فكر قبل أن تنفق.. ما الذي يتحكم بنا عند الإنفاق؟

تدخل الجزيرة الوثائقية عالَم الأموال عبر سلسلة وثائقية من ست حلقات بعنوان “فكّر قبل أن تنفق”، وتتناول السلسلة بعض الأفكار ووجهات النظر إزاء تعامل البشر مع المال سواء أكانوا أطفالا أم بالغين، والطرق المثلى في الإنفاق والاستهلاك، وإذا ما كان بإمكاننا التعامل مع المعاني السامية على أنها سلع تشترى بالمال كالحب والسعادة وغيرهما. كما تشرح السلسلة لنا ما الذي يحكم سلوكنا مع المال، وبعض الحيل البسيطة التي يمكن أن نستخدمها جميعا لاتخاذ قرارات أفضل بشأن الأموال التي نحصل عليها بعد شقاء. وفي الحلقة الأولى من السلسلة بعنوان “كم دخلك؟” نتناول العناصر والعوامل التي تتحكم بنا عند إنفاق المال.

حسن العدم

يطرح مقدم السلسلة “نايجل لاتا” فكرة أن الدماغ البشري خُلق قبل خمسين ألف سنة، وأن المال تم التعامل معه قبل ثلاثة آلاف سنة فقط. ولأن أدمغتنا غير قابلة للتحديث مثل الحاسوب أو الهاتف الجوال، فإنها لا تستطيع التعامل مع مفهوم المال الحديث نسبيا.

ولدى طرح سؤال: كيف يفكر الناس بالنسبة للمال؟
كانت هناك إجابات مثل: يتصرف الناس بشكل غريب نوعا ما حين يتعلق الأمر بالمال، فهم يخشون الإساءة إلى من قد لا يملكه، وهم في نفس الوقت يخشون أن يقعوا في تحدٍ مع من يملكه. إن المال يمثل آخر الأمور التي لا يمكن مناقشتها مع الآخرين.

كم دخلك؟

قد يبدو سؤالا غريبا للغاية حين تسأل أحدهم: كم يبلغ دخلك؟ فيصيبه التوتر والريبة تجاه من يسأل هذا السؤال، ويرى أن أفضل إجابة هي لزوم الصمت خشية أن يقولوا عنه “فقيرا” إذا كان دخله متدنيا، أو “غنيا” إذا كان دخله مرتفعا.

غالبا ما يكون التعامل مع المال صعبا ومملا ومتعبا؛ لأننا لا نعرف تماما ما ينبغي علينا أن نقوم به، وذلك على عكس قيادتنا للسيارة مثلا، فأنت تسوق بكامل حريتك وتشعر أنك مسيطر على الأمور تماما، ومع كامل الحرية أنت ملتزم باللوائح والقوانين، ومستعدٌ لدفع الثمن إذا قمت بأية مخالفة لقواعد وأنظمة المرور. أما مع المال فلا شيء يلزمنا أن نقوم بأي تصرف، نعم ينبغي أن ندفع الضرائب مثلا، ولكننا أحرار في كيفية التسديد، فليست هناك طريقة واحدة للتصرف.

أدمغتنا لا تستطيع التعامل مع مفهوم المال الحديث نسبيا
أدمغتنا لا تستطيع التعامل مع مفهوم المال الحديث نسبيا

العاطفة تتحكم

سألْنا “تود” وهو محاسب ممتاز: هل أنت جيد في التعامل مع المال؟
وكانت إجابته: فيما يتعلق بالعمل أنا أجيد التصرف مع أموال الزبائن، وأشرح لهم بعقلانية تامة ما ينبغي عليهم عمله، أما فيما يتعلق بحياتي الشخصية، فالحقيقة أنني لا أجيد التعامل مع أموالي الخاصة، لأن عنصر العاطفة والمشاعر يتدخل في هذه الحالة، مع أنني أعلم تماما ما ينبغي عليّ القيام به، وهو ألا أنفق أكثر مما أكسب، وألا أشتري ما لا يلزم، وألا أستخدم البطاقة الائتمانية.. ولكنني لا أستطيع أن أتحكم بكل هذا.

للتأكيد على تدخل العاطفة عند التعامل مع المال قام “نايجل” بهذه التجربة؛ فقد ألقى محفظته على الأرض في أماكن عامة كالشوارع والساحات وكأنها سقطت منه سهوا وانتظر رد فعل المارة. والغريب أنه في جميع المرات عادت له محفظته كاملة غير منقوصة.

ثم أعاد التجربة في أماكن نائية وبعيدة عن أعين الناس، حيث ألقى ست محافظ في كل واحدة منها مبلغا من المال وبطاقات ائتمان وأرقام هواتف، وكم كانت دهشته عندما تم الاتصال به من ستة أشخاص مختلفين، وعادت له جميع محافظه.

إن منطق العقل يقول إن هذا المال حصلتُ عليه دون اعتداء أو غصب فلماذا لا أستمتع به؟ أما منطق العاطفة فيقول، كم هو بائس ذلك الشخص الذي أضاع هذا المال، يجب أن أعيده إليه.

العاطفة تتدخل عند التعامل مع المال
العاطفة تتدخل عند التعامل مع المال

الضوابط المجتمعية تتحكم

تجربة أخرى تريكم أن ردود أفعالنا غير عقلانية تماما حين يتعلق الأمر بالمال، فعندما يدعوك أحد الأصدقاء لتناول طعام العشاء بمنزله، فمن اللائق أن تحمل معك هدية مناسبة لطبيعة الدعوة. هب أنك تريد أن تشتري باقة وردٍ بـ27 دولارا ونصف الدولار وتبين لك لاحقا أنك متأخر عن الموعد، أو أنك لم تمر بمحل الزهور في طريقك.. المهم أنك وصلت دون شراء هدية، وعندما يفتح صديقك الباب لك للدخول قمتَ بالاعتذار عن إحضار الهدية، وبدلا من ذلك أخرجت النقود من جيبك وبدأت تعدها في يده بدل الهدية، تُرى ماذا سيكون رد فعله؟

لا ريب أنه سيكون مستغربا ومندهشا ومتعجبا وكل مفردات الدهشة لا تكفي لرسم تعابير وجهه وأنت تعطيه نصف الدولار الأخير، مع أن الأمر يبدو عقلانيا من الناحية الاقتصادية، وقد تكون النقود أحسن له في حالة ما، ولكن الضوابط المجتمعية غير المكتوبة تقول: إن هذا تصرف لا يليق.

ماذا لو دخلت بقالة ووجدت مندوب مبيعات يروج لمادة غذائية وقد عرض عينات مجانية منها، ماذا لو وقفت بجانبه وتناولت وجبة مجانية مما يعرض؟ من حيث العقل أنت لم تفعل منكرا، ولكنه سلوك اجتماعي خاطئ، فالضوابط غير المكتوبة أيضا تُحتم عليك أن تأخذ عينة واحدةً فقط.

مقدم سلسلة فكر قبل أن تنفق "نايجل لاتا"
مقدم سلسلة فكر قبل أن تنفق “نايجل لاتا”

المشاعر تتحكم

قام “نايجل” بتجربة أخرى ترينا كيف تكون ردود أفعال الناس غريبة حين يتعلق الأمر بالمال. وذلك أن شخصين في غرفتين منفصلتين لا يرى أحدهما الآخر وتفصل بينهما نافذة صغيرة لتبادل الأشياء، تُعطي أحدهما مبلغا ماليا متفقا عليه ومعروفا للطرف الآخر، وتطلب منه أن يقتسمه مع جاره عبر النافذة، فإن قبل الطرف الآخر المبلغ فقد فزتما بالمال معا، وإذا لم يقبل خسرتما معاً.

وكانت النتيجة أن حصول الطرف الآخر على أقل من 70% من نصف المبلغ جعله يرفض المال ويُجبر خصمه على الخسارة حتى لو خسر هو أيضا. ورأى نايجل كذلك أن نسبة لا بأس بها من الناس تعطي أكثر من نصف المبلغ للطرف الآخر على فرض أنه يمكن أن يكون محتاجا أكثر للمال.

وعند دفع الفواتير لقاء عمل ما تجد أيضا أن العاطفة تحكمنا، فمثلا عندما ندفع مالا كثيرا قد نبرر لأنفسنا أن المهمة كانت صعبة واستغرقت وقتا طويلا لإنجازها وبالتالي يستحق الحرفي هذا المبلغ، وندفعه ونحن راضون. ولكن عندما نعلم أن العامل كان يماطل في الوقت وكان يمكنه أن ينجز المهمة بأقل من ذلك بكثير فسنحزن لدفع ذلك المبلغ الكبير ونظن أننا كنا مغبونين.

غالبا ما يكون التعامل مع المال صعبا ومملا ومتعبا
غالبا ما يكون التعامل مع المال صعبا ومملا ومتعبا

 

أنماط السلوك تتحكم

هناك ظاهرة محيرة في التعامل مع المال، وهي المماطلة في دفع الفواتير والالتزامات المالية، وهذا غالبا ما يؤدي إلى تراكم المبالغ والإرهاق المالي، مع أن أكثر هؤلاء الأشخاص المماطلين يستطيعون التغلب على المشكلة من أساسها والالتزام بالدفع حين الاستحقاق.

والتجربة التي قام بها “نايجل” مع إحدى المماطِلات أنه قام -وبمساعدة فريقه- على دفعها للقيام بجميع التزاماتها عن طريق تحفيزها بتوفير وسائل الدفع لها وهي في بيتها. والعبرة المتوخاة هي أن يتعلم المماطلون كم هو جميل ذلك الشعور عندما تسدد التزاماتك المالية في وقتها، وتتجنب الغرامات جراء المماطلة.

في نهاية هذه الحلقة، يتعين علينا أن نوازن بين العقل والمشاعر والعواطف حين نتعامل مع المال تماما مثلما نتعامل مع أية مرافق أخرى في حياتنا. يجب أن تتغلب طبيعتنا البشرية بشقيها الروحي والمادي على الطبيعة المادية البحتة للمال، يجب أن نفهم طبيعة أنفسنا، ونُقيِّم علاقاتنا البشرية والمجتمعية بعيدا عن أسواق الأسهم والسندات والرهن العقاري وأسعار العملات.


إعلان