نساء في قبضة العقيد.. معاناة الليبيات في سجون القذافي

خاص-الوثائقية

أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما عن مأساة نساء اعتقلن أيام حكم معمر القذافي في ليبيا، ثائرات كن في أول الشباب، معظمهن طالبات جامعيات، طامحات للتغيير، معارضات لنظام مستبد.

الاسم: جميلة محمد الفلاّق.
العمر: 19 عاما.
الحالة الاجتماعية: عزباء.
التهمة: خيانة ثورة الفاتح.
المكان: مدينة بنغازي.
تاريخ الاعتقال: مايو/أيار 1982.

كان عقد السبعينيات دمويا وخطيرا ومضطربا في عهد الزعيم معمر القذافي، وفي الثمانينيات ازدادت شراسة النظام، أما في التسعينيات فتحولت البلاد إلى ثكنة من جحيم، وفي كل مرة ذاقت المرأة صنوفا من التعذيب والتنكيل.

معاناة الطالبات والناشطات الليبيات في هذه العقود يرويها فيلم أنتجته الجزيرة الوثائقية بعنوان “نساء في قبضة العقيد”.

 

يبدأ الفيلم من لحظة كان الليبيون يحسبونها محطة تاريخية في حياتهم، إنها صبيحة الأول من سبتمبر/أيلول 1969 عندما أطاح ضباط صغار بنظام الملك إدريس السنوسي. ويبدو في المشهد ضابط نحيل يبتسم ويلوح للجماهير، وكان يومها برتبة ملازم، إنه معمر القذافي الذي وصف لاحقا بالعقيد والزعيم.

لقد وعد الناس بفجر جديد من الحرية يحق لهم فيه اختيار من يحكمهم، لكن هذه العقود تبخرت بعد سنوات وتجلى أن ثورة الفاتح ليست سوى قصة طغيان يكتبها ضابط مستبد بالسياط وقضبان الحديد، وتُقرأ فصولها يوميا في الزنازين وأقبية الاستخبارات.

في عام 1976 اندلع حراك طلابي في جامعة بنغازي، وفي مقطع فيديو قديم يظهر الطلبة من الجنسين يهتفون بالحرية ويطالبون القذافي بالاستقالة على الفور.

وفي 6 أبريل/نيسان من العام ذاته وصل إلى الجامعة الرجل الثاني في نظام القذافي “عبد السلام جلود” وأطلق الرصاص وهدد الطلاب وتوعدهم.

وفي حديثه بالوثائقي يقول المؤرخ محمد العنزي: كان هناك حراك في جامعة بنغازي، وكان الطلبة على درجة من الوعي ويدركون أن النظام لن يُصلح البلاد ولن يأتي بشيء في صالح هذا الوطن.

 

جنود في الجامعة

لم يتحمل القذافي هذا الوعي الشبابي فاقتحم جنوده الجامعة في السابع من أبريل/نيسان 1976 وأطلقوا الرصاص على الطلاب ووقعت صدامات عنيفة.

يروي الشاهد محيي الدين الكريشي: سالت دماء كثيرة وصمد الطلاب في المعركة، المستوصف غص بالجرحى من الطرفين، وكانت الممرات داخل المستوصف مخضبة بالدماء.

كان للمرأة دور بارز في هذا الحراك الطلابي، ويومها كانت فاطمة التايب في عامها التاسع عشر فاعتقُلت بتهمة خيانة ثورة الفاتح وأودعت السجن.

قُدمت فاطمة للمحاكمة مع 25 طالبا وطالبة أمام إحدى اللجان الثورية التابعة لنظام القذافي داخل الجامعة، ولاحقا تطورت الأمور وتحولت المحاكمة إلى مواجهة.

تروي في الوثائقي أن “الجنود كانوا يحملون العصي والقضبان الحديدية.. الطالبات هربن ولجأن لكلية العلوم.. تم الاعتداء على الطلبة واستشهد بعضهم”.

وفي الوثائقي صورة لعنوان عريض يتصدر صحيفة الأهرام المصرية “مقتل وإصابة 660 في اضطرابات ليبيا.. اعتقال رئيس جامعة طرابلس وعدد كبير من ضباط الجيش”.

وفي التاسع من أبريل/نيسان 1976 أطل القذافي من التلفاز ليقول بكل بساطة: هناك أناس قضوا في السجن.. إما انتهوا أثناء التحقيق أو لمرض أو لتجاوز التحقيق أو تم الحكم عليهم وصدر الحكم بالتصفية الجسدية.

قضت فاطمة فترة في المعتقل وفُصلت من الدراسة وحُرمت هي وزميلاتها من السفر ومن حقوقهن المدنية. لم يكن الفصل من الدراسة نهاية قصة فاطمة، إنما انتظرها السجن في حقبة أخرى أكثر قهرا وظلما وظلاما.

جميلة محمد الفلاّق المُعتقلة في السجون الليبية وهي طالبة في المرحلة الجامعية

 

سجن كبير

عندما أُسدل الستار على عقد السبعينيات بدأ النظام يبسط نفوذه شيئا فشيئا. يقول المؤرخ العنزي “في حقبة الثمانينيات كانت ليبيا عبارة عن سجن كبير، ووصل القذافي لذروة الطغيان، فحرّم العمل التجاري ومنع الناس من السفر وصادر الممتلكات والبيوت؛ فحصل الاحتقان”.

وفي عام 1982 صدر قرار بنقل كلية الاقتصاد من بنغازي إلى طبرق، فرد الطلبة بالاعتصام، وكانت الشابات في طليعة الحراك.

إحداهن تُدعى جميلة محمد الفلاق، وتسرد قصتها في الوثائقي: اعتُقلنا في الجامعة، كنا طالبات في الاقتصاد وكتبنا على أحد المدرجات عبارات مناهضة للقذافي ونظامه.

قام باعتقال الشابات عضو باللجان الثورية يدعى ماهر الجبالي. تقول الفلاق: صفعني صفعة قوية، واعتقدت حينها أن الأمر انتهى عند هذا الحد.

لكن الأمر لم ينته أبدا، لقد وُجهت لها تهمة خيانة ثورة الفاتح وأحيلت إلى السجن مع طالبات أخريات قرر القذافي تحويل حياتهن إلى محنة لا تنقطع.

تتابع: لقد خضعنا للتحقيق المستمر مع الضرب يوميا، وتناوب على ضربي حسن أشكال وأحمد مصباح الورفلي وعبد الله السنوسي.

ملف السجينة فاطمة التايب المعتقلة في السجون الليبية بتهمة خيانة ثورة الفاتح

 

وشاية من سويسرا

وفي هذه الحقبة تأسست الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا بقيادة محمد المقريف وأحمد حواص، وكانت عيون القذافي في الداخل والخارج تترصد كل من له صلة قرابة بأي من المعارضين.

ولم تكن “إحسان بن علي” تعتقد أن مخابرات القذافي يمكن أن توقع بها وهي في مصحة بسويسرا. لقد تحدثت بأريحية لمن كانت تحسبها مريضة من بني وطنها، ولكنها في الحقيقة ليست سوى ضابطة تابعة للقذافي.

حدثتها عن أفراد من عائلتها ينشطون في المعارضة، وبعد عودتها لليبيا تفاجأت ذات يوم بأوجه غريبة أمام البيت “وأخذوني في سيارتي ونقلوني إلى مبنى الأمن الداخلي وبدأ التحقيق، وتعرضت للركل والضرب”.

نُقلت إحسان في طائرة إلى طرابلس وانهارت من شدة التعذيب والصعق الكهربائي، وبينما تُغالب الدمع تقول إنهم هددوها بتصوير جسدها عارية وإرسال صورها للمعارضة، وردت عليهم بأن ذلك لن يحصل ولو كلفها الرفض تقطيع جسدها.

وظهر بيان على التلفاز الليبي يقول: التصفية الجسدية لكل من تثبت خيانته وتعامله مع أعداء الشعب من أمثال حواص وناكر الجميل “المقريف” والمهرج “الناكوع” والتافه “الصهب”.

فاطمة التايب اعتُقلت في عامها التاسع عشر في سجون القذافي بتهمة خيانة ثورة الفاتح

 

فاطمة.. إلى الزنزانة

وفي هذه الحقبة أيضا تَذكّر السجّان فاطمة التايب، وبينما كانت تزاول عملها من داخل مكتبها في الثامن من أبريل/نيسان 1984 فوجئت بمديرها الأجنبي يخاطبها: يطلبونك أنت وأختك في المخابرات.

اقتادوها من مكتبها ومرّوا بالكلية لأخذ أختها زكية ونقلوهما للأمن، وضعوا الأغلال في يدي فاطمة وألبسوها الكيس الأسود الذي يعني أن الشخص في طريقه للإعدام.

اعتُقلت الأختان بعد إعدام المعارض أحمد حواص، حيث قالت السلطات إنها عثرت بحوزته على وثائق تكشف أشخاصا كانوا يتعاونون معه في داخل ليبيا، وتعهدت بمحاسبتهم فردا فردا.

تقول زكية: أدخلوا عليّ كلبا ضخما وصار يلهث بالقرب من وجهي، وكانت كل سنة أسوأ من سابقتها. وتروي أنهن وقّعن على نماذج لأحكام قضائية وهن لا يعلمن شيئا عن طبيعتها، ولاحقا تبين أنها أحكام بالإعدام مع وقف التنفيذ.

عام 1976 اندلع حراك طلابي في جامعة بنغازي في ليبيا يهتف “أين الحرية؟”

 

معركة باب العزيزية

وفي العاد ذاته حصلت محاولة انقلاب على القذافي تُعرف بمعركة باب العزيزية، أفضت لمواجهة مسلحة سالت فيها دماء كثيرة.

وفي هذه المرة أيضا دفعت المرأة الليبية الثمن، وفُتّحت أبواب السجون أمام أخوات وزوجات المعارضين، وجلدهن زبانية القذافي بالعصي وصعقوهن بالكهرباء.

إحداهن آمنة الجرنازي، إذ كان أخوها خميس ضمن المشاركين في المحاولة الانقلابية واستضافته في بيتها لشهرين، ورتبت له هي وزوجها رحلة هرب إلى مالطا.

تقول آمنة الجرنازي: خميس أصر على أن يذهب إلى درنة حتى يُبلغ أهله ويودعهم قبل ذهابه إلى مالطا، وحينها أبلغ عنّا زوج أخته.

فوجئت الجرنازي بدبابات وعربات عسكرية وجنود مدججين بالسلاح أمام بيتها، واعتُقلت هي وأمها. وقد استضيفت في زنزانة مساحتها ثلاثة أمتار في مترين، وتضم في ذات الوقت عشرة أشخاص.

المسؤولون عن تعذيب النساء في سجون القذافي حسن أشكال وأحمد مصباح الورفلي وعبد الله السنوسي

 

إلى الجحيم

في بداية التسعينيات تشكلت معارضة جديدة في ليبيا، ولكنها كانت بعباءة إسلامية. وفي هذه المرة أيضا وقعت نسوة في قبضة القذافي ودفعن ثمنا باهظا، إحداهن “نورة الواطي” التي تروي في الوثائقي: في تلك الفترة جاء زوجي وقال إنه ينبغي أن نغادر البيت لأن الوضعية الأمنية متدهورة، وغادرنا إلى المنطقة الشرقية.

ولكن لا مفر من عيون وأعوان العقيد، لقد اعتُقلت نورة في 18 يونيو/حزيران 1995. ورغم مبدأ شخصية العقوبة والجريمة (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فإن التهمة المثبتة في المحضر هي انتماء زوجها للجماعة الإسلامية.

كما اعتقلت “سلمى الشهيبي” بذات التهمة، ويتحدث والدها عن محنتها قائلا: قضت سنة ونصف السنة في السجن دون أن نعرف عنها أي معلومة، ذهبتُ إلى طرابلس وزرت السجون بحثا عن مكان وجودها ولكن محاولاتي كلها باءت بالفشل.

ومنهن “سالمة مصطفى بن موسى” التي توفيت في المعتقل بعد سجنها عام 1996 بتهمة انتماء زوجها للحركة الإسلامية المناوئة لثورة الفاتح.

وعند هذه النقطة يعود مخرج الفيلم لأرشيف التلفزيون الليبي فيظهر القذافي وهو يقول بهدوء: كل واحد يُتهم وتثبت عليه الزندقة يُسحق فورا.

وهناك قواسم مشتركة بين نساء الحقب الثلاث، إذ إن معظمهن من بنغازي، وتهمهن خيانة ثورة الفاتح، ووجهتهن بعد الاعتقال كانت طرابلس، وفي الطريق إليها يخضعن للتعذيب والترهيب والتهديد بالقتل.

وفي حديثه بالوثائقي يقول الناشط الحقوقي سمير الشرني: تم القبض عليهن وسجنهن خارج إطار القانون.. وفي الحقيقة لم تجر محاكمات لأنه لا يوجد قانون لهذه المحاكمات.

وتلاحظ المحامية فائزة مفتاح بومطني أن أغلب النسوة قضين فترة العقوبة في السجن دون التقديم للمحاكمة، مجرد تحقيقات من قبل رجال الأمن الداخلي. “هناك من قضين سنتين وست سنوات وعشر سنوات وحتى ثلاثين سنة دون أن تصدر أحاكم بحقهن”.

نورية الواطي معتقلة سابقة في سجون القذافي تروي التعذيب الذي تعرضت له في السجن

 

آلام خارج السجن

ولكن الخروج من سجون القذافي لا يعني استعادة الحرية، فإحسان عادت محملة بأعباء نفسية وواجهت مشاكل عائلية، تقول: بدأت مأساتي، تكررت المشاكل وانتهى الأمر بالطلاق.

أما فاطمة التايب فتأثرت لأن ابنتها الصغيرة نسيتها بعد أربع سنوات من الغياب، فقد كان عمرها عاما ونصف عندما اعتُقلت، وعندما خرجت من السجن كانت ابنتها في المدرسة.

تتحدث ابنتها دارين بوخروبة في الوثائقي قائلة إنها أصيبت بصدمة نفسية “عندما قَدِمتْ شخصية لا أعرفها، وبدأت تتولى واجب التربية والتعليم واستغرق الأمر فترة طويلة حتى استوعبت أنها والدتي”.

آمنة هي الأخرى روت كيف تعامل معها أبناؤها بحذر، وكيف كانوا يشعرون بأن خالتهم أقرب إليهم منها. ولا تزال تذكر كل لحظات وتفاصيل الحياة في السجن، والآن تنظر لنفسها بعين الزهو لأنها عاشت تلك المأساة وصمدت وتحدت الجلادين.

تقول جميلة: بدأنا محنة نفسية في مجتمع لا يعترف أصلا بالمشاكل النفسية، وكان علينا أن نعالج أنفسنا.

أما زكية فكرهت الجامعة وتملكتها فوبيا من العسكر، ومع مرور كل يوم 8 مايو/أيار يخيل إليها أن الجنود سيقتحمون الباب للقبض عليها.

وتروي نورة: كنت قريبة من ربي في كل شيء، ولكنْ هناك أثر نفسي دائم وما زال هناك خوف ورهبة من الصوت.

في الثمانينيات كانت ليبيا عبارة عن سجن كبير، ووصل القذافي لذروة الطغيان، حيث أعدم وقتل الكثير من الليبين

 

أمنيات السجينات

الآن وبعد زوال نظام القذافي، ما هو المصير الذي تتمناه السجينات للرجال الذين عذبوهن ودمروا حياتهن ومستقبلهن؟

تطالب فاطمة بالقصاص من الذين دمروا الشباب ونهبوا البلاد وقتلوا وبغوا، وتضرب مثلا بعبد الله السنوسي “الذي قَتل أو أمر بقتل 1200 سجين”.

وتقول جميلة: لم ولن أسامح الجلادين، ولكني لا أستطيع أن أعاملهم بنفس الوحشية التي عاملوني بها، ونحن نريد لليبيا أن تكون دولة مدنية ويجب أن نقتص من هؤلاء بالقانون.

وتبدو زكية وقد رضيت بما صنعه القدر بالجلادين قائلة إن الله أخذ لها حقها “عندما مات الجلاد عبد السلام الزادمة بطريقة بشعة، ومات خير خالد بطريقة أبشع، وثوار 17 فبراير/شباط أخذوا لي حقي وزيادة”، وتشير بذلك إلى محاصرة الثوار للقذافي في سرت والإمساك به مختبئا في أنبوب للصرف الصحي وقتله في العشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2011.

وبينما تخاطب نورة الجلادين قائلة “عند الله تجتمع الخصوم والدنيا قصيرة مهما طالت”، تتمنى إحسان محاسبتهم أمام القضاء وتُذكرهم في الوقت ذاته بأن “الله هو العادل”.

وفي الفيلم ظهرت الطبيبة النفسية الليبية سهام سرقيوه وقد تم اختطافها في بنغازي على يد أفراد تابعين للواء المتقاعد خليفة حفتر رغم تمتعها بالحصانة البرلمانية. فهل يعيد التاريخ نفسه؟


إعلان