سينماتيك.. مِن مصلحة مَن عدم إنشاء أرشيف للسينما المصرية؟

الفنان المصري هشام عبد الحميد

يُقاس تقدم المجتمعات وتحضرها باهتمامها بأُصولها، سواء أكانت هذه الأصول تاريخية أم ثقافية أم فنية، لكن هل تتوقف وتتجمد كل الطموحات والطروحات والآمال والأحلام لتتكسر عند حلم كل السينمائيين المصريين الذين يطمحون لإنشاء “سينماتيك مصري” يحفظ تاريخ وأصول السينما المصرية من الضياع والتلف والإهمال، لا سيما وأن تاريخ السينما المصرية يحتوي على كنوز عديدة. ..

لا شك في أن معاناة السينما المصرية مع حفظ تاريخها كأرشيف هي معاناة كبيرة ترجع جذورها لفترة تأميم السينما في ستينيات القرن العشرين، وذلك عندما كان المسؤول عن التراث السينمائي في أستوديو مصر شخصا يُدعى الدكتور حسن الجزيري، فقد باع معظم “نيغاتيف” (الصور السالبة التي تُعتبر انعكاسا للصورة الأصلية) أفلام الأربعينيات والخمسينيات بسعر 200 جنيه للنسخة الواحدة.

وما يزيد الموقف سوءا هو دخول التلفزيون المصري الذي بدأ يُهيمن على مشهد ضياع أرشيف الأفلام، حيث يتصرف كمحتكر وحيد للفيلم لمدة 99 عاما. فقد بدأ ببيع النسخة الواحدة بسعر لا يتجاوز 5000 جنيه. وبطبيعة الحال يُمارس التلفزيون سلطته كمحتكر، فقد كانت تُحذف مشاهد بعينها من الأفلام، بل ويصل الأمر إلى منع بعض الأفلام بالكامل، هذا فضلا عن تردي وسائل حفظ “النيغاتيف”، مما عرّض “نيغاتيف” الكثير من الأفلام للتلف.

نيغاتيف أفلام السينما المصرية
نيغاتيف أفلام السينما المصرية

عقود ظالمة وتاريخ مُهمَل

طبيعة العقود التي تُنظّم العلاقة بين الطرفين كانت تصبّ منفعتها بالكامل للطرف الثاني وهو المشتري، وتُجرّد الطرف الأول -صاحب النيغاتيف الأصلي- من كافة حقوقه، ويتعرض نص بند من بنود الاتفاق كمثال إلى إجحاف كبير يسلب حق الطرف الأول من حقه الأصيل.

فعلى سبيل المثال عندما يقوم الطرف الأول ببيع النيغاتيف؛ يقّر عند توقيع العقد ويتنازل عن مُلكية نيغاتيف الفيلم، ويكون التنازل أيضا عن كافة حقوق استغلال وتوزيع وعرض وبث الفيلم في جميع أنحاء العالم دون استثناء، وذلك لمدة 49 عاما، تتجدد تلقائيا لمدة أخرى مماثلة ومتكررة دون العودة إلى الطرف الأول القابل بذلك اعتبارا من تاريخ توقيع هذا العقد.

سبق وأن قمتُ بترميم نسخة فيلم “المومياء” للمخرج شادي عبد السلام خارج مصر، وتحديدا في مؤسسة المخرج مارتن سكورسيزي بالولايات المتحدة الأمريكية، هذا الفيلم العظيم الذي لم يُخفِ سكورسيزي انبهاره به. مثلا، كانت هناك ثلاثة أفلام مفقودة للمبدع نجيب الريحاني، وقد وُجدت منها نسختان فقط، بينما الثالث بقي مفقودا، وقد تم ترميم الفيلم النادر “ياقوت” بسينماتيك باريس.

صَنع الفنان المصري سيد بدرية المقيم في لوس أنجلوس الأمريكية فيلما تسجيليا عن ضياع أصول السينما المصرية وتعرضها للتلف والإهمال. ويذكر بدرية أن فكرة الأرشيف القومي جاءته عام 2000، وبالطبع لم تكن فكرة جديدة على الساحة السينمائية المصرية، إذ إن الناقد الراحل الأستاذ سمير فريد طالب بها، وكذلك الأساتذة مصطفى درويش ومحمد القليوبي أيضا. الناس تهتم بفكرة الأرشيف القومي لفترة قصيرة ثم سرعان ما يُنسى الموضوع كالعادة.

مشروع قومي

جاءتني فكرة الأرشيف القومي خلال تواجدي في الولايات المتحدة، وتحديدا أثناء حضوري مؤتمرا للأرشيف العالمي، فقد طلبوا مني أن أقدم شيئا عن الأرشيف المصري، وحاولت أن أجمع بعض المعلومات لكن لم أعثر على شيء، لذلك قررت أن أصنع فليما بعنوان “إنقاذ كلاسيكيات السينما المصرية”.

بالفعل بحثتُ عن معلومات مفيدة، فوجدت أن المغرب لديه أرشيف قومي للسينما، وإسرائيل لديها أرشيف قومي للسينما الصامتة المصرية وأرشيف قومي آخر، ومراكز لإصلاح وتخزين الأفلام السينمائية التسجيلية اليهودية التي تتعلق بالحرب العالمية الثانية في ألمانيا وأماكن أخرى.

لا تمتلك السينما الإسرائيلية إلا أفلاما تسجيلية عن الحروب المختلفة التي تخص الدولة اليهودية، وقد جمعوها ونظفوها، ثم قام المخرج الأمريكي الشهير “ستيفن سبيلبرغ” بإنشاء أرشيف قومي لإسرائيل، إضافة إلى مركز للترميم وآخر للتخزين.

زرتُ مصر لاحقا وصوّرتُ مشاهد مع القائمين على صناعة السينما مثل الفنانة مديحة يسري، والفنانة نبيلة عبيد، ومع المخرج محمد القليوبي، ومع الناقد سمير فريد والفنان مصطفى درويش والمنتج صفوت غطاس.

واصلتُ التصوير ودخلت إلى الأرشيف القومي المصري، ودخلتُ مركز تخزين شركة “مصر للإنتاج والتوزيع” فصوّرت المخازن بحالتها كما هي في الواقع، وصوّرت المخازن حيث تُحفظ الأفلام التي تحوي على مادة “النترات”، وهي أفلام كانت تُستخدم قبل عام 1950.

إذا كانت أفلام الأسود والأبيض تحتوي على مادة نترات الفضة المفيدة في إظهار الفيلم، فإن المخزن الذي شاهدته وصورته في فيلمي هو عبارة عن مقبرة للأفلام، فقد وجدت الأفلام التي تربيت عليها وقد تحوّلت إلى مسحوق وأصابها الصدأ، فبدأت بإعداد حملة للتوعية بالموضوع من خلال عرض فيلمي للعالم أجمع، وهو ما أثار حفيظة وكراهية السينمائيين المصريين، وكذلك كراهية وزير الثقافة تحديدا فاروق حسني لي ولعملي.

السينما المصرية.. بوابة استثمار

في ذلك الوقت جلبتُ لهم في مصر عرضا من أجل ترميم فيلمين، أحدهما فيلم “المومياء” والآخر فيلم “زهرة” للفنانة بهيجة حافظ الذي كان بالأبيض والأسود، كما جلبتُ لهم من “أكاديمية علوم وفنون السينما” التي تمنح جوائز الأوسكار عادة وشركة تكنيكولور عرضا يقضي بترميم فيلم “المومياء” مجانا، مع تدريب ثمانية شباب مصريين على الترميم والمحافظة على الأفلام.

كانت هناك اتفاقيات بين وزارة الثقافة المصرية وجهات خارجية من أجل شراء السينما المصرية، وبيعت السينما المصرية من الفنانة إسعاد يونس وزوجها علاء الخواجة، وتم شراء جميع الأفلام من الشيخ صالح كامل وزوجته الفنانة صفاء أبو السعود، لكن فيلمي الذي عرضته عن الترميم حول العالم عكّر أجواء هذه الصفقات الكبيرة.

كان هناك قانون عام 1971 يُقرّ بأن أيّ شخص يأخذ حق الملكية لأي فيلم عليه أن يضع وديعة بفيلمه في المركز القومي للسينما، لكن الموظفين خدعوا الحكومة وكانوا يستلمون عُلبا تحوي الرمل بدلا من الأفلام، وذلك كي يسجلوا أنهم استلموا الوديعة.

ذهبت للأستاذ محمود معروف في مجلس الشعب وبحضور وزير الثقافة، من أجل تقديم مشروعي لترميم أفلام السينما المصرية، وكان فيلمي يُعرض في بقاع مختلفة من العالم.

حاليا يقومون بترميم الأفلام بواسطة الحاسوب بطرق لا تتسم بالكفاءة والاحتراف، بينما كنتُ أريد أن أرمم الأفلام وأعيد بناءها بطريقة كيميائية على “السلولويد” وليس باستخدام الفيديو، لذلك تمت مُحاربتي فاتجهت إلى عملي الخاص، وفقدت الاهتمام بموضوع ترميم الأفلام والحفاظ عليها، لأنهم أغلقوا عليّ الموضوع تماما.

هكذا باعوا السينما المصرية إلى جهات خارجية، وهكذا أصبحت مملوكة لشخص غير مصري. إنه أمر محزن جدا. لقد أزعج الفيلم الذي أنتجته عن هذا الموضوع وزارة الثقافة المصرية، لكن ما هو لغز عدم إنشاء سينماتيك مصري في بلد كانت تُعدّ فيه صناعة السينما؛ الثانية عالميا؟ ماذا حدث، لماذا تبوء كل المحاولات بالفشل؟

ان المسؤول عن التراث السينمائي في أستوديو مصر شخصا يُدعى الدكتور حسن الجزيري
ان المسؤول عن التراث السينمائي في أستوديو مصر شخصا يُدعى الدكتور حسن الجزيري

أمل لا ينقطع

في خطوة طموحة اجتمع رجال السينما في مصر، ووضعوا تصورا طموحا لإنشاء سينماتيك مصري، على أن يكون مكانه بدار الأوبرا المصرية، وكُلفتْ شركة “المقاولون العرب” للبدء بالمشروع، لكنْ فجأة صدر قرار بمنح المكان للمركز القومي للترجمة، فذهب مشروع السينماتيك أدراج الرياح.

لم ييأس رجالات السينما المخلصين، وأُعيد إحياء المشروع بمهرجان “كان”، كما اتُفق على استضافة خبراء أجانب على أعلى مستوى تخصصي للحضور إلى القاهرة لبحث المشروع.

وصل الخبراء إلى القاهرة واختاروا قصر الأمير “عمر طوسون” لإقامة المشروع، وبالفعل رصدت له وزارة الآثار 60 مليون جنيه، كما وأن وزير الثقافة آنذاك فاروق حسني أضاف 60 مليونا أخرى، إذ إن وزارة الآثار في ذلك الوقت كانت تتبع وزاره الثقافة.

بعد قيام ثورة 25 يناير انفصلت وزارة الآثار عن وزاره الثقافة، ووُجهت الأموال المخصصة لمشروع السينماتيك إلى مشاريع أخرى ليتعثر مشروع السينماتيك مرة أخرى.

استمر هذا الحال إلى أن بدأ المركز القومي للسينما في طرح فكرة إعادة المشروع، وخُصّصت له أرض مدينة الفنون على مساحة تبلغ ثمانية فدانات في شهر يوليو/تموز 2016، لكن هل اتُخذت خطوات بناء المشروع؟

لا أحد يعلم، لكن الجميع لا يزال يطالب بوجود أرشيف يحفظ أصول السينما المصرية من الضياع، محذرين من مَغبّة إهمال ذلك. ورغم هذا المشهد العبثي دعونا نتفاءل وننتظر ما سيحدث في قادم الأيام.


إعلان