“سجن أنتانيمورا بمدغشقر”.. يوم يقول المرء: يا ليتني كنت جرذا

عبر أربع قارات وستة سجون مختلفة؛ تفتح الجزيرة الوثائقية ملف “أعتى السجون في العالم”، فتذهب إلى ما وراء البوابات والجدران وقضبان النوافذ، إلى عالم مجهول نعلم بوجوده لكننا لا نريد التفكير فيه، إنها من أقسى السجون في العالم، حتى إن زعماء العصابات والقتلة يجربون فيها معنى الخوف. تدخل كل حلقة من حلقات السلسلة إلى عالم السجناء، ترصد حياة القدامى منهم والجدد الذين يقضون ليلتهم الأولى في الزنزانة، والأمهات اللواتي يتعين عليهن تربية أطفالهن خلف القضبان، والمجرمين الذين ينتظرون مصيرهم. وهذه الحلقة من السلسلة تتناول سجن  “أنتانيمورا” بمدغشقر. 

 

حسن العدم

أن تنتزع من شخص حريته لمدة محدودة لقاء جرم اقترفه قد يبدو أمرا منطقيا ومبررا، شرط أن يكون ذلك بموجب قانون، أو عقد اجتماعي تعارف عليه أهل ذلك المجتمع، أما أن تنتزع منه آدميته وكرامته، فذلك ما لا يرضاه آدمي سويّ، ولا تقرّه شريعة سماوية أو أرضية، ولا حتى قانون الإنسان البدائي.

تعارف الناس منذ قديم الزمان على عقاب بعض المجرمين بحبسهم فترات معينة بحسب جرائمهم، وشُيّدت من أجل ذلك السجون حول العالم.

ومع تقدم الوقت وتَحَضُّر الإنسان؛ ازداد اهتمامه بالسجون لجعْلها أكثر ملاءمة لآدمية الإنسان، وصارت الدول المتقدمة تتباهى بأنظمة سجونها، ومدى توفير الرفاهية للمسجون، فضلا عن حاجاته الأساسية. إلا أننا في القرن الحادي والعشرين ما زلنا بعض السجون في أنحاء العالم تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الآدمية، بل إنها لا ترقى لأن تكون زرائب للحيوانات.

وقد عرضت الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “أعتى سجون العالم حلقة بعنوان “سجن أنتانيمورا.. مدغشقر”، قامت فيه الكاميرا بزيارة سجن أنتانيمورا الرهيب، في أنتاناناريفو عاصمة مدغشقر.

 

“حقوق الإنسان معدومة هنا”.. وشهد شاهد من أهلها

تصنف جزيرة مدغشقر في أقصى شرق أفريقيا بأنها من أفقر الدول في العالم وأقلها نموا، حيث يبلغ معد دخل الفرد الشهري حوالي 33 دولارا، ويتزايد معدل الجريمة فيها باضطراد، ويتدنى فيها مستوى الرعاية الصحية إلى درجة أن بعض الأمراض التي اختفت من العالم كليا كالطاعون (الموت الأسود)، ما زالت تفتك بالبشر فيها، ناهيك عن الأمراض والأوبئة الأخرى كالملاريا.

“مورا راكوتو” مشرف السجن والضابط المناوب هذا الأسبوع، يقول عن السجن: إنه أسوأ ظرف يمكن أن يعيشه إنسان، أنا أعترف أن الحياة لا تطاق هنا، حقوق الإنسان معدومة تماما هنا، ولكن ماذا عساي أن أفعل؟ الطعام غير كافٍ، والظروف الصحية سيئة للغاية، يوجد طبيب واحد لثلاثة آلاف سجين، لا توجد أدوية، الدولة لا تعطينا أدوية ولا حتى إسعافات أولية، إلا ما تتبرع به بعض الجمعيات.

على حافة الجنون.. حياة للحشرات

“هيا استديروا” يصرخ حارس السجن في 150 سجينا يستلقون بملاصقة بعضهم البعض، على الأرض المجردة من أي فراش أو ساتر، لك أن تتخيل 150 جسدا بشريا متلاصقا، في مساحة ضيقة صممت لثلاثين فردا فقط، وفي درجة حرارة تزيد على الثلاثين مئوية، هؤلاء لا يسمح لهم بالاستدارة إلا بأمر، ولا ينامون أو يستيقظون إلا بأمر، ويقضون 12 ساعة على هذا الوضع، حتى يسمح لهم بمغادرة هذا الجحيم في الساعة الخامسة صباح كل يوم.

وحين يسمعون صافرة الحراس، ينطلقون بسرعة كأنما خرجوا من جهنم، ولكن أملهم يخيب عندما يكتشفون أنهم خرجوا إلى جحيم أشد بطشا وهلعا، فرؤية المراحيض من بعيد تشعرهم بالغثيان، وكلما اقتربوا لقضاء حاجاتهم الفطرية، فإن الروائح المقززة تذهب بعقولهم وتتركهم على حافة الجنون، أما إذا أخذوا أماكنهم في تلك المكاره الصحية، فإن مناظر الجرذان والصراصير بأنواعها، والحشرات والطفيليات تجعل الواحد منهم يتقيأ.

هناك 150 جسدا بشريا متلاصقا في سجن أنتانيمورا بمدغشقر ، وفي مساحة ضيقة صممت لثلاثين فردا فقط
هناك 150 جسدا بشريا متلاصقا في سجن أنتانيمورا بمدغشقر ، وفي مساحة ضيقة صممت لثلاثين فردا فقط

 

سنوات الانتظار.. أعمار تضيع هباء

“ريكاردو” سجين جديد يصل اليوم صباحا إلى سجن الرعب بتهمة السرقة، يقف في طابور من عشرات السجناء أمثاله، وتسري عليهم نفس إجراءات الدخول إلى الجحيم، من التسجيل اليدوي في الملفات القديمة المهترئة، إلى التفتيش الدقيق لكل جزء من جسده وملابسه، واحتجاز كل ما يمكن أن يستخدمه لإيذاء نفسه أو أحد النزلاء الآخرين، ثم يقتاده أحد حراس السجن ويلقي به في أحد العنابر الجماعية، حيث القيمة الآدمية منعدمة.

يقبع في هذا السجن المرعب أكثر من ثلاثة آلاف سجين، بينما كان مصمما في الأصل ليستوعب 900 سجين فقط.

تقول سجلات الصليب الأحمر الدولي إن أكثر من 50% من السجناء لم يحاكَموا بعد، وهم ينتظرون الدور ليحين موعد محاكمتهم، قد ينتظرون طويلا جدا قبل أن يأتي ذلك اليوم، ربما خمس سنوات كاملة.

“لا أريد أن يحدث هذا لي”.. موعد مع الاغتصاب

الخامسة مساء، موعد الطابور للدخول إلى الزنازين مرة ثانية، إنه الدخول إلى الجحيم، موعد آخر مع الاغتصاب، الرجال هنا يغتصبون الرجال لكثرة الزحام والالتصاق.

“لا أريد أن يحدث هذا لي” يصرخ أحد المساجين وهو يقف على رؤوس أصابعه لكثرة الزحام. بينما يكشف آخر عن بطنه وظهره ليرينا البثور والفطريات والتقرحات البادية على جلده، إنها أمراض ليس لها وجود في فهرس الأمراض التي يعرفها البشر، وهذا الجلد مستودع للأسقام التي ستنتقل بفعل التلاصق إلى أجساد الآخرين.

أما “ريزا رابانويل” فهو قصة أخرى من قصص المعاناة في هذا الجحيم، لكنه لن يضطر للنوم على الأرض، فقد استأجر مكانا مرتفعا من سجين آخر مقابل عشرة دولارات في الأسبوع. “رابانويل” رجل في الثالثة والأربعين من العمر، مسجون بتهمة الاختلاس، وينتظر الحكم الذي لم يصدر بعد، وقد وكَّل زوجته بمتابعة الأمور مع محاميه في الخارج. ولكنه مثل باقي السجناء مضطر لاستخدام المرحاض الجماعي في الزنزانة.

“يا للهول؛ يا لكل المفردات المفزعة والمقرفة” يصرخ ريزا وهو يصف معاناته مع القمل والبراغيث وكل أنواع الحشرات التي تغزو كل خيط في ملابسه.

الجرذان في هذا السجن تزاحم المسجونين في كل تفاصيل يومهم الكئيب
الجرذان في هذا السجن تزاحم المسجونين في كل تفاصيل يومهم الكئيب

 

رُبّ سيارة أجرة توصلك إلى الجحيم

تستمر قصص المعذبين في هذه المقبرة الجماعية؛ هذا “برنار فينيه” وهو مواطن فرنسي يعمل في مدغشقر منذ سنوات، وقد قادته مشاجرة مع سائق سيارة أجرة إلى هذا السجن.

يحكي “برنار فينيه” عن معاناة “الاستحمام” هنا، حيث يضطرون لشراء ماء الاستحمام.

يقول: هل تعتقدون أنه مُفلتر أو نقي؟

كلا كلا، إنه مخلوط بالبول، إنه قذر، ماذا عساي أن أفعل؟

يتابع: “أريد أن أزيل هذه الحشرات والطفيليات اللعينة عن جسدي بأي شيء، النظافة والمعايير الصحية منعدمة تماما هنا”.

“برنار” محظوظ أكثر من غيره في الحصول على مياه معبأة للشرب، فعائلته تجلب له قارورتين كل يوم، أما باقي السجناء فمياه الصنبور المليئة بالشوائب والجراثيم تسد عطشهم.

مزاحمة الجرذان في أرزاقها

الجرذان في هذا السجن قصة أخرى من قصص المعاناة، إنها تزاحم المسجونين في كل تفاصيل يومهم الكئيب، تنتشر في كل مكان وتتجول في وضح النهار، أكوام القمامة المتعفنة وقنوات الصرف المكشوفة هي أمكنتها المفضلة، جثثها الميتة المتعفنة تملأ جنبات السجن، وهي مرتع خصب للبكتيريا الضارة والديدان المقززة.

مؤخرا حاولت مجموعة متطوعة من الصليب الأحمر نصب مصايد في السجن لاصطيادها، جهودهم أثمرت بشكل متواضع، لقد اصطادوا 80 جرذا في ليلة واحدة، ولكن ما زال هنالك الآلاف منها.

أتعلمون لماذا ينصب المتطوعون فخاخهم ليلا؟

الطُعْم الذي بداخلها كان يغري بعض السجناء ليتناولوه، حتى يعوضوا بعضا من نقص الفيتامينات والبروتينات التي يحتاجونها.

 السجين يغوص في أوحال البول والفضلات البشرية في هذا السجن
السجين يغوص في أوحال البول والفضلات البشرية في هذا السجن

 

حفرة الجحيم.. إلى الدرك الأسفل من السجن

حفرة الجحيم المشينة هي غرفة العقاب في السجن، فهناك يغوص السجين في أوحال البول والفضلات البشرية، في الحجرة التي لا تزيد عن مترين مربعين، حيث لا ضوء ولا هواء، يُرمى بها السجين من فتحة في الأعلى، كأنه يلقى إلى الدرك الأسفل من الجحيم.

يعاقب بهذه الحفرة كل من يتجاوز اللوائح والتعليمات في السجن كاصطحاب الهاتف المحمول، أو تعاطي المخدرات، أو التشاجر مع سجين آخر، أو التطاول على حراس السجن، وهي تعتبر السلاح الأقوى بيد الضابط المناوب “مورا راكوتو”، ولكنه لا يخفي قلقه من التهديدات التي يسمعها من السجناء، فهم يهددونه بالقتل حين خروجهم، وهو يأخذ ذلك على محمل الجد.

فبشرناها بغلام.. نفاس في السجن

هناك قسم للنساء مع أطفالهنّ، لا يقل قسوةً وبؤسا عن سجن الرجال، أسوأ ما في الأمر هو وجود الأطفال، وما يتعرضون له من سوء التغذية والإصابة بمختلف الأمراض.

لا توجد خصوصية ولا معايير صحية في مكان ضيّق تتزاحم فيه 250 امرأة، بعضهن حوامل، وأخريات وضعن مواليدهن في السجن.

توجد ميزة واحدةٌ تفرق النساء عن الرجال، وهي أنهن يشترين بعض الطعام ويتشاركن في طبخه، فهن متعاونات أكثر من الرجال. أما طعام الرجال فجذور “المانيهوت” أو “الكاسافا” وهي من الدرنيات النشوية، يسلقونها بالماء لساعات طويلة دون أي إضافات، فلا ملح ولا بهارات ولا أي شيء، يتجرعونها ولا يكادون يسيغونها، ولكنهم جياع، فصراخ الأمعاء الخاوية يعلو على كل صوت.

هذا طعام كل يوم، وجبة واحدة ولا شيء غيرها بتاتا، وبعد هذا فليس غريبا أن يكون سوء التغذية هو السبب الرئيسي للموت في مستودع الموت هذا.

في سجن أنتانيمورا بمدغشقر لا توجد خصوصية ولا معايير صحية في مكان ضيّق تتزاحم فيه 250 امرأة
في سجن أنتانيمورا بمدغشقر لا توجد خصوصية ولا معايير صحية في مكان ضيّق تتزاحم فيه 250 امرأة

 

يوم الزيارة.. رائحة العالم الخارجي

في يوم الزيارة تصطف طوابير من الأهل والأقارب لساعات طويلة على باب السجن، يريدون أن يروا أحبابهم وأصدقاءهم من المسجونين، وعلى الجانب الآخر ينتظر “ريزا” زوجته بفارغ الصبر لتنقل له آخر أخبار المحاكمة.

حينما تلتقي الوجوه عبر النافذة الحديدية لمدة 10 دقائق فقط، يصاب ريزا بشيء من خيبة الأمل؛ أخبرته زوجته أن القاضي طلب مبلغ 190 دولارا كرشوة من أجل البت في القضية وتخفيف الحكم إلى الحد الأدنى أو تبرئته، هذا مبلغ كبير ويخشى ريزا أن زوجته لن تستطيع جمعه.

تنتهي مدة الزيارة القصيرة، ليعود السجناء إلى جحيمهم الرهيب، ويعود الزوار بحسرة الفراق.

المال مقابل الراحة

في الحقيقة ليس القاضي وحده هو الذي يقبل الرشوة، كل شيء في هذا السجن يتحرك بالمال؛ من رئيس السجن إلى الضابط المناوب، وحتى المساعدين من السجناء أنفسهم، كل هؤلاء تشتري منهم ما تريد مقابل المال؛ من مكان مريح للنوم، إلى مياه نظيفة للشرب، وحتى الهواتف المحمولة أو السجائر، كل هذا تستطيع الحصول عليه داخل السجن مقابل المال.

أخيرا حصل “ريكاردو” على سرير خشبي متواضع بدلا من النوم على الأرض، وقد حُكم عليه بقضاء شهرٍ ونصف هنا، أما “ريزا” المسكين فقد حكم عليه القاضي بثلاثة أشهر في هذا المكان المخيف، لأن زوجته لم تستطع جمع المبلغ المطلوب لرشوة القاضي.

في السجن وجد طبيب واحد لثلاثة آلاف سجين، ولا توجد أدوية
في السجن وجد طبيب واحد لثلاثة آلاف سجين، ولا توجد أدوية

 

ما أجمل الموت ثمنا

لا يخفي “برنار” صدماته المتوالية في هذا السجن الغريب، إنه يشتري أمواس الحلاقة علنا، ولكنه لا يخفي سروره كذلك، فقد تمت تبرئته وسيغادر السجن بعد يومين، يبدو أنه دفع ما يلزم من المال للقاضي.

أما “نانا” من قسم النساء فما زالت تنتظر مع طفلتها الرضيعة منذ سنة ونصف، ما زال القاضي لم ينظر في تهمتها بعد.

وحده “صامويل”، الرجل الصامت منذ زمن، يسند ظهره إلى الجدار منذ 38 عاما في هذا المكان المرعب، ينتظر الموت وهو في الخامسة والسبعين من عمره، فلا بصيص أمل له بمغادرة هذا المكان إلا إلى القبر، ولسان حاله يقول: ما أجمل الموت ثمنا للخروج من هذا الجحيم.


إعلان