السينما الجزائرية.. أرضية خصبة وصناعة كاسدة
بعد حلقات “السينما المصرية” في سلسلة من أربعة أفلام تحكي قصتها من التأسيس إلى الألفية؛ تفتح الجزيرة الوثائقية ملف “ذاكرة السينما” وتتناول فيها السينما العربية إضافة إلى السينما النيجيرية والتركية. وتتناول السلسلة بدايات السينما وتطوراتها في كل دولة، إضافة إلى أبرز الأحداث التي أثرت فيها والتغييرات التي طرأت على محتواها والتحديات التي واجهتها والآمال المرجوة منها، كما تتطرق إلى أبرز الممثلين والنجوم الذين صنعوا السينما في هذه الدول، وتعرض لأبرز أفلام كل مرحلة. وفي الحلقة الأولى نبدأ بالسينما الجزائرية.
حسن العدم
يمكن أن تكون السينما آلة لالتقاط صور أو تسجيل ذكريات، ولكن المعنى الأعمق للسينما أنها تعكس تصورات المجتمع عن ذاته، وتتجسد فيها مشاريعه، ويظهر من خلالها بالشكل الذي يريد. إنها جيش من الحرفيين والفنيين يتمحور عملهم الطويل الدؤوب حول هذه التي تسمى عين الكاميرا.
وقد أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما من جزأين بعنوان “السينما الجزائرية” ضمن سلسلة “ذاكرة السينما” من إخراج راني بيطار، ويتمحور الفيلم حول شخصية أساسية لشاب جزائري هو “أمين كوتي” في أوائل العقد الثالث من عمره يعمل مخرجا سينمائيا، ويحاول إنضاج تجربته بإخراج فيلم سينمائي طويل. ويأتي فيلم الجزيرة على شكل قصة يحكيها أمين كوتي عن نفسه والسينما الجزائرية.
شمعة في عتمة السينما
يُعرِّف صاحب الفيلم أمين كوتي نفسه بأنه شاب وُلد في مكان ما على كوكب الأرض يقال له قبلة الثائرين “الجزائر”، وتحديداً في مدينة وهران مهد أغاني الراي وأكبر مدن الجزائر.
وُلد أمين في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، حين كان العالم مقبلا على تحولات جوهرية كان لها أكبر الأثر في إعادة تشكيل المجتمع الدولي، فسقوط جدار برلين أعاد ترتيب الأوراق في كل أوروبا وأذاب كثيرا من الفوارق بين الشرق والغرب، أما الشرق الأوسط فهو موغل أكثر فأكثر في صراعاته الداخلية، ولا بريق أمل لشمس تشرق هناك من جديد، وفي الجزائر دخلت البلاد في أحلك فترات تاريخها ظلمةً، وطال ليل العشرية السوداء حتى كدت تظن أنه سرمدي.
يقول أمين: إن الذين أضاؤوا مئات الشاشات لعقود خلت، يرون هذه الشاشات تُطفأ عليَّ وعلى الشباب من أبناء جيلي، فأردت أن أوقد شمعة في عتمة السينما الحالية لأساهم في إعادة رسم المخيلة الجمعية لأهل بلدي، من خلال إعادة ترتيب الظل والنور، وإدخال شخصيات تعيد سرد قصصها من جديد، وتعيد تعريف نفسها وإظهار أوجه شبه كثيرة بينها وبين أناس ظنوا لوقت طويل أنهم مختلفون.
أريد أن أَدخُل صورةً كنت خارج إطارها بفعل الزمن الذي وجِدت فيه، أريد أن أصنع فيلما جزائريا من جديد، ولكن ما هو تعريف الفيلم الجزائري؟ هل كانت السينما الجزائرية موجودةً أصلا؟ يبدو أنني بحاجة إلى إشراك الآخرين للإجابة عن تساؤلاتي هذه وغيرها الكثير.
من الـ”نحن” إلى الـ”أنا”
التقيتُ بمريم شتوان الفرنسية ذات الأصول الجزائرية، وهي دكتورة في تاريخ السينما كرّست معظم دراساتها للسينما الجزائرية. مريم مغرمة بصناعة السينما، فقد أخرجت فيلما قصيرا في باريس؛ وعندما سألتُها عن تعريف السينما الجزائرية قالت: إنها سينما متفردة في شكلها وتاريخها، فهي ولدت مع الاستقلال لتمجيد المقاتلين والشهداء، ثم انتقلت عبر السنين من تصوير الـ”نحن” إلى تصوير الـ”أنا”.
وتضيف شتوان: تراوحت السينما الجزائرية بين ثلاثة أنواع من السرديات، الواقعية النقدية مثل فيلم “نَـوَّة” الذي تحدث عن الثورة الزراعية بينما تحدث “عمر قتلتو الرجلة” عن الواقع الحضري أكثر، ثم الواقعية الشعرية ومثلت لها بفيلم “تحيا يا ديدو” للمخرج محمد زينات، والمذهب الثالث هو الطبيعي التوثيقي الذي يخلط بين الدراما والوثائقي مثل فيلم “نهلة” للمخرج فاروق بلّوفة. ثم وُلدت سينما جديدة يمكن تسميتها بالسينما الاجتماعية تهتم بالفرد الجزائري بذاته.
التمويل عصب السينما
كريم موسوي مخرج يعيش في الجزائر العاصمة، التقيتُه في باريس في إطار رحلة كتابة الفيلم، التقيته لأسأله عن سر الوقت الطويل الفاصل بين أفلامه، فكان الجواب الشكلي أن كتابة السيناريو تحتاج وقتا طويلا، ولكن الجواب الحقيقي هو قلة مصادر التمويل، فقد اعترف كريم أنه موّل فيلمه القصير الثاني من جيبه مع مساعدة بعض الأصدقاء، لكنه كان محظوظا في الحصول على تمويل خارجي لفيلمه الثالث من مصادر فرنسية، ولذلك تجده كثيرا هنا في باريس.
وعندما سئل موسوي عن تعريف الفيلم الجزائري ابتسم مستغربا وأجاب متسائلا: هل هو الفيلم الذي يخرجه جزائري، أم تمويله جزائري، أم يطرح قضية جزائرية؟
ثم يستدرك قائلا وهو يضحك بحزن: في جميع الأحوال “لا أرى فيلما يمكن أن يقال له جزائري”.
عالم السينما الجزائرية الذي وصفه كريم محزن حقا، فلا تمويل ولا موزعين ولا دور عرض ولا حتى مشاهدين، إذن فأين هي السينما الجزائرية أصلا؟
الفيلم الجزائري.. أزمة هوية
إلياس سالم مخرج وكاتب سيناريو وممثل كوميدي يعرف وهران جيدا، فهناك حيث تكون السماء زرقاء على الدوام صوّر آخر أفلامه بعنوان “الوهراني”، لكنه يعيش الآن في باريس، فهو من السينمائيين الذين يتنقلون بينها وبين الجزائر.
عندما سألتُه عن الفيلم الجزائري الخالص أجاب: هو الفيلم الذي يكون إنتاجه وتقنياته ومعداته وأبطاله وكل ما فيه جزائريا، وهذا ينطبق فقط على الأفلام التي أنتجتها الدولة لتخليد البطولة والاستقلال مثل فيلم “مصطفى بن بولعيد” وفيلم “كريم بلقاسم”، ولكن الموضوع أعمق من هذا كله.
وهنا يتساءل إلياس: إذن من هو الجزائري، وما هي الجزائر؟ هل نتحدث عن جغرافيا وفضاء، أم عن تاريخ وثقافة؟ وهل الجزائري هو الذي ولد في الجزائر أم الذي تربى فيها وعرف طباعها وأهلها؟ فإذا استطعنا تعريف الجزائري فسيكون من السهل تعريف الفيلم الجزائري.
ويضيف إلياس: إن أرض الجزائر جاذبة لصناعة السينما، فالسينما تعتمد على المبالغة في كل شيء، وهذا بالفعل موجود عندنا في كل مظاهر حياتنا، فنحن نبالغ في الحب ونبالغ في الخصام إلى حد تكسير العظام، نبالغ في الفرح ونبالغ في الحزن، فماذا تريد السينما أكثر من هذا؟
مجتمع يخشى المرآة
ما زلت أبحث عن إجابات شافية، التقيت بعبد الكريم بهلول، وهو سينمائي جزائري بدأ مسيرته ممثلا وكاتب سيناريو، ثم تحول إلى الإخراج ليُخرج ستة أفلام طويلة، لكنه اختار أن يغادر الجزائر فجأة. ومنذ بدايات تكوينه السينمائي، كان في الجزائر وفرة في العمل، ولكنه آثر الرحيل.
عندما سألته أن يعرّف عن نفسه أجاب: “أنا خليط من الاثنين، جزء مني فرنسي والآخر جزائري”؛ هكذا قلت للمشاهدين يوم قدمت فيلمي “الشمس المغتالة”.
ثم سألته: بماذا تنصحني أنا وأمثالي كشباب يريدون إنتاج أفلام سينمائية؟ هل نذهب إلى فرنسا أم نبقى في الجزائر؟
فقال: أنت جزائري أينما ذهبت، ولكن الفنان يجب أن تنتقل أفلامه بحرية، عندما تسألني هذا السؤال فهذا يعني أن هنالك مشكلة.
ثم يضيف: معظم أفلامي التي أنتجتها كانت تتحدث عن العرب والمسلمين أو الجزائريين والفرنسيين، هذا يعني أن هنالك مشكلة ما بين البلدين، لا يجب أن يكون الفنان هكذا، لا يجب أن يكون عبدا محكوما لدولة ما أو لحكومة ما، أحاول الآن أن أركز على الفرد بصفته فردا مستقلا خارج الحدود الضيقة، ولهذا أستغرق وقتا طويلا لأنتج فيلما.
ثم يتململ البهلول ويقول: أعتقد أن لا رغبة لصانع القرار السياسي بوجود سينما جزائرية حقيقية، إنه لا يحب أن يرى مشاكل البلاد، بل إن المجتمع نفسه يخاف أن يرى صورته، لأنه ليس لديه تصور حقيقي عن نفسه؛ هل نحن عرب، مسلمون، من شعوب حوض المتوسط؟ هل لدينا حرية أفكار وأديان؟ لم يحدد المجتمع الجزائري بعد ما هي الصورة التي ينبغي أن يكون عليها، ولذلك يخشى أن يرى انعكاس صورته الحقيقية في فيلم.
الصورة المفقودة.. انطفاء الكاميرا
تولدت لدي قناعة مفادها “أن أُنتج فيلما معناه أن أواجه المشاكل في أي مكان من العالم”، وليس الأمر مقصورا على الجزائر وحدها، لذا يجب عليّ أن أستمر ولا أتوقف. هنالك شخص على الأقل لم يتوقف عن العمل منذ السبعينيات حتى يومنا هذا، فمنذ فيلم “عمر قَتْلتو الرجلة” وحتى فيلم “السطوح” لم يتوقف مرزاق علواش عن العمل، فكان يتعرض لطرح المشاكل السياسية والاجتماعية في أعماله، ويصف معاناة الجزائري في بلده وفي مكان هجرته، وتحديدا في فرنسا.
ويفرق مرزاق بين ثلاثة أجيال في تاريخ السينما الجزائرية، فحقبة السبعينيات تختلف عن حقبة الثمانينيات وعن السينما الحالية، ففي السبعينيات كان هناك ما يسمى بسينما الدولة القابعة تحت هيمنة الحزب الواحد، حيث كان السيناريو يقدَّم للهيئة الحكومية لإقراره قبل البدء بالتصوير، وكانت تلك مرحلة شديدة الصعوبة على صاحب الفكر والرأي الآخر.
وبعد إقرار التعددية الحزبية في أواخر الثمانينيات بدت الأمور أسهل بكثير، فظهرت شركات الإنتاج، وصار دور الدولة إشرافيا داعما، ثم جاءت التسعينيات بعشريتها السوداء فتوقف العمل السينمائي بشكل كامل تقريبا، وأطلق السينمائيون على تلك الفترة تعبير “الصورة المفقودة”، فهناك جيل كامل لا نستطيع أن نقف على ملامحه، لأن الكاميرا أطفئت.
سينما من دون جمهور
منذ عام 2000 وحتى وقتنا هذا، يمكن أن نطلق اسم السينما الاحتفالية أو السينما الرسمية على الأعمال التي تقدم، فهي ترتبط بمواسم يهرع السينمائيون إلى الحضور فيها مثل سنة الجزائر في فرنسا، أو سنة قسطنطينة، أو سنة تلمسان وهكذا، ونادرا ما تجد فيلما أنتِج في هذه الفترة يخرج عن هذا التصنيف.
يقول مرزاق علواش: بالنسبة لي فإنني لم أنقطع عن التصوير في الجزائر طوال هذه الفترة، ولكنني كنت أتعرض لانتقادات من قبيل: ما شأنك بالقضايا الداخلية للجزائر؟ لماذا لا تذهب إلى فرنسا وتصور هناك؟ هنا أدركت أنني أمام مشاكل حقيقية تتمثل في حجب التمويل والرقابة الصارمة، ولكنني لم أنقطع، فمنذ تصوير فيلمي “حرّاقي” (2009) قمت بتصوير العديد من الأفلام الأخرى، ولكن المشكلة الحقيقية بالنسبة لي ولكل السينمائيين الجزائريين هي عدم وجود جمهور، نحن نصور لمن إذن؟ الحقيقة أننا نصور لفئة محدودة من الشخصيات نجدها في الملتقيات والمهرجانات الخاصة بالسينما، ولا يوجد لنا حقوق ملكية، فأفلامنا كلها محملة على الإنترنت ونتعرض للقرصنة دائما.
ويتابع مرزاق بشيء من الأسى: أصبحت معتادا على هذه الصعوبات، فأنا في بلد يرغب في الثقافة ولكن ليس لديه الرغبة في أن يكون مثقفا، هنالك فئات عريضة من الناس لا يحبون الحرية، يضيقون ذرعا بالرأي الآخر، لا يحبون الثقافة، وبالتالي لا يحبون السينما.
ثم يلتفت إليّ السيد علواش ويقول لي: هذا ما يجب عليك أن تتخيله إذا أردت أن تصور فيلما، يجب أن تكون لديك روح التحدي والمواجهة، يجب أن تقول رأيك بصراحة في فيلمك، لا يجب أن تلتفت إلى عدم وجود جمهور، فقط استمر، وسلط فوّهة الكاميرا على ما في داخلك، ولا تمحُ شيئا من المشهد.
الفساد السياسي.. مقبرة السينما
تركتُ مرزاق علواش ولكن لم تتركني كلماته “السينمائي هو ذلك الفارس الذي لا ينتظره أحد، ولكنه يَعبر الصحراء الكبرى بمفرده، وهو ذلك العازف الذي لا يبالي أحد بسماعه، ولكن أصابعه لا تتوقف عن مداعبة الأوتار، فالسينما رسالة يجب أن تؤدى، ويوما ما سيفهم أحدٌ الرسالة”.
فاروق بلّوفة هو أحد المحاربين الذي آثروا القتال بمفردهم، وهو رفيق درب مرزاق علواش، ولكنه صاحب مدرسة مختلفة، فقد صور فيلما طويلا واحدا هو “نهلة”، ثم قرر الانسحاب.
يقول فاروق عن هذا الفيلم: تم تصويره في مرحلة كنت أراجع فيها علاقتي مع الجزائر، فكان الفيلم ينطق بما يجول في داخلي من صراع، قد تبدو أحداث الفيلم غريبة عن الجزائر، ولكنه لا يزال فيلما جزائريا بامتياز، وقائعه تنطبق على الجزائر، وتتطرق إلى جدلية الهوية، هل الجزائر عربية، أم حالة متفردة؟
قاطعته بسؤال: هل خذلتم السينما الجزائرية بالهروب منها؟
فأجاب: لا، ما زال حلما يراودني مذ كنت شابا أن أساهم في تطوير سينما وطنية تخص الجزائر، هنالك أفلام ما زالت تصور، ولكنها حالات فردية، لم تتطور إلى درجة أن يقال عنها حالة وطنية، ما زلنا فاشلين في الوصول إلى أحلامنا، فالسينما انعكاس لحالة المجتمع سياسيا وثقافيا، فإذا هيمنت السياسة الفاشلة والسياسيون الفاسدون على المشهد، فستتكرر كل الحماقات التي فعلناها في الماضي.
بصمة نسائية.. مسحة من الإحساس العميق
هل مات الحلم بإنشاء سينما وطنية؟ معظم الإجابات كانت من رجال السينما، ولكن ماذا تقول النساء في هذا المجال؟
وسيلة تامزالي ناشطة في قضايا المرأة على الساحتين الفرنسية والجزائرية، ولها مؤلفات عدة عن مكانة المرأة في الوطن العربي. تقول عن دور المرأة في السينما الجزائرية: كان وجودها أقل من وجود الرجال، ولكنه كان وجودا هاما، فهنالك مثلا “آسيا جبّار” التي أخرجت فيلمين مهمين جدا، أولهما “نوبة نساء جبل شنوة”، والثاني “الزردة وأغاني النسيان”، وقد أضافت مسحة من الإحساس العميق للسينما، وتلك خصلة متفردة اختصت بها آسيا.
وهناك “جميلة صحراوي” التي قدمت أعمالا كثيرة خصت فيها النساء، مثل فيلم “يما” الذي تدور قصته حول عائلة مكونة من ثلاثة أفراد مزقتها الأحداث المأساوية في العشرية السوداء التي شهدتها الجزائر. ويحكي الفيلم قصة الأم “وردية” التي تعاني من مختلف أنواع الحرمان والفقر، خاصة بعد اغتيال ابنها البكر الضابط طارق على يد جماعة إرهابية يقودها ابنها علي.
وهناك فيلم “ريح الأوراس” لخضر حمينة الذي يروي قصة أمّ (أم كلثوم) تبحث عن ابنها المسجون لدى السلطات الفرنسية، إنها قصة مؤثرة جدا، تم تمثيلها بطريقة لافتة للغاية. فقد توفي زوج أم كلثوم إثر قصف جوي للمنزل، واعتقل الجيش الفرنسي ابنها، لكنها لم تيأس في البحث عنه رغم الصعاب والمعوقات وضعف الحال، فجالت من معتقل إلى آخر عسى أن ترى فلذة كبدها. وفي مشهد درامي حزين، تموت الأم عند السلك الشائك الذي يحيط بمكان اعتقال ابنها قبل الوصول إليه.
أخطاء تاريخية قاصمة
كل الإجابات كانت من باريس، ولكنها بعيدة جدا عن الوطن. يجب أن أرحل إلى هناك لعلي أجد ما يشفي غليلي.
ها هي الجزائر البيضاء، المدينة الشاهدة على آلام وأحلام الجزائريين على مر الزمان، أنا الآن في مكتبة الجزائر السينمائية، وسوف ألتقي بالناقد السينمائي أحمد بجاوي الذي أنتج عشرات الأفلام للتلفزيون الوطني، كما أنه ساهم بشكل نشط في بلورة مفهوم محدد للسينما الجزائرية.
يقول بجاوي عن فترة الستينيات: تم اتخاذ قرارات خاطئة جدا تحدد على أثرها مستقبل السينما الجزائرية للأسف، كان أولها إدارة قاعات العرض من قبل الدولة، فهذه القاعات كانت مملوكة لمواطنين اشتروها من الفرنسيين، وكانت تدر دخلا خياليا، وكانت الدولة تنتج عشرات الأفلام من الضرائب التي تفرضها على التذاكر فقط. ثم كان الخطأ التاريخي الثاني بصناعة واحتكار توزيع الأفلام، بمعنى إغلاق وكالات التوزيع الأمريكية والفرنسية والجزائرية، إذن لقد استولت الدولة على كل شيء وانتزعت الحلم من السينمائيين.
ويضيف بجاوي: استمر النشاط السينمائي حتى منتصف السبعينيات حين جاء التلفزيون ليسحب البساط من تحت أقدام السينما، والحقيقة أن التلفزيون والسينما لا يسيران معا، فتعثر أحدهما يعني نهوض الآخر. ثم استعادت السينما نشاطها بعض الشيء في فترة الثمانينيات، ولكن ما لبث هذا النشاط أن خبا في فترة التسعينيات بسبب ظهور “التشدد الديني”، وأقبل الناس على الأقراص المضغوطة وآثروا البقاء في منازلهم بدل ارتياد قاعات العرض.
سينما للأثرياء فقط
يقول أحمد بجاوي: في بدايات القرن الحادي والعشرين كان هناك انتعاش جديد في صناعة السينما، ولكن للجيل القديم الذي يملك المال الكافي للتمويل، أما الشباب فما زالوا يقفون في طوابير الانتظار علَّ فرصة تلوح لهم، لكن الانتظار يطول، فيصبحون كهولا دون أن يحالفهم الحظ.
يجب على الشاب أن يخرج فيلمه الأول وهو في أول شبابه، حيث الحماس والرغبة الجامحة والاندفاع، فهذه هي الأسلحة التي تتطلبها مواجهة صناعة خطيرة كثيرة المصاعب كالسينما.
ثم التقيت بالمخرج والمنتج بشير درّايس وسألته: لماذا اختار أن يكون منتجا في الجزائر؟
فأجاب: ليس اختيارا بل هي ضرورة لعدم وجود منتجين هنا، أما على صعيدي الشخصي فلدي بعض الهامش من الحرية في اختيار مواضيع أفلامي، لأن معظم تمويلها يأتي بالشراكة مع أوروبا. الواقع أن معظم الأفلام المنتَجة هذه الأيام يمكن أن يقال إنها ثنائية الجنسية، فهي توزع بالفعل في أوروبا وأمريكا بواسطة شركات توزيع فرنسية على أنها أفلام فرنسية، أما الأفلام الجزائرية الخالصة فنادرة جدا.
فاجأته بسؤال: هل يمكنني أن أخرج فيلما من إنتاجكم؟
فأجاب مبتسما: شروطي بسيطة؛ أن يثير الموضوع اهتمامي، وأن يكون السيناريو جيدا، هذا هو كل شيء.
إنه العبث بعينه أن تنتج فيلما جزائريا عبر فرنسا فقط، لقد رحلتُ إلى الجزائر لأخرج فيلمي الأول، فكان الجواب: أفلام الجزائر تصنع هناك، في فرنسا فقط، يا للسخرية.
السينما في عيون المنتجين
سألت ياسين بوعزيزي وهو صاحب شركة إنتاج خاصة، بعد أن كان مخرجا ثم متخصصا في المونتاج؛ ما هي معايير اختيار المشروع الذي تنتجه؟
فأجاب: مشروع أصيل يلبس ثيابا جديدة، سيناريو جيد وبرؤية إخراجية جديدة، هذه هي معاييرنا. مهما كان المشروع بسيطا تهمنا رؤية المخرج، أن يكون له رأي يريد أن يقوله عبر الصورة.
ثم سألته: وكيف ترى المخرجين الشباب هذه الأيام؟
فقال: ليسوا شجعانا بما يكفي، يتجشمون عناء المواضيع الثقيلة تماهيا مع تعقيدات المجتمع، يتحدثون عن المرأة والإرهاب والاقتصاد، وهذا ليس ما يشغلني أنا، أريد أفكارا بسيطة مسلية، تجلب الضحك، لا تؤلم الرأس.
ثم قال لي: مثل هذه المواضيع البسيطة يمكن تنفيذها في أفلام قصيرة، أما إذا أردت أن تُخرج فيلما طويلا فعليك الاستعانة بوزارة الثقافة، والأحسن أن تبحث لك عن شريك يمولك من الخارج، ثم يكون العرض من خلال مهرجان، فهذه هي الفرصة الوحيدة لكي يرى الجمهور عملك، أما الأفلام القصيرة فطريقها الإنترنت، لا توجد خيارات كثيرة.
الخيار الوحيد هو أن نصنع أفلاما، ألا نتوقف، روح المغامرة والتحدي تصنع الحدث، كم من مخرجين كبار صنعوا أفلاما خالدة بميزانيات قليلة، وكم من مخرجين شباب أبدعوا بكاميرا بسيطة وميكروفون صغير، المهم أن نواصل.
شلل الثقافة
تركتُ السيد البوعزيزي وفي ذهني أسئلة كثيرة متراكمة؛ هل السينما وحدها تواجه مشاكل، أم أن الثقافة بشكل عام قد أصابها الشلل؟ أثناء وجودي في الجزائر العاصمة خطرت لي فكرة لقاء مع وزيرة الثقافة، ولكن الفكرة تلاشت في مهدها، يبدو أن الموضوع كان من التفاهة بحيث لا يستأهل اهتمام الوزيرة، أو أن الظرف لم يخدم الفكرة، ولكنني سأستمر بعمل الفيلم، لن يكون أول الأعمال التي تنتَج خارج إطار وزارة الثقافة ولا آخرها، يوجد دائما بصيص أمل.
حمودي العجون هو مدير تصوير تلقى تعليمه في فرنسا، واختار أن يكون مركز عمله في العاصمة الجزائر، وربما يكون قد وجد خيط ضياء هنا في هذه النقطة، سألته: كيف يكون تأهيل الفنيين هنا؟
فأجاب: لا يوجد تأهيل، الجواب بسيط وهو صادم حد القهر. لكنه يبتسم متجاوزا الألم ويقول: هنالك طموح لبرامج تأهيل حقيقية، ولكن ليس بالمستوى المطلوب بعد، يجب وضع إستراتيجية مختلفة في مجال التدريب والتأهيل إذا كنا حقا نريد تطوير هذا القطاع.
يؤمن حمودي العجون بالتبادل المعرفي بين الدول، ويقول إن البلغاريين هم أول من علّم الفرق المهنية السينمائية في الجزائر، ويضيف أنه زار بلادا كثيرة، وأن صناعة السينما تكاد تكون واحدة في هذه الدول، وإنما الفارق فقط في اللغة، وبفضل الإنترنت توحدت تقريبا لغة صناعة السينما.
يعلق السيد العجون على جيل الرواد في صناعة السينما فيقول: كان لديهم الشغف والرغبة في السينما لكي تكون وجها ثقافيا للبلاد، بينما يراها المخرجون الجدد على أنها حرفة تحتاج إلى الكثير من التقنيات، يصبح التحدي بينه وبين الآلة ليستخرج منها جل إمكانياتها في إظهار الصورة، الجيل القديم يتعامل أكثر مع الممثلين، يميل إلى تحسين الحواريات، أما الجيل الجديد فيميل إلى أساليب عصرية في العمل تعتمد أكثر على الصورة وتقنيات الظل والضوء.
الممثل.. واجهة الصناعة المُغيّبة
لو طُلب مني أن أختار شعارا للسينما الجزائرية اليوم لقلت “لكل مجتهد نصيب، والله يتولى الجميع”، فنحن نعمل بالقدر المتاح لنا. قد أتفهم خصوصية الجزائر المعقدة، غير أن هذا كان في الماضي الخارج عن نطاق سيطرتنا، ولكن المستقبل بأيدينا، ونحن نصنعه.
يجب أن يكون للممثلين نصيب في تسليط الضوء على هذه الصناعة. التقيت بالممثل خالد بن عيسى الذي قال: صناعة السينما ليست وحدة واحدة في الجزائر، فكل مشروع هو مستقل بذاته، كما أن هناك حالة من عدم التوازن بين عدد الممثلين الكبير جدا والأعمال المعروضة التي تكاد تكون نادرة.
ويتابع: أحاول أن أختار أعمالي، أحاول، وليست دائما تنجح محاولاتي، أحب أن أعمل مع فريق له مشروع حقيقي، ولديه رسالة في السينما يريد أن يقولها لجمهوره، المشكلة الحقيقية التي تواجه الممثلين هو أنهم أُجراء عند المسارح المختلفة، ليست لديهم الاستقلالية والخيار، لا توجد وظيفة الوسيط أو رجل الأعمال، ترى الممثل هو الذي يبحث عن دور له، أيّ دور.
صناعة المستقبل.. التجديف ضد التيار
جئت هنا لأبحث عن دليل يأخذ بيدي إلى الطريق، يبدو أنني أبحث في حطام، هناك طاقات وقدرات في هذه البلاد لشتى المجالات الفنية والإبداعية، ولكن ينقصها هيكلية تنتظم مكوناتها، فالنوايا الحسنة لا تكفي لعمل جيد، والجهود المخلصة المتناثرة لا تنتج عملا مميزا.
عديلة بن ديمراد ممثلة سينمائية ومسرحية، وتمثل في الهواء الطلق، واجهتها بسؤال: هل تجدين أنه من الصعب على الممثل العمل في الجزائر؟
أجابت دون تردد: نعم. ثم ما لبثت أن قالت: لا، ضحكتْ بعفوية واستطردت: نعم ولا، في الحقيقة الجواب معقد، لي أصدقاء في كل أنحاء العالم، وكل واحد منهم له مشاكله الخاصة، كلٌّ يجب أن يواجه مجتمعه وتعقيداته، المطلوب من الممثل أن يبقى يقظا على الدوام حذرا فيما يقول، أما عن المستقبل فأشخاص الحاضر هم من يصنعون المستقبل، فيجب علينا أن نعمل ونعمل، يجب أن نتقن ما نعمل اليوم حتى يكون المستقبل مشرقا.
أعترف أن عملية التفاوض مع الحاضر صعبة، وأن كل المعطيات تدعوني للاستقالة المبكرة، ولكنني ما زلت مصرا على امتطاء صهوة الكاميرا، والإمساك بلجام الميكروفون حتى أخرج أفلاما للمستقبل، لا أريد أن أحلم كيف سيكون المستقبل، فقط أحاول أن أصنعه الآن.