين لسماع موسيقاه، قرروا استعارة عود من صديق أحد الحاضرين، في تلك اللحظة عادت الذكريات الجميلة لجوهرية ليالي القدس التي لا تنسى عُوده وحياته التي مضت.

عاش جوهرية في بيروت ما يقرب من ربع قرن، كان يحمله فيها الحنين إلى مدينته التي لم تغب لحظة من ذاكرته، وظهر ذلك جليا في أغانيه المسجلة، كانت تلك مسؤولية كبيرة أثقلت كاهل جوهرية بنقل كل شيء عن الحضارة والإنسانية التي كانت حاضرة في فلسطين قبل النكبة. لقد نقلها بأمانة وصدق نابعين من حبه وشوقه لوطن غرب عنه لكنه بقي ساكنا في كيانه.