سد النهضة.. هل تعطش جِنان مصر إلى الأبد؟

موح أوبيهي

تعتبره إثيوبيا أولوية إنمائية وقومية، وترى فيه مصر أكبر تهديد لأمنها المائي. يُسمّيه المصريون “السد الملعون”، ويصفه الإثيوبيون بـ”سد الألفية الأكبر”. بسببه دشّنت مصر قاعدة عسكرية في إريتريا العدو اللدود لإثيوبيا، ومن أجله تحالفت إثيوبيا مع إسرائيل.

ورغم الغزل الدبلوماسي الدائم بين نظام السيسي والدولة العبرية، فإن إسرائيل اختارت الوقوف مع إثيوبيا لبناء سد النهضة؛ المشروع الضخم الذي أدى إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني منذ الإعلان عنه رسميا في 30 مارس/آذار 2011 بصفقة مالية خيالية جعلت هذا المشروع الأكبر في أفريقيا.

ومؤخرا، أكد موقع قريب من الاستخبارات الإسرائيلية أن تل أبيب نشرت منظومة صواريخ مضادة للطائرات في مناطق قريبة من موقع بناء سد النهضة. ويأتي هذا التطور الجديد -بحسب المصدر نفسه- ردا على صفقة مصرية فرنسية لشراء 24 طائرة رافال،[1] إذ تتخوف إثيوبيا من سيناريو ضربة جوية مصرية مباغتة.

وعلى الرغم من أن مصر تراجعت عن تهديد سابق في 2013 باللجوء إلى الخيار العسكري لحماية حصتها من مياه النيل، فإن الأزمة ما فتئت تزداد تعقيدا. فقد انفلتت القضية من قبضة السياسيين وأضحت حلبة صراع بين شعوب المنطقة. ويرجع السبب إلى السياسات “الشعبوية” التي تبناها السياسيون في إثيوبيا خلال السنوات الماضية، مما أدى إلى ترسيخ ما يشبه “التعنت” في وجدان الشعب الرافض اليوم لأي تفاوض على “حقه” في بناء السد.

النيل.. صراع وجود

تؤكد إثيوبيا أن أشغال بناء سد النهضة -الذي سيُكلف البلد 4.2 مليارات دولار- لن تنتظر نتائج المفاوضات مع مصر والسودان، ففي حين تسعى القاهرة للضغط على الإثيوبيين من أجل وقف الأشغال ريثما تتفق الأطراف الثلاثة على حصة كل بلد من مياه النيل، تعتبر أديس أبابا السد مشروعا وطنيا وتؤكد أنها ماضية قدما في أعمال البناء.

وتتخوف مصر من فقدان 90% من إمدادات المياه العذبة بمجرد تشغيل كل توربينات سد النهضة. وتبلغ حصة مصر من مياه نهر النيل 55.5 مليار متر مكعب سنويا. والنيل هو المصدر الأساسي للمياه في البلاد، أما المصادر الأخرى -مثل الأمطار والمياه الجوفية وتحلية مياه البحر- فلا تساهم إلا بـ10% فقط من حاجيات البلد.

وإذا لم يقع اتفاق على حصة مصر من المياه المتدفقة من النيل فسيعاني البلد من بطالة الملايين من المزارعين ويفقد معظم الإمدادات الغذائية الحيوية، كما ستتأثر مجالات أخرى مثل الصناعة والكهرباء والبنى التحتية.

وحاليا، تقول مصر إنها تعاني في الأصل إجهادا مائيا غير مسبوق، فقد انخفضت حصة المواطن المصري من مياه النيل إلى ما يقارب 600 متر مكعب سنويا بعدما كانت 2500، وهو ما يعني أن البلد موجود في خط الفقر المائي العالمي الذي تحدده الأمم المتحدة في 1000 متر مكعب للفرد الواحد.[2]

وإذا كانت مصر تعاني من شح شديد في المياه من دون وجود سد ضخم قادر على التهام حصتها من الماء، فإنها مقبلة على كارثة اقتصادية وإنسانية عند تشغيل السد من دون التوصل إلى اتفاق لتوزيع حصص المياه.

من جانب آخر، تقف السودان منذ 2012 موقفا مؤيدا للسد الإثيوبي، وهو ما يغضب المصريين، فالخرطوم تلقّت وعودا إثيوبية للحصول على الكهرباء الرخيصة وتنمية إنتاجها الزراعي مباشرة بعد انطلاق المشروع الضخم.

وتدرك السودان أيضا أنها في كل الأحوال ستحصل على نصيبها من المياه، إذ لا تستهلك سوى 15 مليار متر مكعب من هذه المياه سنويا. وتنص اتفاقية عام 1959 على أن نصيب السودان من مياه النيل هو 18 مليار متر مكعب.

 

وتؤكد أديس أبابا أن سدها العظيم سيحقق لها فوائد كبيرة، منها إنتاج ستة آلاف ميغاواط من الكهرباء.[3] وحاليا لا تتعدى نسبة الإثيوبيين الذين يستخدمون الكهرباء أكثر من 30%، بينما تعتمد 90% من الأسر على الوقود التقليدي لأغراض الطهي.

ويبلغ عدد سكان إثيوبيا 102 مليون نسمة معظمهم يسكن الأرياف (أربعة من كل خمسة إثيوبيين يعيشون في القرى). ويضم البلد تشكيلات عرقية كثيرة تصل إلى 90 مجموعة إثنية. ويرى بعض الخبراء أن إثيوبيا تسعى إلى توجيه الأنظار عن الصراعات الداخلية بافتعال تهديد خارجي قادر على توحيد الجبهة الداخلية المشتتة منذ عقود.

وفعلا، فبين عامي 2013 و2017، وصل التحشيد الشعبي في إثيوبيا إلى ذروته، خاصة بعد أن بدأت وسائل الإعلام تدقّ طبول الحرب وتقارن بين القدرات العسكرية لإثيوبيا ونظيرتها المصرية. ولم تهدأ الخطابات العدائية إلا بعد وصول آبي أحمد إلى رئاسة الوزراء في إثيوبيا وقيامه بزيارة إلى القاهرة في صيف العام الماضي شدد فيها على “رؤية مشتركة” تسمح للبلدين بالتنمية “دون المساس بحقوق الطرف الآخر”.[4]

ورغم تأكيد الإعلام الحكومي في مصر على نجاح زيارة آبي أحمد إلى القاهرة، فإن إلغاء اجتماع كان مقررا على مستوى وزراء مياه وخارجية مصر والسودان وإثيوبيا في مارس/آذار الماضي، بثّ شكوكا كثيرة في وجود تفاهمات حقيقية على أرضية صلبة بين البلدان الثلاثة.

من يدق طبول الحرب؟

منذ قرون طويلة كانت مصر تعتمد على مياه نهر النيل، ولم يكن أبدا في الحسبان أن دولة من دول المنبع ستُقيّد الحصة المائية للشعب المصري. وحتى المستعمِر البريطاني أدرك هذه الحقيقة مبكرا، فتفاوض نيابة عن مصر والسودان في معاهدتي 1902 و1929 للإبقاء على وضع مصر كمستفيد أساسي من مياه النيل.

ويُعتبر نهر النيل أطول أنهار الكرة الأرضية، إذ يخترق 11 بلدا أفريقيا ليستفيد منه الملايين من المزارعين الأفارقة، كما أنه المصدر الأساسي للطاقة الكهربائية والثروة السمكية لعدد من بلدان القارة.

وعلى الرغم من أن دول المنبع ترفض الاعتراف بالمعاهدات الموقعة في فترة الاستعمار، فإن مصر متمسكة ببنود هذه الاتفاقيات. ولا يخفي القادة المصريون استعدادهم للذهاب إلى الحرب في حالة تهديد حصتهم من مياه النيل. وقد لخص هذا خطاب للرئيس الأسبق أنور السادات عام 1978 هدد فيه باللجوء إلى الحرب من أجل المياه، قائلا “من الأفضل أن يموت الجنود المصريون في ساحات المعارك في إثيوبيا بدلا من أن يموتوا من العطش في بلادهم”.[5]

وتعترض إثيوبيا على كل الاتفاقيات الموقعة في الحقبة الاستعمارية، إذ تعتبرها “ظالمة في حقها”، خاصة وأنها تنوي استغلال مياه النهر لإنعاش اقتصادها الذي أضحى ينمو بشكل سريع في السنوات الماضية.

ورغم توقيع مصر والسودان (وهما من دول المصب) مجددا في 1959 على اتفاقية تؤكد سريان بنود اتفاقيتي 1902 و1929، فإن أديس أبابا رفضت الانخراط فيما تسميه “هيمنة تاريخية لمصر على نهر النيل”، أو الاعتراف بهذه الاتفاقية.[6]

وليس إعلان قرار بناء سد النهضة في 30 مارس/آذار 2011 أول خطوة تتخذها إثيوبيا في نزاعها مع مصر حول المياه، إذ عبّر الإمبراطور السابق هيلا سيلاسي في خطاب موجه إلى الحكومة المصرية عام 1958، عن “استعداد إثيوبيا لمواصلة تقاسم الثروة الهائلة التي وهبها الله لنا، لكن من واجب إثيوبيا المقدس تطوير مواردها لصالح سكانها واقتصادها الذي ينمو بسرعة”،[7] مضيفا “نعتزم إنشاء مشاريع زراعية ستحتاج إلى سبعة مليارات من مياه النيل”، وهو ما يعني مبدئيا اقتطاع جزء من حصة مصر المائية.

وتعود خطط بناء السد الحالي إلى ما بين 1956 و1964، عندما قام “مكتب الولايات المتحدة للاستصلاح” (USBR) بعملية مسح شاملة للنيل الأزرق من أجل تحديد الموقع النهائي لبناء ما سُمي لاحقا “سد النهضة”.

في هذه الفترة، بدأت مصر برعاية سوفياتية بناء سد أسوان العالي الذي تصل سعة تخزينه إلى 169 مليار متر مكعب. وطبعا، كان موقف إثيوبيا رافضا للمشروع المائي المصري بمبرر “سرقة مياه النيل من أصحابها” و”حرمان” المُزارع الإثيوبي على حساب المزارع المصري.

لكن طيلة فترة الستينيات والسبعينيات وإلى حدود التسعينيات، كانت إثيوبيا أضعف من أن تتحرك ضد مصر القوية خارجيا والمتماسكة داخليا، بينما تعاني أديس أبابا من قلاقل داخلية كثيرة أبرزها على الإطلاق الحرب الأهلية الدامية التي أدّت إلى استقلال إريتريا في عام 1993.

لكن عندما بدأت أركان الدولة المصرية تهتز تحت حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، واستقرت الأوضاع الداخلية نسبيا في إثيوبيا، قررت الأخيرة الإعلان عن نيتها بناء سد ضخم بدأ التخطيط الفعلي له منذ 2006.

في 30 مارس/آذار 2011، أعلنت إثيوبيا رسميا بناء “سد النهضة”. في البداية ومن أجل الحفاظ على سرّية المشروع، أطلقت عليه الدائرة الضيقة للرئيس السابق ملس زيناوي “مشروع X”. وكَلّفت حكومة زيناوي آنذاك شركة تابعة للجيش بتصميمه بعيدا عن أعين الاستخبارات الأجنبية.

وعندما تولى الرئيس محمد مرسي الحكم في مصر بعد ثورة شعبية أسقطت حسني مبارك، وجّه رسالة واضحة إلى إثيوبيا في خطاب متلفز قائلا “هذا النخيل الذي يُروى بماء النيل، إن نَقُصت مياهه قطرة واحدة  فدماؤنا هي البديل”[8].

وفي 2013 أكد مسؤولون مصريون في التلفزيون الحكومي، إمكانية اللجوء إلى “تخريب” سد النهضة بدعم المتمردين المعارضين للحكومة في أديس أبابا.

وردّت إثيوبيا باستدعاء السفير المصري، وقال المتحدث باسم رئيس الوزراء الإثيوبي آنذاك إن الزعماء المصريين “حاولوا زعزعة استقرار إثيوبيا في مناسبات سابقة”، وأضاف أن “سد النهضة موجود وسيبقى هنا. ننصح جميع الفاعلين في المؤسسة السياسية في مصر بتقبّل هذا الأمر”.

ومن أجل جعل “سد النهضة” قضية وطنية في وجدان الشعب، قامت الحكومة في أديس أبابا بإصدار سندات للمساهمة في تمويل وبناء السد، واستثمر ملايينُ الإثيوبيين أموالهم -ومشاعرهم أيضا- فيما أضحى يعتبر لديهم “مفخرة وطنية” تتعرض للتهديد الخارجي.

مصر وإثيوبيا.. أحقاد تاريخية

منذ رحيل الزعيم المصري جمال عبد الناصر، فقدت مصر الكثير من رصيدها الرمزي والتاريخي في القارة الأفريقية. فقد ساعد عبد الناصر الدول الأفريقية المستضعفة في كفاحها ضد الاستعمار، وبنى شبكة علاقات هائلة ووثيقة مع نظرائه في جميع أنحاء القارة، مما أكسب مصر تعاطفا أفريقيا بدأت تفقده شيئا فشيئا بعد تولي أنور السادات الحكم.

اتجه السادات إلى التحالف مع الأقوياء (إسرائيل وأمريكا)، وأدار الظهر للدور الدبلوماسي المصري في العالم الثالث، فأصبح البلد طرفا في الكثير من النزاعات الهامشية. فقد دعم الصومال على حساب إثيوبيا في حرب أوغادين (1977-1978)، وهدد الإثيوبيين مرارا بالحرب.

وبعد أن تولّى حسني مبارك السلطة عقب اغتيال السادات في أكتوبر/تشرين الأول 1981، تراجع النفوذ المصري في أفريقيا بشكل لم يعد محل جدال، فقد دعمت القاهرة مجددا حرب انفصال إريتريا عن إثيوبيا، وفي 1995 قطعت علاقاتها مع إثيوبيا بشكل كامل بعد ما سُمي “محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا” بتحريض إثيوبي، وفي الأخير أدت كل هذه الأحداث إلى جفاء دبلوماسي بلغ ذروته في السنوات الأخيرة من حكم مبارك.

ربيع إثيوبي.. آبي أحمد

في 2012، توفي الرئيس ملس زيناوي الذي حكم إثيوبيا بقبضة من حديد طيلة عقدين من الزمان، ودخلت البلاد في دوامة من الاضطرابات السياسية أسفرت عن استقالة خلفه الرئيس هايلي مريام ديسالين في 2018، بعد ضغط شعبي طالب بالديمقراطية وإقرار حقوق الإنسان في البلد.

كانت اللحظة شبيهة بالربيع العربي، إذ حملت رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد إلى السلطة كأول رئيس ينتمي إلى عرقية أورومو، وسليل أب مسلم وأمّ مسيحية.

لم يسع آبي أحمد إلى استغلال قضية سد النهضة لتأجيج مشاعر الإثيوبيين ضد مصر كما فعل سياسيون قبله، لكنه أيضا لم يستجب للمطالب المصرية بوقف العمل في السد ريثما تتفق البلدان الثلاثة على خطة لتوزيع مياه النيل.

ويواجه الرجل ضغوطا داخلية كبيرة، فالمؤسسة الأمنية غير راضية على سياساته، والحرس القديم المتّهم بالفساد يحاول إسقاطه، كما يواجه تحديات أخرى منها ارتفاع معدلات البطالة، وتصاعد العنف الإثني بين الأقليات المختلفة، ومطالبة بعض الأقاليم بالحكم الذاتي. ويأتي كل هذا قبل عام واحد من الانتخابات الرئاسية لعام 2020.

ولعل كل هذه التحديات هي التي دفعته إلى زيارة سد النهضة بإقليم “بنيشنقول قماز” قبل زيارته التاريخية إلى القاهرة، في إشارة إلى أنه مهتم أيضا بتطوير السد رغم الضغوط المصرية. وكان أيضا وراء حملة أمنية لاعتقال مسؤولين في الشركة المكلفة ببناء السد بسبب “فشلها المتكرر” في الوفاء بتعهداتها للشعب الإثيوبي وتورط بعضهم في “عمليات فساد”.

وفي الوقت الحالي، تؤكد إثيوبيا اكتمال نحو 67% من أعمال بناء السد، وتعوّل على إنتاج حوالي 750 ميغاواتاً من الطاقة سنويا بحلول العام 2020، ليصل الإنتاج إلى طاقته القصوى عام 2022.

لكن ورغم الاستعانة بشركات صينية من أجل تسريع أشغال البناء للوفاء بالتعهدات للشعب، فإن البعض يبدو أقل تفاؤلا من بعض المسؤولين في أديس أبابا الذين كانوا قد أعلنوا في البداية أن السد سيكون جاهزا بشكل كليّ في 2017.

وتعود أسباب تأخر الأشغال إلى حوادث منها مثلا الوفاة الغامضة لمدير مشروع سد النهضة المهندس سمنغاو بقلي الذي وُجد مقتولا في سيارته بأحد ميادين العاصمة أديس أبابا العام الماضي، ويعتبر بقلي شخصية بارزة ومحبوبة في إثيوبيا إذ أشرف على بناء 12 سدا في إثيوبيا، وأدار مشروع “سد النهضة” منذ مطلع أبريل/نيسان 2011.

اتفاقية مبادئ مُلبِسة

ورغم كل هذه الإحباطات، فإن المؤشرات تؤكد أن الوقت داهمٌ ولم يعد في صالح المصريين، وهو ربما ما فهمه البعض في القاهرة مؤخرا فحاول تسليم إثيوبيا الرؤية المصرية بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة.[9]

وتحاول القاهرة جرّ إثيوبيا والخرطوم إلى وضع ثوابت دائمة وواضحة على أساس اتفاقية المبادئ الموقعة في مارس/آذار 2015 بين قيادات البلدان الثلاثة، والتي تؤكد حق جميع الأطراف في التنمية دون الإضرار بأحد، لكن بنود هذا الاتفاق ملتبسة ومعرضة للكثير من التأويلات.

فالجانب المصري يتمسك بكل حقوقه التاريخية في مياه النيل وفق الاتفاقيتين المُبرمتين عامي 1906 و1929، لكن إثيوبيا شيدت سد النهضة من أجل كسر هذه الاتفاقيات في الأصل لما تعتبره “ظلما تاريخيا” لم يعد مقبولا. كما أن اتفاق إعلان المبادئ في 2015 يعتبره كثيرون إلغاء للاتفاقيات السابقة التي كانت تمنع دول حوض النيل من إقامة أي سدود على النيل إلا بموافقة مصر والسودان.

أما السودان فتقف في الوسط، تتعرض لضغوط من القاهرة، لكن لا تستطيع مقاومة إغراءات العرض الإثيوبي، فظلت صامتة منذ أزيد من عام، بل لقد عرض البشير على الإثيوبيين الاستفادة من حصة السودان لملء خزان السد لتفادي الخلافات مع مصر، وهو ما أغضب القاهرة.

لكن هناك قراءة أخرى متفائلة لاتفاقية المبادئ لعام 2015، إذ يرى خبراء أن مجرد قبول الدول الثلاث تقاسم مياه النيل على أساس “المنفعة المتبادلة” مسألة في غاية الأهمية:

فأولا، لقد تخلت مصر عن معارضتها الشديدة لأي مشروع مائي إثيوبي يلتهم حصتها من مياه النيل، وتخلت عن دعوات سابقة إلى وقف سريع لأشغال البناء في سد النهضة. وهو ما أثار الجدل من قبل مختصين وحمّل من وقع على هذا الاتفاق (وهو الرئيس عبد الفتاح السيسي) المسؤولية عن المضي في بناء سد النهضة.

وثانيا، أضحى موقف السودان أكثر مرونة بشأن توزيع المياه.

وثالثا، بتفاوضِها مع السودان ومصر، قدمت إثيوبيا تنازلا كبيرا، إذ لم يعد همّها الوحيد الآن هو بناء السد بسرعة، وإنما أيضا أخذ القلق المصري والسوداني بعين الاعتبار.[10]

معضلة السد ومستقبل مصر

وإذا كان هذا الاتفاق الذي مرّ عليه حوالي خمس سنوات مصدر تفاؤل لدى البعض، فإن التطورات السياسية والأمنية في المنطقة في الأشهر الأخيرة لا تُنبئ بأن الأزمة قابلة لحل سهل يرضي جميع الأطراف. فالسودان تعيش على وقع اضطرابات سياسية كبيرة منذ سقوط عمر البشير في أبريل/نيسان الماضي. بينما تظهر القيادة العسكرية الجديدة التي تحكم البلاد (بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان) أقرب إلى التحالف الثلاثي المصري الإماراتي السعودي، وهذه التقارب قد يلقي بظلاله على الموقف السوداني حيال أزمة سد النهضة، إذ من المتوقع أن تميل الخرطوم أكثر إلى القاهرة في تحالف جديد ضد إثيوبيا.

ومن جانب آخر، ترفض مصر ما تسميه “غياب التعاون” من الجانب الإثيوبي لإجراء دراسات مستقلة عن تأثير السد على حصتها المائية، معتبرة أن أديس أبابا تلعب على ورقة المحادثات مع استمرارها في البناء من أجل تضييع الوقت.

وفي الوقت نفسه طوّرت مصر علاقاتها مع كثير من دول حوض النيل، وحاول النظام الشمولي في مصر حماية أنظمة شبيهة في بوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية في مجلس الأمن الدولي ضد عقوبات أممية، كما يدعم باستمرار رئيس جنوب السودان سلفاكير، وأيّد بحماسة كبيرة رغبة جنوب السودان الانضمام إلى الجامعة العربية، وهي خطوة تلقى معارضة شديدة من الخرطوم.

 

ويتهم الجانب الإثيوبي القاهرة بدعم جارتها إريتريا من أجل “نسف السلام” في إثيوبيا، ويؤكد المسؤولون في أديس أبابا أن مصر تقدم دعما ماليا وتدريبا للقيادات المعارضة المسلحة (متمردي أورومو) من أجل استهداف الأمن القومي لإثيوبيا، كما أنها أرسلت في يناير/كانون الثاني 2018 قوات إلى أسمرا فيما يشبه استعراض القوة، واتهمت أيضا مصر بمحاولة تطويقها عن طريق بناء علاقات مع دول مجاورة.

وإذا صحت التقارير الأخيرة بأن أديس أبابا استعانت بالجيش الإسرائيلي لحماية سد النهضة بمنظومة صواريخ مضادة للطائرات، فهذا سيؤكد مجددا أنها لا تستبعد وجود نوايا لدى السياسيين في القاهرة لقصف سد النهضة في حال عدم التوصل إلى اتفاق.

ويحذر خبراء الأطراف الثلاثة بأن التصعيد العسكري لن يكون حلا لمشكلة ستبقى مستمرة ما لم يتم التوصل إلى اتفاق دائم بشأن مياه نهر النيل. ويرى آخرون أن بناء الثقة بين الدول الثلاث يقتضي تعيين طرف ثالث (محايد) للمساعدة في صياغة مقترحات إزاء معدل ملء سد النهضة مع مراعاة الحصص المائية لمصر والسودان. غير أن هذه المهمة لم تعد يسيرة في الوقت الحالي، فالحكومة الإثيوبية لا تريد خذلان شعب معبأ وينتظر على أحرّ من الجمر بدء توليد الطاقة في السد بحلول نهاية عام 2020.

وبينما يظهر رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أكثر ميلاَ لإيجاد صيغة توافقية مع مصر والسودان تضمن حصتيهما من مياه النيل، يجد معارضة داخلية قوية تعتبر التفاوض “مساسا” بسيادة البلد. ولا يستبعد محللون أن يتبنى آبي أحمد -الذي يُوصف بالسياسي البارع في إطفاء الخلافات- سياسات تُساير مشاعر الشعب من أجل الفوز بولاية ثانية.

المصادر:

[1] https://www.debka.com/friction-with-cairo-over-the-israel-air-defense-system-for-ethiopias-great-nile-dam/
[2] https://www.ohchr.org/Documents/Publications/FactSheet35ar.pdf
[3] https://www.salini-impregilo.com/en/projects/in-progress/dams-hydroelectric-plants-hydraulic-works/grand-ethiopian-renaissance-dam-project.html
[4] https://www.aljazeera.net/news/politics/2019/4/3/%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D8%B9%D9%88%D8%A7%D9%85-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B3%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%B6%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AE%D8%A7%D9%88%D9%81-%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D8%AA%D8%AA%D8%B2%D8%A7%D9%8A%D8%AF
[5] https://midan.aljazeera.net/reality/politics/2018/5/23/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B7%D8%B4-%D9%87%D9%83%D8%B0%D8%A7-%D8%AA%D8%B3%D8%A8%D8%A8%D8%AA-%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D8%A8%D8%AE%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%AD%D8%B5%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%8A%D9%84
[6] https://worldview.stratfor.com/article/egypts-options-counter-ethiopias-grand-dam-run-dry
[7] https://www.chathamhouse.org/sites/default/files/public/Research/Africa/051012summary.pdf
[8] https://www.youtube.com/watch?v=m3yWvOF1vVQ
[9] https://www.alaraby.co.uk/amp//politics/2019/8/2/%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D8%AA%D8%B3%D9%84%D9%85-%D8%A5%D8%AB%D9%8A%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A7-%D8%B1%D8%A4%D9%8A%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%84%D8%A1-%D9%88%D8%AA%D8%B4%D8%BA%D9%8A%D9%84-%D8%B3%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%B6%D8%A9
[10] https://www.crisisgroup.org/africa/horn-africa/ethiopia/271-bridging-gap-nile-waters-dispute