“مدينة الخيام بأريزونا”.. سجن من مخلفات الجيش الأمريكي بالحرب الكورية

عبر أربع قارات وستة سجون مختلفة؛ تفتح الجزيرة الوثائقية ملف “أعتى السجون في العالم”، فتذهب إلى ما وراء البوابات والجدران وقضبان النوافذ، إلى عالم مجهول نعلم بوجوده لكننا لا نريد التفكير فيه، إنها من أقسى السجون في العالم، حتى إن زعماء العصابات والقتلة يجربون فيها معنى الخوف. تدخل كل حلقة من حلقات السلسلة إلى عالم السجناء، ترصد حياة القدامى منهم والجدد الذين يقضون ليلتهم الأولى في الزنزانة، والأمهات اللواتي يتعين عليهن تربية أطفالهن خلف القضبان، والمجرمين الذين ينتظرون مصيرهم. وفي هذه الحلقة من السلسلة نتناول سجن “مدينة الخيام” في ولاية أريزونا الأمريكية
حسن العدم
في قلب صحراء “سونورا” الحارقة يوجد أكبر مجمع جزائي في ولاية أريزونا الأمريكية، تلك الولاية التي يُعرف فيها النظام القضائي بأنه الأكثر دقة وصرامة على مستوى الولايات جميعها، فأي تجاوز للقانون في الولاية مهما كان صغيرا، كفيل بأن يلقي المتهم خلف القضبان.
هناك 12 ألف سجين يتوزعون على ستة سجون كبيرة داخل سياج واحد، وأقسى هذه السجون هو ما يسمى مدينة الخيام (Tent City).
وضمن سلسلة “أعتى سجون العالم”؛ عرضت الجزيرة الوثائقية فيلما عن يوميات هذا السجن القاسي، في حلقة بعنوان “تنت سيتي – أريزونا”، هناك في صحراء أريزونا حيث ترتفع درجة الحرارة إلى 60 درجة مئوية في أيام القيظ اللاهب، وقد تنخفض إلى أدنى من 8 درجات تحت الصفر في ليالي البرد القارس.
غرد خارج السرب.. وستعاقب!
يخضع نزلاء هذا السجن من الجنسين لأعتى درجات القسوة وأعلى درجات الانضباط، لا يوجد أدنى مستوى من التساهل أو التسامح لدى الحراس القائمين على هذا السجن، أي تغريدة خارج السرب، وأية حركة خارج إطار النسق المرسوم، قد تجر إلى صاحبها عاقبة وخيمة وعقابا صارما.
وعلى جميع السجناء أن يتصرفوا كجسدٍ واحد، لا مجال لأية نغمة نشاز في هذه الأوركسترا.
كل أنشطة النزلاء، بدءا من الاستيقاظ في الرابعة صباحا، ومرورا بطوابير التفتيش الدقيق، إلى التوجه إلى الأعمال القاسية والمُذلّة أحيانا في خدمة المجتمع المحلي، ثم العودة في آخر النهار، وما يتخلل ذلك من وجبات الطعام رديئة المذاق، وارتداء الأزياء الموحدة؛ كل تلك عناوين لكتاب واحد “القسوة والذل تجعلك تفكر ألف مرة قبل مخالفة القانون”.

أثاث من بقايا الحرب.. مسؤول سادي
عندما تدخل سجن مدينة الخيام، فأنت في ضيافة أعتى مسؤول سجن عرفته الولايات المتحدة “جو آربايو”، ستتذكر هذا الاسم جيدا، فقد ترك بصماته الغائرة على كل شيء في “سجن تنت سيتي”، بدءا من تصميم السجن ذاته، وحتى ألوان الملابس الداخلية للرجال.
يقول “آربايو”: صممته ليكون قاسيا، لا يهمني أن يقال عني بأنني أقسى رجل شرطة في الولايات المتحدة، ولكنني أخشى أن يقال ألطف سجان في البلاد. لدرجة أن بعض هيئات حقوق الإنسان والإعلاميين يصفونه بأنه ذو نزعة سادية.
كانت الميزانية المرصودة لبناء سجن جديد في المجمع الجزائي تبلغ 80 مليون دولار، ولكن “آربايو” كان له رأي آخر: لماذا لا نستخدم مخلفات الجيش الأمريكي في الحرب الكورية؟
“هنالك خيام وقضبان فولاذية وأسلاك شائكة وأسرَّة حديدية صدئة، ستكون فكرة رائعة إذا خفضنا المبلغ المطلوب إلى 150 ألف دولار فقط”. وهكذا كان، وتم تنفيذ هذا المشروع الجريء عام 1993.

ملابس وردية وظروف سوداء
تسع كل خيمة 22 سريرا، وبسعة كلية للسجن تصل إلى 2000 نزيل، وعندما سُئل “آربايو” عن استخدام الخيام في هذا الجو اللاهب، كان رده الجاهز: هؤلاء المذنبون ليسوا أحسن من جنود أمريكا الذين يدافعون عن ترابها ومواطنيها في أسوأ من هذه الظروف.
وعن استخدام الملابس الوردية للرجال يقول آربايو: إن الرجال لا يحبون اللون الوردي، ولماذا نعطيهم ما يحبون؟
ويضيف: ثم إن هذا اللون يمكن تمييزه عندما يقومون بتهريب بعض الأشياء خارج السجن من أجل بيعها. وقد كان تهكم كثير من السجناء باديا على اختيار هذا اللون، ولكن الصرامة في هذا السجن لم تترك لهم مجالا للاختيار، فمن المناشف إلى الملابس الداخلية وحتى الجوارب، كلها ذات لون واحد، للرجال والنساء على حد سواء.
الحفرة المريعة في انتظار المخالفين
“فريدي” السجين ذو الـ21 عاما متهم ببيع وتعاطي المخدرات، يستيقظ في الرابعة صباحا مثل باقي النزلاء، ولأنه سريع في الاستحمام فإنه يحصل على ساعة إضافية للنوم في ردهة الانتظار المكيفة داخل مبنى إدارة السجن، في انتظار توزيعهم على الأعمال الصباحية.
يقول فريدي إنه يفضل العمل طوال اليوم والليلة على المبيت في الخيمة الحارقة، “لا أستطيع النوم مطلقا، حتى في الليل درجة الحرارة تفوق الـ30 درجة مئوية”.
يتم ربط السجناء اثنين اثنين في الأصفاد، هذا أحدهم لا تعجبه مشية زميله البطيئة فيجره بالأصفاد المشتركة بينهما، ويصرخ صاحبه من شدة الألم في رسغه نتيجة الشد.
فورا يتدخل الحراس ويفكون الاشتباك، لا يخطرْ ببالك أن الأمر قد انتهى، لا، فلن تمر أي هفوة مهما كانت صغيرة دون عقاب صارم، وها هو المُتسبب المسكين يذهب إلى الزنزانة الانفرادية (الحفرة المريعة) ليُعزل فيها مدة ثلاثين يوما كاملا بواقع 23 ساعة يوميا. لا مجال للخطأ أو التجاوز إطلاقا.

فرقة السلاسل.. تذكير بيوميات العبودية
“تحيا فرقة السلاسل” تهتف “كايتي” وزميلاتها وهنَّ مقيدات بالسلاسل في أيديهن وأرجلهن، كل أربع فتيات مقيدات بسلسلة واحدة، أثناء توجههن للعمل على تنظيف الساحات والشوارع في الحي السكني المجاور. الأمر في غاية الصعوبة والمهانة حين تضطر للعمل مقيدا ومرتديا ملابس السجن، أمام أعين المارة والناظرين، ويزداد الأمر إذلالا عندما يكون هذا الحي السكني هو الحي الذي ترعرعت فيه، حيث يعرفك الناس الذين يشاهدونك الآن، لا غرابة إذن إذا ما علمنا أن “كايتي” تغدو وتروح باكية حزينة فهي من سكان هذا الحي أصلا.
وتتذمر “جينيفر” المواطنة الألمانية المسجونة هنا بتهم تتعلق بالمخدرات، من قسوة التعامل مع السجينات، وخصوصا فيما يتعلق باستخدام المرحاض العمومي المتحرك.
تقول جينيفر وهي تتعرق بشدة في هذا اليوم الذي جاوزت فيه درجة الحرارة 43 درجة مئوية: إنهم يطلبون منا أن نشرب ما يعادل ثلاثة ليترات من الماء في الليلة السابقة، ثم يسمحون لنا باستخدام المرحاض المتنقل مرة واحدة في اليوم، إنه أمر لا يطاق، إنهم يتفاخرون بمعاملتنا بهذه القسوة، هذا ما لم أتخيل أن أمر به في حياتي.
التفتيش المفاجئ.. إلى حافة الجنون
الإزعاج المستمر هو جزء من منهجية “آربايو” في العقاب، فهو لا يكتفي بالحر اللاهب، والأسرَّة التي تكاد تشوي الأجساد الملقاة عليها دون حراك، ولكنه يفاجئهم بين الحين والآخر بجولات تفتيشية يقوم بها فريق الاستجابة الخاصة (SRT)، كأنهم يتجهزون لمعركة؛ الأقنعة والملابس الخاصة، قاذفات رذاذ الفلفل والصواعق الكهربائية، والمطلوب هو شَلُّ حركة السجين الذي يحاول القيام بأي تصرف خارج السياق.
“هيا تحركوا، تحركو بسرعة، اتركوا كل شيء مكانه وتوجهوا إلى السياج، قفوا هناك ووجوهكم إلى السياج، إياكم أن تأتوا بأي رد فعل غير مدروس، أنتم تعلمون العاقبة جيدا”، وتبدأ موجة التفتيش المفاجئ الدقيق، فريق يفتش السجناء بشكل دقيق، وآخر يعيث فسادا بالأسرَّة والممتلكات الشخصية لكل سجين، لا يتركون شيئا دون تفتيش، ولا يتساهلون في أي شيء يجدونه، صغيرا كان أم كبيرا، لا توجد هناك أدنى خصوصية، كل شيء مستباح.
يبحثون عن الأسلحة البدائية يدوية الصنع، خشية أن يستخدمها السجناء في إيذاء أنفسهم أو زملائهم، ويبحثون كذلك عن السجائر أو المخدرات، فتلك من كبائر التجاوزات، أما مصير من يوجد عنده ما يريب فهو “الحفرة” أو الزنزانة الانفرادية، حيث العزلة التامة عن العالم الخارجي 23 ساعة في اليوم، ذلك المكان الذي يجمع كل من زاره على وصفه بـ”حافة الجنون”.
كانت حصيلة التفتيش متواضعة هذا اليوم، مجموعة أقلام رصاص، وشريط أدوية من الأسبرين. الأقلام لا تعد أسلحة حتى الآن، وأما شريط الأدوية فقصة أخرى، سيواجه صاحبه مصيره المحتوم في “الحفرة”، هذا الدواء ممنوع حتى لو كان بسيطا وعاديا، فمجرد اقتنائه دون إذن هو مخالفة تستحق العقاب، ولكن هذه المرة كان الحراس رحماء به، كان العقاب أخف من الحفرة وهو “تقنين الزيارات”.
الإزعاج التالي هو حلاقة الذقن، إنهم يأمرونهم بالحلاقة مرتين على الأقل يوميا، وعليهم في كل مرة أن يعيدوا الموسى المستعملة إلى الحراس، والعقاب الشديد يكون في انتظار كل من يتخلف عن الحلاقة أو يتخلف عن إعادة الموسى المستعملة.

الطعام الرديء.. يتجرعه ولا يكاد يسيغه
حان الآن وقت العشاء، قد يكون السجناء في بعض الأماكن الأخرى ينتظرون هذه الوجبة بشغف، ولكن ليس في مدينة الخيام، يُجمِع كل السجناء الذين قابلناهم على أن هذا شيء مقرف، يصفونه بطعام الكلاب أو الخنازير، وجبة كل ليلة، لا تتغير، للرجال والنساء على حد سواء.
تتكون الوجبة من البطاطس المهروسة ولفائف العجين وفول الصويا المجروش وبعض الخضار. وفي النهاية يتجرعونه ولا يكادون يسيغونه، لا توجد بدائل، عليهم أن يرضوا بالمتاح، وبينما يعانون في تناول وجباتهم تبث الشاشة المثبتة أمامهم قناة طبخ عالمي بمذاق شهي.
وهنا يظهر “جو آربايو” مرة أخرى: ماذا عساي أن أطعمهم، الطبق الصيني في أسبوع، ثم طبقا إيطاليا في الأسبوع الثاني، هل يظنون أنفسهم في فندق، إذا لم يعجبهم الطعام فلماذا يأتون إلى هنا؟
ابتداء من الغد سوف أختصر الزبد من الطبق وأوفر 100 ألف دولار أخرى، فليذهبوا إلى الجحيم.
في “سجن تنت سيتي” لا يُترك شيء للظروف، كل شيء يسير مثل عقارب الساعة، والرتابة جزء من العقاب، أي تصرف خارج المألوف يتم التحقيق فيه بعناية، قد يكون الذي ارتكب هذه الحماقة مريض وبحاجة لزيارة المصحة النفسية، أما إذا لم يكن كذلك فمصيره حتما إلى الحفرة، المهم أنه متى ارتكب ما يخالف نسق الخيام فإنه لا يعود إليها هكذا ببساطة.

حلم الخروج.. هل سأدرك أبي حيا؟
ما زالت “جينيفر” مصدومة مما تلاقي في هذا السجن القاسي كل ليلة، ما يواسيها أن لها صديقات حميمات مثل “كايتي”، في الحقيقة أن الإناث يتدبرن أمورهن ويتكيفن مع الظروف ويتشاركن المعاناة بشكل أحسن من الرجال.
“جينيفر” تحلم بيوم تعود فيه إلى والديها، لقد بلغا الثمانين من العمر وتخشى ألا تراهما مرة أخرى، أما “كايتي” فهي تخطط لإكمال دراستها الجامعية، والتخلي عن كل ما يسيء لحياتها المستقبلية.
وكذلك “فريدي” فإنه غير متأكد من موعد عودته القادمة لهذا السجن الرهيب، هذه عاشر مرة يدخل فيها السجن ولا يظن أنه سيتوب عن تعاطي المخدرات والعودة إلى عصابات العنف.
وحده “جو آربايو”، هو الشخص الوحيد الذي يتأكد تماما أن لديه زوارا جددا يوم الاثنين من كل أسبوع، وهو متأكد أيضا أن عنده من الأسرَّة الحديدية الصدئة ما يكفي لاستيعابهم.