وودي ألن.. عبقري مريض سخّر أوجاعه لإضحاك الناس

بلال المازني

لم يُثر أي مخرج هوليودي جدلا بحجم الجدل الذي أثاره المخرج الأمريكي “وودي ألن”، إما بسبب أفلامه أو بسبب ما يلاحقه من أزمات أخلاقية، فقد أدخلت تلك الأزمات المخرج الأمريكي في دوّامة عاصفة، وأصبحت حياته الخاصة ظلا يلازمها الانتقادات التي تُوجه له، غير أنه لا يمكن لتلك الظلال أن تحجب بريقا آسرا لمجموعة من الأفلام الخالدة التي تصدرت قائمة أفضل الأفلام الأمريكية على الإطلاق.

“لم أصنع فيلما جيدا حتى الآن”

يقول وودي ألن “إنني لم أفكر أبدا في الأفلام كغاية، لكنني أردتها دائما وسيلة لحياة أفضل”.

قد تبدو هذه الجملة غاية في التنميق أو ربما بها شيء من التباهي، لكن يعلم كل من تمكن من فتح نافذة صغيرة ليطل منها على شيء من تفاصيل حياة ألن أن تلك هي فلسفته التي تظهر في أعماله، فألن هو من أكثر المخرجين في هوليود غزارة في الإنتاج، وقد بقي وفيا طيلة عقود لجذوره الفنية الأولى وهي الكوميديا، بغض النظر عن تفننه في استعمالها أو تأويلها، لكنه رغم ذلك قال “لم أصنع فيلما جيدا حتى الآن”.

 

وفي أحد الحوارات الصحفية يقول ألن “حين تبدأ بالعمل على إخراج فيلم تكون لك انتظارات كبيرة جدا، وفي بعض الأحيان تكون قريبا من انتظاراتك، ولكن لن تحقق أبدا الشيء الذي تريده بالتحديد، فغالبا ما تبدأ العمل وتتوقع أنك ستنجز فيلما شبيها بـ”المواطن كاين” (Citizen Kane)، و”سارق الدراجات” (Bicycle Thieves)، لكن لا شيء من ذلك يحصل. لا يمكنك صنع فيلم رائع وعظيم، لذلك عند استعدادك وتحضيرك لإخراج فيلم، فإن أقصى ما تتمناه هو أن يكون الحظ حليفك”.

علاقة غريبة.. يكره جمهوره ويُضحكهم في الوقت ذاته

في الواقع كانت فلسفة وودي ألن قريبة من فلسفة الممثل الكبير “أنطوني هوبكينز”، فكلاهما يرى أن السينما إلهاء عن بؤس الحياة، وهي ربما خلق جميل وجديد لبؤس العالم بكل تمثلاته، إلا أن الغريب هو أن ألن كان يلهي نفسه بصنع الأفلام عن أشياء كثيرة منها كره الناس، وهو ما اعترف به في أحد حواراته حين قال “لم أحب الناس أبدا، أعتقد أن بعضهم رائعون، لكن أغلبهم ليسوا كذلك. حين بدأت التمثيل كانت لدي متعة أنهم يكرهونني، وأنني حين أصعد على خشبة المسرح فإنني لن أثير إعجاب الجمهور، لكن المشكلة الأكبر هو خوفي من أنني لن أحب الجمهور، سبّب لي ذلك قلقا، والذي نقلته إلى الجهة المعاكسة هو خوفي من أن الجمهور لن يحبني، وكان ذلك ما يخفف من قلقي من أنني قد أكره الجمهور”.

يعترف ألن أن مشكلته تلك تجاه الآخرين كانت أكثر حدّة حين كان في العشرينات والثلاثينات من عمره، فهو لم يكن حساسا ولم يكن يهتم بالآخرين، حتى إنه وصف نفسه بالأناني وبقليل الإحساس، خاصة تجاه النساء اللاتي واعدهن.

 

هو أمر غريب، فالرجل الذي يكره الآخرين بالغ في إضحاكهم وتسليتهم منذ صغر سنه، لكن هلوساته وهواجسه سكنت خلف تلك الكوميديا التي طبعت أفلامه وأنتجها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.

التلفزيون والمسرح.. حاضنة كوميديا وودي ألن

بدأ وودي ألن باحتراف الكتابة الكوميدية حين كان في الـ15 من عمره، حيث بدأ بكتابة نكت قصيرة، ثم قرر وهو في الـ16 من العمر أن يرسل نماذج من نكته لكتّاب المسرح في “برودواي” إلى أن ظفر بأحدهم وهو “آب بوروز”. كانت تلك هي أول مرة يتقاضى فيها آلن مقابلا ماديا عن النكت التي يكتبها، وفتحت رسائله التي توجه بها لمسرحيين كثيرين الطريق له ليلتحق ببرنامج كتّاب شبكة “إن بي سي” التلفزيونية عام 1955 (أي حين كان في الـ19 من عمره) ليصبح بعدها أحد كاتبي الكوميديا في الشبكة.

ذاع صيت ألن الذي أصبح يتقاضى 25 دولارا مقابل عمله بدوام كامل مع “هورب شراينر”، وأصبح الرجل العبقري الذي عزز نجوم وبرامج الفكاهة في التلفزيون، مثل برنامج “تونايت شو” لمقدم البرامج “إيد سوليفان”، حيث وصل دخله الأسبوعي في أواخر الخمسينيات إلى 1500 دولار بعد عمله مع “سيد كايزار”.

يَدين ألن في فترة الخمسينيات لوجوه كوميدية قدمت له فرصة العمل معها، ومكّنته من تحسين طريقة كتابته الفكاهية، مثل “ميل بروكس” و”كارل راينير” و”لاري غيلبارت” و”نايل سايمون”، لكن الفضل الأكبر كان لـ”داني سايمون”، ولم يصل العام 1962 حتى وصل عدد النصوص الكوميدية التي كتبها ألن إلى نحو 20 ألف نص.

نصف عبقري.. الفكاهي المثقف الخائف دائما

لم يكن من السهل على ألن أن يكتب كل تلك النصوص الساخرة، فقد تطلّب منه الأمر أحيانا العمل مدة 15 ساعة يوميا حتى يُنهي نسخ تلك النصوص. ويتعحب زميله “ديك كافيت” من قدرته العجيبة على الجلوس ساعات طويلة قبل أن يُقدم نسخة من عمله ويقول “كان يستطيع أن يجلس بعد فطور الصباح بجانب آلة طابعة، فيقضي يومه هكذا إلى غاية غروب الشمس، فلا يقطع عمله إلا لجلب كوب من القهوة أو المشي قليلا، ليعود ويقضي بقية المساء في العمل”.

وودي ألن في برنامج “عرض الليلة” من تقديم “جوني كارسون” عام 1964

 

عمل ألن في مجلات كثيرة مثل “ذا نيويوركر” التي كان يكتب لها قصصا قصيرة، وبدأ عالم المسرح والتمثيل بجذبه، وعمل ممثلا كوميديا في أماكن كثيرة في قرية “غرينويتش”.

كتب “جيرالد ناشمان” مؤرخ الكوميديا أن ألن “تمكن من قلب التمثيل الكوميدي إلى تعليق ساخر وصادق على القضايا الثقافية والنفسية”. وأصبح ألن يُلقب بالعبقري في ذلك الوقت، ووصفه “بوب هوب” الذي كتب له ألن نصوصه بـ”نصف عبقري”.

لم يكن ألن يكتفي بكتابة النصوص أو بالوقوف على المسرح ليلقي نكاته على الجمهور الذي لم يكن يتفاعل معه أحيانا، بل طوّر ما يُعرف بـ”المونولوغ” (الحوار الداخلي)، وتمكّن من صُنع “شخصية فكاهية مثقفة يعتريها الخوف دائما”.

“وودي على المسرح”.. كوميدي عبقري وجمهور غبي

يمكن أن يكون مصدر خوف ألن هو الشعور السيئ الذي يعتريه وهو على خشبة المسرح بأن الآخرين يكرهونه وأنه يكرههم بدوره. يقول الممثل “ديك كافيت” إنه شاهد كيف أن الجمهور تجاهل عرض ألن في “بلو أنجل”، ووصفه بأنه “لم يكن هناك ممثل كوميدي شاب في البلاد يضاهيه، ولقد استأت من حقيقة أن الجمهور كان غبيا جدا لدرجة أنه لا يدرك ما قدمه ألن”.

في البداية لم يحظ ألن بالتقدير الكافي، فلم تكن صورته في بداية مشواره على المسرح متوهجة، بل بدا أحيانا أنه غير متمكن من حفظ النكت التي يلقيها، أو القصص الصغيرة التي يرويها، وبدا في بعض عروضه الأولى كمن يبحث عن الكلمات قبل أن يتكلم، لكنه حصّن نفسه من التجاهل حين خلق شخصية “وودي على المسرح”، والتي مكنته من كسب ثقة أصحاب المسارح، ولم تكن تلك الشخصية خارقة أو عجيبة، بل حقيقية وطبيعية.

وودي ألن على خشبة المسرح في أحد العروض الكوميدية

 

في الواقع بدت غرابة ألن ملموسة حين ثبّت شخصيته المضطربة والمرتعشة على المسرح لتصبح علامة خاصة به، فكانت تلك الشخصية التي تسببت بتجاهل الجمهور له عند وقوفه على خشبة المسرح خلال العرض هي جزء من عبقرية ألن. يقول المؤرخ جيرالد ناشمان “ذلك الشيء الطبيعي ودائم القلق فوق المسرح أصبح ميزته الخاصة”.

خلق ألن شخصية نخبوية دائمة القلق والانزعاج على المسرح، وبالتالي خلق نوعا جديدا من “المونولوغ” الكوميدي، فكان تأثيره بالغا على ذلك النوع من الفن.

مريض نفسي.. سُخرية لتفادي الألم

استلهم ألن المضامين الساخرة التي كتبها من وقائع حقيقية، وتكفي جولة صغيرة بين صفحات مذكراته “في ما يخص لا شيء” (Apropos of Nothing) ليكتشف القارئ السواد الذي يخبئه ذلك الحجاب المخملي الناعم الذي يستر به ألن جزءا عميقا من روحه.

يقول ألن في مذكراته متحدثا عن طفولته “لم يكن هناك أي حدث مرعب في حياتي، ولا أي شيء قبيح حصل لي أو منعني من الابتسام دائما، بل كان الشيء الوحيد الذي حصل هو أنني في الخامسة من عمري تقريبا أصبحت واعيا بالموت والفناء، وكان ذلك غير مقبول بالنسبة لي، إذ لم يكن ذلك ما جئت من أجله، ولم أقبل أبدا أن أكون فانيا، وحين كبرت لم يكن الموت فحسب مقلقا بالنسبة لي، بل أصبحت أفكر في عدمية الوجود التي أصبحت أكثر وضوحا”.

زار ألن حين كان يافعا طبيبا نفسيا لمدة 8 سنوات، بعد أن أظهر في المدرسة أفكارا غير مفهومة من قبيل أن هدفه في الحياة هو أن “يغوص في أعماق روحه ليكتشف الوعي غير الموجود لعِرقه، وإمكانية تحويله إلى كتلة متجانسة من البلاستيك”، يقول ألن “فعلت ذلك طيلة 8 سنوات، ونجحت بذكاء في أن أتفادى أي تحسن. نعم لقد ساعدني العلاج، لكنني لم أحقق أي تحسن في المشاكل العميقة مثل المخاوف والصراعات الداخلية والضعف الذي كنت أشعر به حين كان عمري 17 عاما، وفي الثلاثينات من عمري كذلك، والتي ما زالت تلازمني حتى الآن”.

كتاب مذكرات وودي ألن “في ما يخص لا شيء”، والتي يعكس فيها لقرائه ألما عميقا في روحه

 

ويعترف المخرج الأمريكي أنه يتوهم الشفاء، وذلك يساعده بأن لا يتحول إلى مجرد جسم نائم ممدد على سرير، ويقول “في أحلك الأوقات، من المهم أن تقتنع بأنك تفعل شيئا ما، يمكن أن يؤذيك الجميع لكن يمكنك أن تقلب ذلك إلى عمل بطولي. تتذكر كوابيسك وربما تكتبها مثلا. أحب هؤلاء الأشخاص الذين يعتقدون أن أعمالهم التي صنعوها سوف تُخلّد وستكون أكثر عرضة للنقاش، مثلما يفعل الكاثوليك في مسألة ما بعد الحياة، يفعل الفنانون ذلك ويعتقدون أنهم سيكونون خالدين. في الأخير أعتقد أنه على الأقل سوف تناقش ذلك مع مختص وستبحثان معا عن حل لفهم تلك الأحاسيس القبيحة، والتي تسبب لك الحزن والخوف والغضب واليأس والرغبة في الانتحار”.

يمكن أن نفهم كوميديا ألن التي غلّفت أغلب أعماله، فكل تلك السخرية هي فلسفته لتفادي كل ذلك الألم، بل قد يكون الوهم الشافي له من تلك الأوجاع، وهو على كل حال وهم كان له الفضل في أن يقدم أروع الأعمال السينمائية في تاريخ السينما الأمريكية.

“خذ المال واهرب”.. انتكاسة جعلته يخرج كل أفلامه

في إحدى المرات قدم ألن عرضا في أحد النوادي وأضحك الجمهور، غير أن “مايك ميريك” أحد العاملين معه قال له “إنها حياة صعبة، يجب أن تحبها أكثر من أي شيء آخر”. يقول ألن “لكنني لم أفعل ما طلبه مايك، لقد خُلقت لأكون كاتبا وأحببت أن أكون مجهولا”. وبالفعل أصبح ألن أشهر كتاب السيناريوهات وأشهر المخرجين على الإطلاق، لكنه أخرج أفلاما كسرت أمنيته بأن يبقى مجهولا.

 

في العام 1965 أصيب ألن بخيبة أمل بسبب أول فيلم من كتابته وهو “ما الجديد أيها القط الصغير؟” (What’s New Pussycat?)، لكن تلك الخيبة جعلته يتخذ قرارا بإخراج أي فيلم يكتب قصته، وكان له ذلك بالفعل، فقد أخرج أغلب الأفلام التي كتب قصصها بنفسه، غير أن أول فيلم حقيقي بالنسبة لألن كان “خذ المال واهرب” (Take The Money And Run) الذي شارك في كتابته وأخرجه في العام 1969، وهو الفيلم الذي فتح له أبواب أستوديوهات “الفنانون المتحدون” (United Artists) التي أنتجت له أفلاما كثيرة.

“آني هول”.. أربعة جوائز أوسكار لألن المخرج والممثل

ينتمي ألن إلى مخرجي التيار الذي يُسمى “الهوليوديون الجدد”، وهي موجة بدأت في منتصف ستينيات القرن الماضي وامتدت إلى السبعينيات، وانتمى لها مخرجون عظماء مثل “مارتن سكورسوزي” و”سيدني لوميت”، وقطعت تلك الموجة مع أساليب كلاسيكية كانت تميّز سينما هوليود، وغالبا ما يتم إنتاج أفلام المنتمين لذلك التيار خارج الأستوديوهات الكبرى، وفي تلك المرحلة الذهبية القصيرة من عمر تلك الموجة، والتي تعتبر مرحلة  فاصلة في تاريخ السينما الأمريكية، أُنتجت أفلام ذات محتوى نقدي خاصة لكل ما هو اجتماعي، ولم يكن ألن ليحيد عن أساليب ذلك التيار.

وفي 1977 أخرج ألن فيلمه الكوميدي “آني هول” (Annie Hall) الذي أدى فيه ألن دور البطولة، وجسّد شخصية “ألفي سينغر” الذي يحاول اكتشاف أسباب فشل علاقته بحبيبته “آني”، ولم تكن الكوميديا خالية من الفلسفة، فألفي كان دائم الحيرة، ونقل تلك الحيرة لوالدته التي استغربت من أسئلته المستعصية عن الفراغ في الوجود.

 

في أحد مشاهد الفيلم يقف ألفي مع آني في صف الانتظار لدخول فيلم، ليسمعا أحد الأشخاص يسخر من أفلام المخرج الإيطالي “فيديريكو فيليني”، ومن الفيلسوف الكندي “مارشال مكلوهان”، ليتخيل ألفي دخول “مكلوهان” في المشهد ويسخر من الرجل الذي سخر بدوره من أعماله.

في الواقع، بدا الحديث عن “فيديريكو فيليني” في ذلك المشهد مفهوما، فألن يعتبر أن فيلم “8½” العبقري للمخرج فيليني أحد أكبر الأفلام الملهمة بالنسبة له، أما الفيلسوف الكندي “مارشال مكلوهان” فهو صاحب الكتاب الشهير “العروس الميكانيكية.. فولكلور الرجل الصناعي”، وهو صاحب نظرية “التسلية هي الإستراتيجية الصحيحة” وهي مثل بحّار قصة “إدغار آلان بو” الذي ينقذ نفسه من الدوامة من خلال دراستها والاستعانة بها، وتلك هي فلسفة ألن التي تحدث عنها في مذكراته لمواجهة هواجسه ومرضه النفسي.

احتل فيلم “آني هول” المرتبة الـ35 في قائمة أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما الأمريكية، وحاز على 4 جوائز أوسكار منها جائزة أفضل مخرج.

من كوميديا التهريج إلى الرومنسية بطابع كوميدي

في بداية مشواره السينمائي استعمل ألن في أفلامه ما يُسمى بتقنية “الكوميديا التهريجية”، وهو جنس من الفكاهة يعتمد على النشاط البدني المبالغ فيه، وهي تقنية اشتهر بها ممثلون كبار أمثال “تشارلي تشابلن” و”باستر كيتون”، غير أنه في أواخر السبعينيات كان هناك منحى واضح نحو الأفلام الرومنسية، لكنه في المقابل لم يتخل عن طابعه الكوميدي الذي طبع به أفلامه طيلة عقد الستينيات ومنتصف السبعينيات على الأقل.

وفي 1979 أخرج ألن فيلم “منهاتن”، وهو كوميديا رومنسية بالأبيض والأسود تُصوّر العلاقات المعقدة بين الكهل “إسحاق دايفيس” الذي يجسد دوره ألن والمراهقة “ترايسي” التي لم تتجاوز الـ17 من العمر، وقد رُشح فيلم “منهاتن” لجائزة الأوسكار لأفضل دور ثانوي، كما رشح ألن عن دوره في الفيلم لجائزة الأوسكار لأفضل أداء.

بوستر فيلم “منهاتن” الذي يُعتبر كوميديا رومنسية بالأبيض والأسود تُصوّر العلاقات المعقدة بين الكهل “إسحاق دايفيس” المراهقة “ترايسي”

 

وحين طُويت صفحة ما يسمى بموجة “هوليود الجديدة” كان ألن لا يزال يطوي الطريق طيّا ليعلو نجمه أكثر، فلا يدركه أحد سوى زمرة قليلة جدا من المخرجين. تقول عنه “دايان كياتون” الممثلة التي شاركت معه في التمثيل في أفلام كثيرة وجسدت الدور الخرافي لـ”آني هول” في الفيلم الذي يحمل الاسم ذاته في حوار مع شبكة “سي بي إس” الأمريكية في العام 2010 “ألن يمتلك عقلا لا مثيل له، وهو جريء ولديه قوة كبيرة والكثير من الشجاعة إذا تعلق الأمر بالقيام بشيء متفرد، وهو يمتلك خيالا عبقريا”.

أما منتقدو ألن فيقفون بغضب في الجهة المقابلة، خاصة بعد أن أصبحت أفلامه أكثر ميلا للسخرية السوداء، فمنذ حصوله على الأوسكار عن فيلم “آني هول” أصبح المخرج الساخر أكثر ميلا لخنق الدعابة في أفلامه وقول الحقيقة كما هي، وهو ما يغضب الجمهور والنقاد على حد سواء، لكنه على كل حال قمعٌ واع للكوميديا التي اعتاد عليها جمهوره في أفلامه في أواخر الستينيات.

الحرباء.. أعمال فنية وأدبية تأثر بها

منذ بداية الثمانينيات بدأ تأثير المخرج السويدي “إنغمار بيرغمان” الذي يعتبره ألن من أعظم المخرجين في التاريخ، وهو الذي عُرف بأفلامه القائمة على ما يعرف بالاستبطان أو مطالعة النفس ومعرفة الذات من الداخل، وعلى تفكيك قوانين العلاقات ودراستها، وهو تأثر بدا واضحا في أفلام ألن، مثل “آني هول” و”أزواج وزوجات” (Husbands and Wives) (1992).

 

يقول الناقد السينمائي “مايكل ويلمينغتون” في مقال نشره في صحيفة لوس أنجلوس تايمز عام 1989، إنه طيلة مسيرته كاملة كان ألن مثل الحرباء، بل كان مثل “ليونارد زيليغ” بطله الذي خلقه في فيلم “زيليغ” (Zelig) (1983)، أما أفلامه فهي انعكاس وتأثر واضح بأفلام مخرجين آخرين أو حتى بأعمال أدبية، “ففيلم “حب وموت” (Love And Death) (1975) تأثر بكتابات دوستويفسكي وتولستوي والمخرج برغمان، أما فيلم “ذكريات الغبار السماوي” (Stardust Memoris) (1980) ففيه تأثيرواضح بفيلم “8½”، كما أن فيلم “هانا وأخواتها” (Hannah And Her Sisters) (1986) فقد تأثر بفيلم “فاني وألكسندر”( Fanny And Alexander)، غير أن فيلم “جرائم وجنح” (Crimes and Misdemeanors) (1989) هو فيلم وودي ألن الخاص به، والذي يحمل بصمته دون أن يحيل إلى أي من الأعمال الفنية أو الأدبية التي أثرت في المخرج الأمريكي.

“جرائم وجنح”.. فيلم غيّر مسيرة وودي ألن

يعتقد ويلمينغتون أن فيلم “جرائم وجنح” هو أحد مفاصل التغيير في مسيرة ألن، فقد هدم الجدار الذي كان يفصل بين ألن الفنان الجاد والباحث دائما عن الحقيقة، وألن الفنان صاحب الذكاء الفائق الذي يبرع في التفنن في الفكاهة. ومنذ نهاية السبعينيات دخل في دوامة قلق واضح، وهو كيف يوفّق بين انزعاجه مما هو سائد خاصة في علاقته بالجنس وبكل ما هو أخلاقي، وبين تطلعاته الفنية وموهبته في التسلية والكوميديا في الواقع.

 

وجد ألن الحل في بعض أفلامه من خلال إلباس شخصياته حالات مزاجية متعددة، مثلما هو الحال في فيلمي “منهاتن” و”هانا وأخواتها”، أو من خلال بعض الحزن في الكوميديا مثلما هو الحال في فيلم “بنفسجة القاهرة” (The Purple Rose Of Cairo).

ويرى ويلمينغتون أن فيلم “جرائم وجنح” هو كوميديا عن الأزمات الأخلاقية، وهو قصة رومنسية عن الاغتراب، وقصة مأساوية عن الجنس، ولا يمكن للمشاهد إلا أن يستحضر مقولة منسوبة لـ”جورج بيرنارد شاو” وهي “إذا أردت قول الحقيقة للآخرين عليك أن تضحكهم، وإلا فإنهم سيقتلونك”، ويبدو أن ألن قال الحقائق وهو يُضحك الناس حتى لا يموت هو.