ذاكرة السينما المصرية.. زمن الثورة والنجوم
تفتح الجزيرة الوثائقية ملف السينما المصرية في سلسلة من أربعة أفلام تحكي قصتها من التأسيس إلى عصرنا الحالي، وفي الحلقة الثانية من هذه السلسلة نسلط الضوء على مرحلة ظهور النجم السينمائي وسطوع نجم الفيلم الغنائي وظهور أيقوناته، كما نؤرخ للسينما في فترة ما بعد ثورة 1952 ومدى تأثرها بالأحداث السياسية.
سناء نصر الله
أصبحت السينما المصرية في حقبة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي تجارة رائجة، وتم خلال تلك الفترة التسويق للمغني وتوسيع قاعدة جمهوره وإشهاره، واستقطبت المطربين الكبار أمثال فريد الأطرش وليلى مراد.
وفيما يلي عرض للجزء الثاني من سلسلة ذاكرة السينما المصرية، ويسلط هذا الجزء الضوء على مرحلة ظهور النجم السينمائي وسطوع نجم الفيلم الغنائي، وظهور أيقوناته مثل ليلى مراد وشادية وفريد الأطرش.
كما يؤرخ للسينما في فترة ما بعد ثورة 1952 ومدى تأثرها بالأحداث السياسية، ويواكب ظهور جيل جديد من المخرجين العمالقة مثل صلاح أبو سيف وتوفيق صالح ويوسف شاهين وعز الدين ذو الفقار.
أنور وليلى
كانت ليلى مراد من الثلاثينيات وحتى عام 1954 نجمة شباك من الدرجة الأولى، واستُخدم اسمها في الأفلام مثل فيلم “ليلى بنت الأغنياء” كعنوان للجذب، وأجرها يضاهي أجر نجمات هوليود من فرط نجاحها.
وتمكن الفنان أنور وجدي من تقديمها بطريقة مختلفة، فبعد الغناء كانت تقدم استعراضات لا تُنسى كما في فيلمي “عنبر” و”قلبي دليلي”.
ويذكر الناقد السينمائي “كمال رمزي” قولا لناقد فرنسي عاش في ليبيا بأن “العرب يشاهدون الأفلام المصرية بآذانهم وليس بأعينهم، فكان الليبيون أثناء مشاهدة الفيلم بالسينما عندما تأتي الأغنية يجلسون، وأثناء الحوار يخرجون”.
بدأ الفيلم الغنائي ينهض ويتنوع، وانعكاسا لهذه الحالة توقف الفنان محمد عبد الوهاب وأم كلثوم عن المشاركة في السينما، لمنح الفرصة لأصوات ومواهب شبابية جديدة.
السينما المصرية ونكبة فلسطين
كان لحرب 1948 وما نجم عنها من احتلال للأراضي العربية من قبل إسرائيل أثره البالغ في المجتمع العربي والمصري بشكل خاص بكل تفاصيله، وتأثرت به السينما المصرية تأثرا واضحا، وظهر لأول مرة فيلم باسم “فتاة من فلسطين” للمخرج والكاتب محمود ذو الفقار، وشاركته في الإنتاج زوجته عزيزة أمير.
ويتحدث الفيلم عن التآخي المصري الفلسطيني وعن قصص الفدائيين الفلسطينيين الذين يفضلون الموت على قبول الاحتلال، وكذلك ضرورة التوحد لدحر العدو. وقامت بدور البطولة فيه الممثلة سعاد محمد، وبرزت فيه الأغنية الشهيرة “يا مجاهد في سبيل الله”.
كما اختلفت صورة اليهود في السينما المصرية بعد 1948، فكان اليهودي قبل ذلك يظهر كجزء من النسيج المجتمعي مثلما ظهر في سلسلة أفلام شالوم، وفي فيلم “لعبة الست” الذي يتحدث عن تاجر يهودي يتنازل عن متجره، لكن بعد ذلك اختلفت الشخصية وأصبح دور اليهودي يظهر على أنه المراوغ والمحتال.
ثورة الضباط الأحرار
وكنتيجة للنكبة؛ ظهر تنظيم الضباط الأحرار الذي قام بثورة يوليو/تموز 1952 وتُوّج جمال عبد الناصر زعميا لمصر، وقد ظهر تأثير الثورة على السينما المصرية بشكل واضح، واعتُبرت السينما أداة تثقيف في تلك الفترة لأبناء الطبقة المتوسطة.
وكان فيلم “عفريت عم عبدة” أول فيلم تناول الثورة، أما فيلم “الله معنا” الذي كتبه سامي داود وإحسان عبد القدوس، فقد أصر جمال عبد الناصر على عدم الإشارة إلى قائد الثورة محمد نجيب.
ويرى النقاد أنه يحسب للثورة أنها فطنت لقدرة السينما على توجيه المجتمع، وكتب الرئيس المصري محمد نجيب مقالا في مجلة الكواكب يعيب على السينما امتلاءها بالخلاعة والمجون، وقال فيه “إن السينمائيين منوط بهم أدوار أسمى من ذلك”.
وهنا يقول أستاذ التاريخ المعاصر محمد عفيفي إن الضباط الأحرار كانوا مولعين بالسينما، فجمال عبد الناصر كان يهوى التصوير السينمائي ومشاهدة الأفلام، أما أنور السادات فكان حلم حياته أن يصبح ممثلا واستخدم هذا في أدائه السياسي والخطابي، وهو الذي اختار ثروت عكاشة وزيرا للثقافة ولم يكن ذلك صدفة، فقد عُرف بثقافته واهتمامه الكبير بالسينما.
ومن أشهر الأفلام التي أُنتجت عن الثورة فيلم “رُد قلبي” عام 1957، وهو قصة يوسف السباعي وإخراج عز الدين ذو الفقار، وكان الاثنان من خلفية عسكرية ويؤمنان بالثورة، والفيلم من بطولة شكري سرحان ومريم فخر الدين، وركز على سلمية الثورة.
وقد أثر الفيلم على الناس بشكل كبير، لدرجة أن معلوماتهم عن تلك الفترة استقوها منه.
واستثمرت الثورة موضوعا مهما للسينما؛ فأُنشئت مصلحة الفنون عام 1955 التي أنتجت أفلاما وثقت العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، كما تقرر إنشاء مؤسسة دعم السينما التي عُرفت فيما بعد بالمؤسسة المصرية العامة للسينما.
كوميديا ورقص
ظهرت في مرحلة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي سينما تخلت عن طرح الأفكار المهمة أو الجادة، وظهرت النزعة نحو تكثيف مشاهد الكباريهات والرقص في الأفلام، وشهدت تلك الفترة ظهور عدد من الراقصات الشهيرات اللواتي أدين أدوار البطولة في بعض الأفلام.
أما أبطال الكوميديا فكانوا تجسيدا حقيقيا لحب الشعب المصري بطبيعته للضحك والسخرية وتحايله على الحياة بالكوميديا، وظهر الفنان “محمود شكوكو” الذي يعتبره النقاد ظاهرة سينمائية لم يحالفها الحظ.
كما ظهرت مجموعات أفلام للفنان الكوميدي إسماعيل ياسين، التي اعتُبرت أفلاما سياسية روجت للثورة ورغّبت الناس في دخول الجيش. وكان إسماعيل ياسين ظاهرة في تاريخ السينما المصرية، ومن حظه الجميل أن كان في طريقه المخرج فطين عبد الوهاب والممثل رياض القصبجي اللذين أضافا لفنه الكثير.
زمن المخرجين العظام
ويرى الناقد السينمائي “كمال رمزي” أن فترة الخمسينيات شكلت أعظم العقود في تاريخ السينما المصرية، وأنجبت تلك الفترة جيلا راسخا من أشهر المخرجين مثل يوسف شاهين وتوفيق صالح وصلاح أبو سيف وفطين عبد الوهاب.
ويقول السيناريست “بشير الديك” إن السينما في كل دول العالم تقوم على المخرج الذي يقدم الرؤية للعمل ويبحث عن سيناريو ويلجأ للمنتج، والبداية كانت مع صلاح أبو سيف وعز الدين ذو الفقار شاعر السينما المصرية.
تنوعت المواضيع التي عالجتها الأفلام في تلك الفترة، وحاول كل مخرج تقديم أعمال في عدة مجالات من الحياة، فكانت الأفلام الواقعية التي تحدثت عن المجتمع والحارة والمشاكل الاجتماعية، وأفلام الحب والرومانسية، إضافة إلى الأفلام الغنائية.
يقول النقاد إن بعض الأفلام تتحول من عمل فني إلى معيار ومقياس لمعرفة جودة الأفلام الأخرى، وضربوا لذلك مثلا فيلم “الفتوة” من بطولة الفنان فريد شوقي. فقد حلل هذا الفيلم ظاهرة رأس المال ودورته وعلاقته بالغلاء والطبقة الحاكمة، وقام فيه فريد شوقي بدور عظيم استطاع فيه أن يرصد التغيير الموجود في الشخصية، والتي تبدأ طيّبة ثم تتحول على غول لا يستطيع المشاهد التعاطف معها، ويتحول الاحترام إلى احتقار.
وفي فيلم “باب الحديد” ذهب كاتبه عبد الحي أديب إلى المخرج نيازي مصطفى، فقال له هناك مخرج مجنون يستطيع إخراج هذا الفيلم اسمه يوسف شاهين، وبالفعل أخرجه يوسف شاهين وكتب الحوار محمد أبو يوسف، وقيل إن الجمهور ضرب العرض بالحجارة؛ لأنه توقع أن يرى فريد شوقي في البطولة وأن يكون السيناريو مختلفا، وفوجئوا أن البطل كان يوسف شاهين، لكن الفيلم اعتبر الأعلى دخلا في تاريخ السينما المصرية.
نموذج البطل
السينما تحب نجومها، ولا بد من سمات معينة للنجم، فهناك جمال ووسامة أنور وجدي، وهناك نجومية عماد حمدي الذي لم يكن وسيما لكنه كان نجم النجوم، وكان في فترة ما الورقة الأقوى، والحال ذاته للفنان شكري سرحان الذي كان يسكن الأستوديو ولا يذهب للبيت، وبعد ذلك كانت نجومية رشدي أباظة الصارخة التي تأخرت قليلا حتى عام 1958.
أما عمر الشريف فكان علامة فارقة؛ لأنه الممثل العربي الوحيد الذي لديه منطقة تماس بين السينما العربية والسينما والعالمية، فقد أنتج أفلاما مهمة جدا مع كبار المخرجين العرب، قبل أن يكتشفه ديفد لين في بطولة لورانس العرب بدور دكتور جيفاغو الذي ترشح بعده للأوسكار ونال جائزة غولدن غلوب.
كذلك ظهر الفنان محمد فوزي في الكثير من الأفلام، وكان مطربا وممثلا امتاز بخفة الظل، مما قربه للجمهور ونجحت أفلامه كثيرا، وكان للفنان عبد الحليم حافظ سحر خاص، وقدم 16 فيلما كانت من أنجح الأفلام المصرية.
وهنا يقول الناقد محمود قاسم إن حضور عبد الحليم كان أضعف من حضور محمد فوزي وفريد الأطرش وإبراهيم حمودة، لأنه جاء في فترة الاستعراض، فكانت استعراضات فريد الأطرش قوية جدا، وأغانيه واستعراضاته لا تُنسي في فيلم “أنت حبيبي” للمخرج يوسف شاهين.
الأدوار النسائية
انقسم أبطال السينما المصرية في الأدوار النسائية إلى قسمين: الأول الملائكي الوادع الواهن كأدوار مريم فخر الدين، والثاني فيه لمسة شيطانية كأدوار تحية كاريوكا.
كما اختلف نموذج البطلة بعد ثورة يوليو/تموز 1952؛ فأصبحت المرأة الواعية والطالبة والطبيبة، مثل أدوار فاتن حمامة التي غيرت جلدها من أفلام الفتاة المستكينة المغلوبة على أمرها إلى أدوار المرأة الواعية.
ويرى النقاد أن فاتن حمامة ملأت الكادر منذ طفولتها وكانت ممثلة قديرة، وظهرت في فترة كانت النجمات إما راقصات أو مغنيات، ولم تكن هي كذلك، وكانت الأعلى أجرا.
وللمثلة هند رستم نصيب من حديث النقاد، الذين قالوا إنها في بداية ظهورها كانت على الهامش حتى جاء المخرج حسن إمام ومنحها البطولة المطلقة، فكانت كأنك قشرت البيضة وخرج منها مارد جميل مثير ومدهش.
ومن الأفلام التي سلط عليها الجزء الثاني من السلسلة الضوء؛ فيلم “شباب امرأة”، وتدور أحداثه حول شاب (شكري سرحان) قادم من الريف ليدرس في القاهرة، ويستأجر غرفة بمنطقة القلعة تمتلكها امرأة متسلطة تسمى شفاعات (تحية كاريوكا)، فتُعجب بشبابه وتنجح في غوايته ويمضي معها في هذا الطريق وينغمس في الرذيلة ويتعثر في دراسته.
وأثار الفيلم -رغم جمالياته وقوته- مناقشات بين النقاد الذين تحفظوا على بعض ما جاء فيه؛ فقد قدم الفيلم شخصية تخرج من البيئة وقوانين الوراثة، شخصية جامحة قوية تسيطر عليها الغرائز، لكن المخرج صلاح أبو سيف كان قاسيا معها وكانت نهايتها مؤلمة، حتى إنه قال “لو تسنى لي إعادة الفيلم لاخترت نهاية مغايرة”.