“الألتراس” العربي.. فرسان الملاعب وصوت الشعوب المقهورة

عليك القلب حزين
ومن سنين
تدمع العين
الحبيبة يا فلسطين
يعتقد من يقرأ هذه الكلمات أنها قيلت في مهرجان تضامني مع القضية الفلسطينية أو يرددها فنانون يناصرون الفلسطينيين، لكن الحقيقة أن المقطع هو مطلع أغنية رددتها جماهير الكرة للتعبير عن حب القضية ودعما لها من قلب الملعب، وفي مشهد هز الضمائر وأشعل مواقع التواصل الاجتماعي ردد عشرات الآلاف من جماهير فريق الرجاء البيضاوي المغربي أغنية من تأليف أنصار الفريق بعنوان “يا الحبيبة يا فلسطين” وذلك في المباراة التي جمعت النادي المغربي بنادي هلال القدس، وأرفقوا الغناء بصورة ضخمة لشخصية حنظلة أيقونة القضية الفلسطينية.
سياق ذلك المشهد واتساع انتشاره على امتداد أيام وأسابيع يجعل منه حدثا غير عادي، فهو يتزامن أولا مع هرولة غير مسبوقة لبعض الأنظمة العربية للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، ومن جهة ثانية يعبر عن حالة من الوعي المتزايد في صفوف مجموعات التشجيع الكروي المعروفة بالألتراس التي تعيش منذ اندلاع الربيع العربي حالة من الانخراط والالتزام بقضايا المجتمع، بعد أن كانت هذه المجموعات تتورط في بعض الأحيان في العنف وتتم شيطنتها في أحيان أخرى من طرف الأجهزة الأمنية لتبرير قمع هذه الحركات الشبابية الرياضية التي حولت الملاعب إلى منصة للتعبير عن آلام الشارع العربي، وكان لها دور تنظيمي كبير في الثورة المصرية، ولمستها واضحة أيضا في حراك الجزائر.
أما في المغرب فتتنافس مجموعات الألتراس في إنتاج أغان تحاكي الواقع الذي يعيشه المواطن المغربي وتصف آلامه وأحلامه وتتحدث عن مشاكله اليومية بشكل عاطفي ومثير لدرجة أن هذه الأغاني تجاوزت حدود الملاعب وأصبحت دارجة في ألسن الكبار قبل الصغار.
ويعيش “الألتراس” في العالم فترة انتقالية من كونها تعبر عن روج التشجيع الكروي إلى صوت الشارع، وهو ما بات يكسبها تعاطفا وشعبية لدى الرأي العام العربي بعد أن كانت توجه لهم نظرة متوجسة بكونهم أنصار عنف لفظي وجسدي.
فكيف تأسست فكرة الألتراس، وكيف انتقلت للعالم العربي، وما هي مظاهر تحولها لشكل احتجاجي على الواقع الصعب الذي يعيشه المواطن العربي؟
فاجعة الطائرة.. الفكرة الأولى
تنتشر في العالم بصفة عامة نظرة سلبية عن مجموعات الألتراس وتُوجه لها تهم من قبيل التحريض على العنف والعنصرية ونشر قيم الكراهية ضد كل مخالف، لولا أنه بالعودة إلى التأسيس سيظهر أن فكرة الألتراس تولدت من موقف إنساني مغاير تماما لكل القيم السلبية، وتشير الكثير من الأبحاث إلى أن تأسيس أول ألتراس في العالم يعود لسنة 1950 في إيطاليا.
ففي شهر مايو/أيار من سنة 1949 عاد فريق نادي تورينو من مباراة ودية جمعته مع نادي بنفيكا البرتغالي، وفي طريق العودة سقطت طائرة النادي الإيطالي وتوفي جميع لاعبي الفريق والطاقم التدريبي، وخلّف الحادث حالة من الصدمة والتضامن مع النادي الإيطالي.
ومع عودة منافسات بطولة الدوري الإيطالي اضطر النادي للاعتماد على لاعبين شباب من قسم الهواة، وبالنظر على انعدام خبرتهم وضعف لياقتهم البدنية تعرض النادي لخسائر متتالية، وهنا دخل مشجعو النادي على الخط ليقرروا التخلي عن خلافاتهم والانخراط في هيئة منظمة ومُهيكلة هدفها الرفع من معنويات اللاعبين وتشجيع النادي تحت أي ظرف وأيضا تكريم ضحايا الطائرة المنكوبة.
وفي سنة 1951 تأسست أول جمعية كروية للتشجيع في إيطاليا، وكانت مهمتها صنع أعلام للنادي والشعارات وتأليف أغان خاصة بالفريق والتشجيع البصري طيلة مدة المباراة بهدف الرفع من الروح المعنوية لفريقهم.
وبخلاف ظاهرة “الهوليغانز” البريطانية التي كانت عنيفة في التعبير عن نفسها وهي أقرب لعمل العصابات، فإن أول ألتراس تم تأسيسه كان يضم في صفوفه كل طبقات المجتمع الفقراء والأغنياء، وكان الهدف هو خلق أجواء إيجابية تشجع الفريق على مزيد من العطاء.
وبالفعل نجحت الفكرة بتشجيع من مُسيري الأندية الذين رأوا في الفكرة فرصة للرفع من مداخيل الأندية. وببلوغ سنة 1980 كانت جميع الأندية الأوروبية التي تلعب في الدوريات الكبرى تتوفر على ألتراس خاص بها.
الألتراس.. دستور مقدس
يؤمن المنتمون لمجموعة الألتراس بأنهم يعكسون المعنى الحرفي للكلمة التي تجد أصلها في اللاتينية من كلمة “ألترا” (Ultra) التي تعني الفائق أو الزائد عن الحد، وبهذا المعنى فإن المنتمي لمجموعات الألتراس عليه أن يتلبس هذه الروح ويظهر أنه ليس مشجعا عاديا.
وبغرض التمييز يضع الألتراس قواعد هي بمثابة الدستور الذي لا يمكن خرق بنوده، والتي تنص على أن المنتمين لهذه المجموعات هم ضد الإعلام لأنهم بتشجيعهم لناديهم لا يبحثون عن أي شهرة أو حظوة إعلامية، وهذا ما يفسر ظهورهم وهم يضعون لثاما على وجوههم في دلالة على أن ما يهم هو النادي وشعاره وليس الفرد.
القاعدة الثانية هي الوقوف ضد تحويل كرة القدم إلى سلعة يطغى عليها البعد المالي والتسويقي، وهذا ما يفسر دخول عدد من فصائل الألتراس في صراعات دائمة مع إدارات الأندية التي يهمها الربح الاقتصادي أكثر من الجانب الرياضي.
والقاعدة الثالثة هي العداء لرجال الشرطة، ويحمل كل المنتمين لمجموعات التشجيع شعورا غير جيد تجاه رجال الأمن، فهم بالنسبة لهم “أعداء”؛ أولا لأنهم يمثلون السلطة، وثانيا بسبب المواجهات التي تندلع بين الطرفين بعد انتهاء المباراة، وتعد هذه بعض المبادئ التي تقوم عليها عقلية الألتراس.
أما أثناء المباراة فهناك العديد من المظاهر التي تميز الألتراس عن غيرهم من المشجعين، فلهم ركن معروف في الملعب لا يتغير أبدا، وفيه يتم رفع الصور أو العلامات البصرية التي تحمل شعارا أو رسالة تحفيزية للاعبين، وإذا كنت من أعضاء الألتراس فلا يحق لك الجلوس طيلة المباراة، وكذلك أنت ممنوع من التوقف عن الغناء، وأيضا لا بد أن تقف مع فريقك وتسانده أينما حل وارتحل ومهما بلغت الكلفة المالية، ويعتبر من المعيب أن يسافر النادي للعب خارج ملعبه دون أن يجد أعضاء من الألتراس في مساندته.
الألتراس في مصر.. صوت الثورة
تتوفر الأندية المصرية على مجموعة من الألتراسات تعتبر من بين الأكبر في العالم العربي، وخصوصا ألتراس ناديي الأهلي (ألتراس أهلاوي) والزمالك (وايت نايتس)، ويمكن القول إن هذه المجموعات كانت من أوائل الأصوات التي أعلنت عبر الملاعب معارضتها لتوجه الرئيس المخلوع حسني مبارك لتوريث ابنه جمال حكم مصر، وألفوا في ذلك العديد من الأغاني، ودفعوا ثمن مواقفهم بالسجن أو القمع والشيطنة الإعلامية وإظهارهم كشباب طائش عاطل عن العمل يميل إلى العنف، وكانت هذه مبررات لقمعهم.
ولم يمنع هذا القمع أعضاء الألتراس من أن يتقدموا الصفوف في ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، وكان لافتا حضور هؤلاء الشباب بشعاراتهم الحماسية، وبشهادة الكثير من قادة الثورة الذين أكدوا أن شباب الألتراس كان لهم دور محوري خصوصا أثناء مواجهة قوات الأمن، فهم الأعلم بطرق التخلص من قبضة رجال الأمن والتحرك في الشارع وشكلوا جدار صد رفقة الثوار ضد كل محاولات اختراق ميدان التحرير.
هذا الموقف التاريخي جر عليهم غضب السلطة، فكان الثمن أرواح العشرات من أفراد ألتراس نادي الأهلي في المذبحة المعروفة بمذبحة بورسعيد التي راح ضحيتها 74 شابا، وهو ما زاد من حالة التعاطف والتضامن معهم. ورغم محاولات التضييق والقمع من طرف السلطات المصرية فإنهم مازالوا يحافظون على نَفَسٍ معارض، وآخر مظاهره ما قاموا به ضد رئيس هيئة الترفيه السعودية تركي آل الشيخ ومعارضتهم لتدخله في الكرة المصرية، وتحت الضغط اضطر للانسحاب من الاستثمار في الكرة المصرية.
المغرب.. ربيع الملاعب
يعود تاريخ تأسيس الألتراس في المغرب إلى فترة غير بعيدة، وتحديدا سنة 2005، لكن الظاهرة سرعان ما انتشرت وتطورت حتى بات المغرب يتوفر على اثنين من أكبر الألتراسات في العالم العربي ومن بين الأفضل في العالم، ويتعلق الأمر بألتراس الوداد البيضاوي “وينرز” والآخر لفريق نادي الرجاء البيضاوي “كرين بويز”، وبين الفريقين منافسة وندية عالية بالنظر لوجودهما في نفس المدينة وأكبرها في المغرب وهي مدينة الدار البيضاء، وشهدت المباريات بين الفريقين مواجهات عنيفة بين الفصيلين المشجعين، مما دفع السلطات إلى إعلان إغلاق الملاعب في وجهها لمدة طويلة.
وعادت هذه المجموعات وهي أكثر قوة وقدرة على الإبداع والتطوير في الشعارات المرفوعة، ويمكن القول إن الأشهر الأخيرة شهدت ما يمكن تسميته “ربيع الملاعب المغربية”، حيث باتت مجموعات التشجيع تتنافس في إصدار الأغاني التي تعبر عن الواقع المعاش.
وتشكل أغنية “في بلادي ظلموني” لنادي الرجاء البيضاوي نموذجا واضحا على التحول الذي تشهده الملاعب المغربية، فهذه الأغنية ترددت في كل ميادين الاحتجاج العربية؛ في تونس أثناء فوز الرئيس الجديد قيس سعيد، وفي الجزائر وفي فلسطين، وحققت عشرات الملايين من المشاهدات لأنها تحكي عن الوجع المغربي والعربي بصفة عامة، وعن شباب تم إغراقه في دوامة الإدمان والإحباط والبطالة وقتل الأمل، ولقيت استحسانا وإعجابا في الإعلام العربي والعالمي.
وبنفس الطريقة عبّر أنصار فريق اتحاد طنجة في أغنية “هادي بلاد الحكرة” (هذه بلاد الظلم) التي تتحدث عن ضياع مستقبل الشباب وعدم توفير أي فرص لهم، وسوء أحوال الفقراء، وتميز أنصار النادي بأغان على نفس المنوال كان لها أيضا انتشار على الصعيد العربي.
وتضفي الأجواء الجماهيرية وترديد هذه الأغاني من طرف آلاف الحاضرين حماسة ورهبة خاصة مما يجعل الجميع ينخرط في ترديدها، حتى لم يعد الأمر ينحصر فقط على أعضاء الألتراس، وهو ما جعل كل الأندية تتنافس في إصدار أغانٍ لها بعد سياسي واحتجاجي على الواقع المعاش.
الجزائر.. الكرة تواجه المستعمِر والحاكم
في بلد المليون شهيد الذي يعيش على وقع حراك يطالب بالتغيير، كانت كرة القدم مدخلا لمقاومة الاستعمار، بل إن الهتاف الشهير الذي يتردد الآن في الميادين والشوارع والملاعب “One two three viva l’algerie” له أصول سياسية تعود لسنة 1958 عندما قررت الجبهة الوطنية للتحرير أن تمنع اللاعبين الجزائريين من اللعب لصالح فرنسا، وقررت الجبهة تأسيس منتخب ضد الاستعمار الفرنسي، وطلبوا من الجماهير التي ترافق هذا المنتخب أن ترفع شعارا بالإنجليزية حتى يصل لأكبر عدد من الحاضرين، وأيضا تجنبا لاستعمال الفرنسية، وكان الشعار هو “we want to be free, viva l algerie” التي تعني “نريد الحرية وتحيا الجزائر”، لولا أن النطق كان صعبا على البعض فتحول الشعار إلى هذا المتداول حاليا، وكان له دور كبير في الرفع من نسبة التعبئة ضد الاستعمار الفرنسي من مدخل كرة القدم.
فلا عجب إذن أن تبقى الملاعب مُعبرا عن نبض الشعب الجزائري وصولا للحراك الأخير، وعلى سبيل المثال فإن إعلان الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة استقالته استقبلتها الجماهير في الشارع بترديد أغنية “لا كاسا ديل موراديا”، وهي أغنية أنصار الاتحاد الرياضي لمدينة الجزائر العاصمة التي أصبحت ترنيمة الاحتجاجات وتحاكي سلسلة “لا كاسا ديل بابيل” الشهيرة. أما مشجعو نادي الاتحاد الرياضي في مدينة الحراش بضواحي الجزائر العاصمة فقد اشتهروا بأغنيتهم “شكون سبابنا؟” (من المسؤول عن مصائبنا؟) وهي أغنية تلقي باللوم على الدولة ومسؤوليها عن الوضعية المزرية التي يعيشها الشباب الجزائري.
وقد أغنت أغاني الألتراس الحراك في الجزائر، ففي كل جمعة يخرج فيها الجزائريون لا يمكن أبدا أن تمر دون ترديد هذه الأغاني التي نجحت في توصيف الداء الجزائري والتعبير عما يعيشه الجزائريون من فقر وبطالة، ولا عجب من صدق كلمات هذه الأغاني، فأصحابها شباب يعانون من نفس هذه المشاكل ولا يسعون للشهرة من وراء تأليف هذه الأغاني بقدر ما يهدفون للتعبير عن آلام الشعوب وقهرها.
وهكذا أصبحت هذه الأغاني تشكل متنفسا ووسيلة للتعبير داخل الملاعب. وأمام إغلاق الأنظمة العربية للفضاء العام ومحاربة كل أشكال التعبير السلمي تحول الملعب إلى منصة لإطلاق الكثير من الرسائل السياسية القوية التي باتت تنتقل عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى الشارع والأخير يجد فيها ضالته فيلتف حولها وتنتشر انتشارا كبيرا يشجع الألتراس على مواصلة إبداع أغانٍ وشعارات لها مضمون سياسي.