جورجيا.. صراع على السلطة بين وكلاء الغرب والروس

حسن العدم
جورجيا، حيث الجبال الشاهقة، والطبيعة الخلّابة الساحرة، والقرى التي لم يتغير شكلها وأسلوب حياتها منذ قرون، جورجيا التي هجعت بسلام بين أحضان جبال القوقاز شمالاً وجوباً، ها هي تتململ الآن على وفع التجاذبات السياسية التي أقضت مضجعها.
تلك البلاد التي تعاقبت عليها الممالك والدول منذ قديم الزمان، كانت إلى بداية التسعينات من القرن الماضي إحدى دول الاتحاد السوفياتي السابق، وحين استقلت في 1991 كان يشار إليها بأنها الدولة الأكثر ديمقراطية بين دول القوقاز.
ولكن الأوضاع تغيرت في الوقت الحالي، حين صار يتجاذب بساط السياسة فيها شخصيتان تُكنان لبعضهما حقدا سياسيا، وتناقضا في الرؤى والتوجهات، واختلافا في الولاءات والمرجعيات.
ويسلط الفيلم الذي بثته قناة الجزيرة الفضائية ضمن سلسلة عالم الجزيرة بعنوان “دهاليز السلطة في جورجيا” الضوء على هاتين الشخصيتين، كما يحاول كشف بعض الغموض المحيط بالحالة السياسية في جورجيا.
إيفانشفيلي.. السياسة في خدمة المال
الشخصية الأولى “بيدزينا إيفانشفيلي” ذلك الرجل القوي، وأحد أكبر دهاقنة المال والأعمال في جورجيا، الرجل الغامض المتكتم الذي تحوم التكهنات والشكوك حول المليارات التي جمعها في روسيا، وهو لا يُخفي مظاهر ثرائه؛ فالقلعة الزجاجية التي بناها لنفسه على تلة مطلة على تبليسي العاصمة وزيّنها من الداخل باللوحات الفنية الباهظة الثمن، وحديقة الحيوان التي يمتلكها؛ هي بعض مظاهر الهالة الغنية التي يحيط نفسه بها.
“مايا بانيكيدزه” وزيرة خارجية جورجيا إبان حكومة إيفانشفيلي، وهي من تحالف الحلم الذي قاده إيفانشفيلي نفسه، وصفته بأنه “سياسي ذكي جدا ورجل استثنائي، وقد كان قريبا من الرئيس السابق (سكاشفيلي) وحكومته، وقدم له دعما متكررا تمثل في النصح والمشورة والمال في كثير من الأحيان”.
قرر إيفانشفيلي فجأة دخول معترك السياسة في البلاد، وقدم نفسه من أول يوم على أنه هو الممول الرئيسي لحملة بوريس يلتسين (أول رئيس للاتحاد الروسي) لدخول الكرملين، وذلك حتى يقطع على الشيوعيين طريق العودة إلى سدة الحكم.
أسس إيفانشفيلي حزب “الحلم الجورجي” وخاض به انتخابات 2012 وفاز فيها، وأصبح رئيسا للوزراء، وأدار ظهره للرئيس السابق سكاشفيلي.
كانت الكنيسة الأرثوذكسية الجورجية داعما رئيسيا لإيفانشفيلي، بعد أن تبرع بكلفة البناء كاملةً للكاتدرائية الأرثوذكسية الضخمة الرائعة الجمال في تبليسي.

لا يخفى دور الكنسية ورجالها في هذا البلد الشديد التدين، ويعتبر البطريرك إيليا الثاني أهم رجل في الدولة، ويعتبر الحصن المنيع للدين الأرثوذكسي في مقابل الانحلال الديني في أوروبا الغربية، ولا تخفي الكنيسة ورجالها افتخارهم بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، واعتباره حامي حمى الأرثوذكسية في مواجهة الغرب والولايات المتحدة. ورغم محاولات التقرب التي قام بها الرئيس السابق ساكاشفيلي للكنيسة، فإن هذا لم يشفع له، وكانوا يرون أنه يجر البلاد إلى هاوية الغرب المنحل.
وبعد سنة من توليه رئاسة الحكومة، قام إيفانشفيلي بتسليمها إلى أحد شركائه التجاريين وهو إراكلي غاريباشفيلي، وفي الانتخابات الرئاسية التي جرت في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2013 تم اختيار جورجي مارغيلاشفيلي –وهو أحد مقربي إيفانشفيلي- رئيسا للدولة، وهو ما جعل الخصوم السياسيين لهذا الملياردير الجورجي يتهمونه بأنه يدير الدولة بأذرعه الكثيرة وكأنها إحدى شركاته الخاصة.
ساكاشفيلي.. رهان خاسر على الغرب
أما الشخصية الثانية فهي للرئيس السابق ميخائيل ساكاشفيلي، والذي فاز بمنصب الرئيس الجورجي لفترتين متتاليتين (2004 – 2013)، وهو الرجل المحبوب والسياسي المحنك الذي كان مقربا من الدوائر الغربية في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.
يمتدح الغرب ساكاشفيلي بصفته جلب الديمقراطية بأبهى صورها إلى هذا البلد الشرقي، بينما يتهمه خصومه بانتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان، والارتماء في أحضان الغرب على حساب المعتقدات والتقاليد الشرقية التي تفتخر بها جورجيا.
يعيش الرئيس السابق ساكاشفيلي في نيويورك حاليا بعد أن خسر المعركة السياسية لصالح خصمه اللدود إيفانشفيلي، وصارت تتكشف حقائق مريعة تتعلق بحقوق الإنسان بعد فقده السلطة، وانتشرت أفلام فيديو عن حالات تعذيب واغتصاب في غرف التحقيق، وازدياد واضح في عدد المسجونين وبناء سجون جديدة. وينفي ساكاشفيلي هذه الحوادث ويعتبرها من الكيد السياسي الذي يقوم به خصمه لتشويه تاريخه.
يتهم كثير من أركان النظام السابق الزعيم الحالي إيفانشفيلي أنه قد تغول في السلطة على حساب العدل والشفافية، وأن كثيرا منهم تعرض للسجن أو الإخفاء، وفي أحيان كثيرة إلى العنف الجسدي، وحتى القتل والاغتيال بسبب مواقفهم السياسية، وأن ملف حقوق الإنسان الذي تصدر الدعاية الانتخابية للحزب الحاكم الحالي غاب في الأدراج الآن، والمحاكمات لا تعدو أن تكون صورية.

وفي المنفى، يصف ساكاشفيلي خصومه الجدد بأنهم يجرون البلاد إلى حرب أهلية، فالسلطة القائمة على الثأر والكيد السياسي –على حد تعبيره- ستجر البلاد إلى صراعات حتمية، ويقول إنه بات مطلوبا في بلده، ولا يأمن على نفسه إذا فكر في العودة، وأنه تمت مصادرة أمواله الشخصية، وحتى أموال بعض أقاربه وأفراد عائلته.
غير أن كثيرا من المراقبين وصفوا فترة حكم ساكاشفيلي بأن فيها تجاوزات جسيمة بشأن حقوق الإنسان وحرية الإعلام والصحافة، وبالرغم من المديح الذي كان يكيله له بوش الابن وزعماء الاتحاد الأوروبي، فإنهم في حقيقة الأمر كانوا يغضون الطرف عن جرائمه في مقابل تقربه من الغرب، وابتعاده في سياساته عن المعسكر الشرقي.
جورجيا وروسيا.. معركة غير متكافئة
من الناحية الجغرافية فإن جورجيا محاطة بثلاث دول عملاقة، كل منها تدعي أن هذا البلد الصغير كان جزءا منها وسيعود إليها يوما ما.
ليست روسيا فقط هي التي تدعي ذلك، فهناك تركيا وإيران، لكن روسيا هي الوحيدة التي خاضت بالفعل حروبا في جورجيا كان آخرها عام 2008؛ نتج عنها أكثر من نصف مليون نازح جورجي أو ما يعادل 12% من مجموع السكان، شردتهم روسيا عن أراضيهم ومنازلهم في القرى المجاورة للحدود.
وعلى الرغم من مظاهر الهدوء الحذر في البلاد، فإنه ومنذ تدخل روسيا في شبه جزيرة القرم واضطراب الأوضاع إثر ذلك بين روسيا وأوكرانيا؛ يلاحظ المراقبين استعدادات غير مسبوقة بين صفوف الجيش الجورجي، وحالة من الاستنفار والتأهب لم تكن حاضرة في السنوات الأخيرة، مما يستدعي إلى الذاكرة أن جورجيا خاضت منذ استقلالها حربين خاسرتين مع الدب الروسي، وخسرت فيهما أراضٍ لصالح كيانين انفصاليين هما أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.

وفي ظل هذه الحرب المجمدة بين الدولتين، فإن حوادث خطف المزارعين الجورجيين على يد الجنود الروس ما زالت تتكرر في القرى الحدودية في شمال وشرق البلاد، وذلك في سبيل المطالبة بفدية مالية مقابل الإفراج.
ولكن ما سر تلك العلاقة الخاصة بين جورجيا وروسيا؟
ستالين الجورجي
في مدينة غوري التي تبعد 40 دقيقة عن تبليسي العاصمة، هناك متحف تم تأسيسه حول بيت ولدت فيه شخصية تعتبر من أعظم من أنجبتهم جورجيا، بل إنه يعد من أشهر الرجال في التاريخ الحديث؛ إنه جوزيف ستالين الذي ما زال يفخر به كثير من الجورجيين من كبار السن.
وعلى الرغم من أن البعض يصف ستالين بأنه أسوأ رجل في هذا العالم، فإنهم لا يخفون إعجابهم بشخصيته الأسطورية؛ حتى الذين أصابهم الأذى بسببه، ولا تزال كثير من المصانع والمنشآت تشهد لستالين وللعهد السوفياتي بأنه وفر جانبا من الازدهار لجورجيا في يوم ما.
تسيطر روسيا الآن على ما نسبته 20% من الأراضي الجورجية الحدودية، وتجبر السكان هناك على هدم منازلهم بأنفسهم والابتعاد خلف الخطوط الجديدة للحدود، وهو ما جعل الجورجيين ينظرون بعين الريبة لصمت أوروبا عن تصرفات روسيا ضدهم. لكن هذه الريبة تتبدد عندما يدركون أن برد هذه السياسة تجاههم جاء نتيجة خوف أوروبا من أن تتعرض للبرد القارس الحقيقي لو أقفل بوتين صمامات الغاز الروسي المتدفق إلى أوروبا.

لكن جورجيا تعمل الآن على بعض المشاريع العملاقة التي قد تغير قواعد اللعبة مع روسيا، فإنجاز خط الغاز القادم من أذربيجان، وكذلك إنجاز سكة الحديد (خط الحديد الحريري) مع آسيا الصغرى والصين، قد يكون لهما أثر كبير على السيطرة الروسية على سوق الطاقة.
واقع غامض.. وأفق مسدود
لا يُخفي كثير من الجورجيين خشيتهم من سياسات بوتين التوسعية، فهم يدركون تماما أن عقيدة الروس قائمة على حماية كل من يحملون الهوية الروسية خارج الحدود، حتى لو كان ذلك عن طريق التدخل العسكري المباشر، كما أن هناك قوميات كالأرمن يحنون إلى الحقبة السوفياتية.
وفي ظل تصارع السياسيين على السلطة في جورجيا، وغموض علاقة إيفانشفيلي مع الكرملين، فإن مستقبل جورجيا برمتها يكتنفه الغموض، وذلك على الرغم من أن كثيرا من المواطنين يفضلون الموت على أن يعودوا تحت سطوة الروس.