“10 أيام قبل الزفة”.. عرس سينمائي بهيج تحت أنقاض عدَن
خاص-الوثائقية
أن تقوم بتجميع كمّ هائل من المشاكل والصعوبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عمل سينمائي يكاد يعتبر الأول في بلادك، وتقوم بتصويره فوق الركام الذي خلّفته الحروب، وتقفز بين مشهد وآخر فوق الألغام، أو تنحني تجنبا لطلقات الرصاص الطائش، ثم تحلم بعد ذلك بدخول قائمة الأفلام المرشحة لنيل أوسكار أفضل الأعمال السينمائية غير الناطقة بالإنجليزية؛ فهذا يعني أن اسم فيلمك “10 أيام قبل الزفة”.
من رحم الحرب والدمار
عمل كوميدي ساخر حصل على شهادة ميلاده في قاعات السينما صيف العام 2018، ومازال منذ ذلك الحين يفجّر القاعات بالتصفيق والأعين الحساسة بالدموع كلما انتهت مأساة الشابين الساعيين إلى عقد قِرانهما فوق رُكام مدينة عَدن المنكوبة بعد المعارك الأخيرة للحوثيين الساعين إلى بسط سيطرتهم الكاملة على اليمن، والتي لم توقفها سوى غارات “التحالف العربي” التي دمّرت ما بقي.
ما إن ينطلق شريط الفيلم في العرض حتى تتعلّق الأنظار بلحظة انطلاق حفل زفاف بهيج، تنحلّ فيه كلّ العُقد النفسية والاجتماعية والسياسية التي صوّرتها لقطات الفيلم بأجزائه التي تغطي الأيام العشرة الأخيرة قبل موعد الزفاف.
يبدأ الفيلم بمشهد جلسة عائلية عنوانها الشد والجدب بين الحاضرين، وأجزاء الأثاث المتهالك الذي يجري إنزاله تِباعا من غرفة السطوح التي كان بطل الفيلم ينوي تحويلها إلى عشّ للزوجية، بعدما عادت إحدى قريباته لتقيم مع الأسرة إثر خصام مع زوجها.
في هذا المشهد يُفجّر الفيلم في وجه المتفرّج كمًّا هائلا من العُقد التي تنبئ منذ البداية أنها لن تجعل الفيلم مجرّد لحظة للتسلية والفرجة، بل ستحرّك مشاعر عميقة من خلال توظيف غاية في الإبداع الفني لمشاهد الحرب والدمار التي تجعلك تستشعر جسامة الموقف، دون أن ينبس أي من شخوص الفيلم بعبارة واحدة يمرّر من خلالها موقفا سياسيا أو رسالة منحازة لهذا الطَّرف أو ذاك.
مصائب قوم عند قوم فوائد
مأساة “مأمون” العريس وبطل الفيلم مع اضطراره لإخلاء غرفته ببيت العائلة قبل موعد الزفاف بعشرة أيام، لا تقلّ مأساوية عن معاناة خطيبته “رشا”، إذ يظهرها المشهد الأول الذي يصوّر وضع الطرفين في اليوم العاشر قبل موعد الزفاف المفترض وهي تصارع داخل أسرتها، بين شقيقها الطامح إلى فرض سيادته الذكورية عليها، ووالدها الذي يطالبها بـ”إتاوة” مالية مقابل رخصة الخروج من البيت لاستكمال ترتيبات حجز قاعة الأفراح وترتيبات الزفاف.
تطلّ على مشهد البداية شخصية أوكل إليها المخرج مهمة الصعود بالفيلم نحو عقدته الكبرى، وهو قريب العائلة الثري سليم، الذي يسمح للأسرة بالمُكث في بيت يملكه بعدما دمّرت الحرب بيتها، لكنّه كان يخفي نيته وطموحه الجارف للظفر برشا زوجة له في مقابل لخدماته السخية.
تسلسل الإثارة.. يوميات المجتمع العدَني
اختار المخرج الشاب تقسيم الفيلم إلى عشرة أجزاء، يصوّر كل منها أحداث ووقائع أحد الأيام العشر المتبقية لموعد الزفاف، وهو أسلوب قد يبدو تقليديا أو ميكانيكيا، لكن طريقة تسلسل الأحداث والحبكة الفنية للشريط تجعل العبور بين الأيام يتم دون ضجر أو إحساس بالقطيعة، بل ترتفع درجة التشويق والإثارة كلما اقترب يوم الزفاف بفضل السيناريو المفعم بالحيوية، والأداء المميّز للممثلين الذين نجح غالبيتهم في تقمّص الأدوار بشكل يجعل المشاهد ينصهر مع القصة، ويتفاعل معها لخلوّها من التصنّع.
يفتتح الفيلم مشهده الأول بجلسة عائلية لأسرة البطل الشاب “المأمون”، ليضع المشاهد في صورة القصة بكاملها عبر عرض العقدة المركزية والشخصيات الرئيسة الفاعلة فيها، ثم يفرد المخرج الجزء التالي لتصوير معاناة العريس المفترض في العثور على مكان آمن لإيواء أثاثه ومتاعه في انتظار استئجار الشقة التي ينتظر أن تجمعه بخطيبته.
هنا يأخذك المخرج في جولة عفوية بين أنقاض مدينة عدن المنكوبة ويضعك في قلب حرب يومية، تدور رحاها في شوارع المدينة بين فصائل مسلّحة لا يزجّ بها الفيلم في أي من الخنادق الواقعية، بل يترك للمتلقي حرية الربط بين تلك المشاهد وبين ما يجري في الحقيقة من أحداث في اليمن.
الجزء المخصص لليوم الثامن قبل الزفة يخصصه المخرج عمرو جمال لمرافقة الخطيبين في رحلة البحث عن شقة تؤويهما بعد الزفاف. وهنا يغوص الفيلم في عمق المجتمع العدني وما تعانيه المنطقة من فقر ودمار، دون أن ينتقص كل ذلك من تعلّق اليمنيين بأرضهم وحبهم لها وإصرارهم على النهوض بها من جديد رغم إغراءات الهجرة الممكنة نحو عوالم أخرى.
“روحي شوفي حياتك”.. العُقدة الكبرى
يستمرّ البحث في اليوم السابع قبل الزفاف، لتبرز بقوة شخصية رشا التي تمسك بزمام التدبير المالي للموازنة المخصصة لحفل الزفاف، مخفّفة وقع الخوف والتردد الملمَّين بخطيبها مأمون.
رشا التي جسّدت دور المرأة اليمنية بأنفتها وعزة نفسها ودهائها، سوف تعدّل بنود الموازنة باستبدال قاعة الأفراح بواحدة أصغر حجما توفيرا للمال. وكان مشهد ادعاء الخطيبين أنهما تشاجرا وأقدما على الطلاق لإقناع صاحب القاعة بإرجاع المقابل المالي الذي تسلّمه مسبقا؛ مشهدا من مشاهد الذروة المشحونة عاطفيا.
وفي مناوبة محكمة بين ثنائية العقدة والحل، يحل اليوم السادس ليشكّل نكبة جديدة في طريق الخطيبين نحو يوم زفافهما، وذلك حين أدين المأمون بحكم قاس يجرّده من محلّه التجاري مما أوقعه في يأس وشعور عميق بالعجز.
هنا وفي منتصف الطريق نحو اليوم المنتظر؛ يتصدّر ابن عمّ رشا، سليم الثري والمتوثب في انتظار الفرصة الملائمة، ليعرض على أسرتها الحصول على بيت جديد مقابل تمكينه من يد رشا، وقد تزامن ذلك مع تعرّض متاع عرس المأمون لأضرار جراء تبادل لإطلاق النار حدث أثناء محاولته نقله إلى مكان آمن، ليسقط عاجزا تحت أمطار أتلفت ما تبقى من عفشه مرددا أمام رشا أن “روحي شوفي حياتك”، متراجعا عن فكرة الزواج من الأساس.
في الأيام الثلاثة المتبقية قبل موعد الزفة تدخل قصة الفيلم في تطورات متسارعة لتفجير العُقَد المتبقية كلها، بدءا برضوخ رشا تحت وطأة ضغوط أسرتها للقبول بسليم زوجا لها، ومرورا بهربها يوم عقد قرانها عليه من بيت أسرتها، إلى محنة البحث عنها من طرف إخوتها الذين استعادوا مأمون تدريجيا وأخرجوه من إحباطه، لتغلق الدائرة بالعثور على رشا منزوية في الركن المتبقي من بيت أسرتها الذي خرّبته الحرب، وتعود شعلة الحب للاشتعال من جديد في مشهد زفاف سعيد جرى في اليوم الموعود تحت أنغام أغنية “اضحك على همّك وعيش”.
بطل ظاهر وبطل خفي
نجح فيلم “10 أيام قبل الزفة” في تحقيق الشهرة عبر قصتين، أولاهما هي تلك التي جرى تصويرها أمام الكاميرا، أما الثانية فهي تلك التي جرت خلف وحول مواقع التصوير، أي تلك القصة المليئة بالمغامرة والغرائبية التي أحاطت بالفيلم وظروف تصويره.
بطل النسخة التي جرت وقائعها خلف الكاميرا هو المخرج عمرو جمال، فقد استطاع ذلك الشاب الثلاثيني أن يُحوّل المعاناة اليومية للمواطن اليمني الذي مزّقت الحروب حياته، إلى قصة يطوف بها في المهرجانات العالمية والعربية.
كانت فكرة سرد يوميات عروسين يمنيين اصطدم حلمهما بالزواج بعقبات الحروب المتوالية التي عرفها اليمن، قد وُلدت في ذهن عمرو جمال ورفاقه قبل بضع سنوات، على أن المشروع الأول كان في شكل سلسلة تلفزيونية فكاهية، لم يكتب لها أن تخرج إلى الوجود لانعدام الإمكانات.
فجأة قرّر عمرو جمال تحويل الفكرة إلى مشروع فيلم سينمائي، على أن يتدبّر أمر تصويره وإنتاجه بما يتوفّر في مدينة عدن من إمكانيات شبه بدائية، ليعتكف رفقة صديقه الكاتب “مازن رفعت” طيلة أربعة أشهر على كتابة السيناريو، ثم يعرض الفكرة على بضعة ممثلين كان الإغراء الوحيد الذي يقدّم لهم هو إنتاج فيلم عن مدينتهم عدن.
العدم المتنامي.. منجز كبير كبر الحضارة اليمنية
عكس الإنتاجات التقليدية التي تتطلّب رصد الاعتمادات المالية مسبقا، كان فريق الفيلم يبدع وسائل عمله من العدم، وكانت الفكرة تنمو بين أيديهم تدريجيا، فقرروا أن يجعلوا الحلم كبيرا كِبر الحضارة اليمنية، وانطلق التسويق للفيلم منذ أيام تصويره الأولى، عبر استثمار ما تتيحه شبكة الإنترنت، وذلك بواسطة موقع خاص يحمل اسم الفيلم، إضافة إلى التسويق في شبكات التواصل الاجتماعية.
كوّن مخرج الفيلم فريقه من كوكبة من الممثلين المحترفين، المنحدرين أساسا من تجارب مسرحية وتلفزيونية ناجحة، وعلى مدى شهرين كان الفريق يقفز بين أكوام الحطام ووسط أزيز الرصاص، حيث تم القيام بالبروفات الأولية وتحديد المواقع القابلة للتصوير.
بضعة وثلاثون ألف دولار هي كل ما احتاجه عمرو جمال لإخراج فيلمه إلى الوجود، مما يعني أن جلّ من شاركوا في الفلم هم متطوعون، منهم حوالي 50 ممثلا ورقم مماثل من الكومبارس وعشرات الفنيين الذين عملوا في الكواليس.
ورغم تواضع الغلاف المالي الذي خصص لإنتاج الفلم وبساطة وسائله، إلا أن مخرجه لم يعدم جودة التصوير واللقطات البانورامية، بل وبعض المشاهد الجوية التي يبدو من خلال زاوية التقاطها صُورت عبر طائرات مسيّرة، مما مكّن الفيلم من الجمع بين جمالية التصوير وعكس درجة الدمار والخراب التي خلّفتها الحروب في مدينة عدن.
صُنِع في عدن.. كاستينغ محلي
في الكاستينغ الخاص بالأدوار الرئيسة في الفيلم الذي جعله المخرج عدنيا بشكل كامل، نجد كلا من الممثلة سالي حمادة والممثل خالد حمدان في دوري البطولة.
أما سالي التي لعبت دور رشا فهي ممثلة عدنية شابة وسليلة أسرة فنية عريقة حسب الموقع الخاص بالفيلم. فهي حفيدة عميد الأغنية العدنية أحمد بن أحمد قاسم وابنة الفنانة المسرحية القديرة ذكرى أحمد علي. وقد اشتهرت سالي قبل هذا الفيلم بمشاركتها في العديد من المسرحيات مثل “كرت أحمر” و”صرف غير صحي”، إلى جانب أعمال تلفزيونية كمسلسل “فرصة أخيرة” و”بيت المداليز” ومسلسل “الدلال”.
أما الممثل الذي لعب دور “مأمون”، فهو خالد حمدان، الممثل العدني الذي تخرج من معهد الفنون الجميلة بعدن، وشارك في العديد من الأعمال المسرحية مثل “معك نازل” و”حلا حلا يستاهل” ومسرحية “الداهوفة”، كما ظهر في عدد من الأعمال الدرامية التلفزيونية من بينها مسلسل “أصحاب” و”فرصة أخيرة” ومسلسل “أبواب مغلقة”.
وإذا كان دور البطلين قد تطلّب وجوها شابة، فإن باقي الأدوار عرفت مشاركة أسماء فنية مخضرمة، مثل الممثل قاسم عمر في دور والد رشا الذي عاش تجربة فشل مريرة في بدايات حياته، فتقدّمها أم رشا عبرة لها كي تحاول إقناعها بالزواج من قريب العائلة الثري.
قاسم عمر هو أحد أعمدة المسرح العدني الذي ساهم في تأسيس العديد من الفرق المسرحية المعروفة، وشارك في أعمال مسرحية تاريخية، مثل مسرحية “التركة” ومسرحية “في البدء كان القربان” و”شيخ الدلالين”، كما أخرج العديد من المسرحيات المعروفة كمسرحية “المزاد” و”موقعة العصيد”، والأعمال التلفزيونية الشهيرة كمسلسل “موال الصمت”.
قاعات الأفراح.. في الجماهير تكمن المعجزات
مثلما كان إنتاجه أشبه بالمعجزة، كان خروجه للعرض معجزة حقيقية. فبعد الانتهاء من التصوير والتحرير، وجد فيلم “10 أيام قبل الزفة” نفسه أمام مشكلة عدم وجود أية قاعة للعرض السينمائي بمدينة عدن.
الحل لهذه المعضلة لن يخرج عن سيناريو الفيلم نفسه، فمثلما كانت البطلة رشا تطوف أرجاء المدينة بحثا عن قاعة أفراح أقل كلفة من تلك التي حجزها خطيبها “المأمون”، راح منتجو الفيلم يطوفون على القاعات نفسها بالمدينة، لمحاولة إقناع أصحابها بتأجيرها والسماح بتأهيلها لتصلح لعرض الفيلم.
كانت أمام الفريق مشكلتان أساسيتان إحداهما تتمثل في الهاجس الأمني، وذلك لأن أي تجمّع بشري كبير قد يكون هدفا محتملا للهجمات في ظل أوضاع الانفلات الأمني المشابهة لتلك التي كانت تعيشها عدن صيف العام 2018. أما المشكلة الثانية فهي غياب شاشة تصلح لعرض الفيلم أمام الجمهور.
تجاوز فريق العمل المشكلة الأولى بفضل الاحتضان الشعبي للفيلم، وذلك لأن أبناء عدن شاركوا جميعا في جميع مراحل إنتاج وتصوير الفيلم، وبالتالي فلم يكن أمام أرباب قاعات الحفلات سوى الرضوخ لرغبات الجمهور.
والمشكلة الثانية تجاوزها الفريق بطريقة لا تقل بدائية وإبداعا عن بقية مراحل الإنتاج. فقد قاموا ببناء شاشة عملاقة بما توفّر لديهم من مواد، جرى في النهاية طلاءها باللون الأبيض، لتصبح قابلة لعكس مشاهد الفيلم، لتنطلق المشاهدة التي فاجأ بها العدنيون العالم، إذ أقبلوا إقبالا منقطع النظير لمشاهدة “10 أيام قبل الزفة”، ثم سرعان ما انتقل هذا الفضول إلى جمهور مهرجانات عربية ودولية، فكان هذا العمل بمثابة انبعاث جديد للسينما اليمنية، ومعها اليمن السعيد الذي حوّلته الحروب الداخلية والخارجية إلى كومة من الأنقاض.
عالمية رغم البساطة
راح فيلم “10 أيام قبل الزفة” يشق طريقه نحو العالمية بانتقاله أولا إلى مدينتي “المعلا” و”الشيخ عثمان” بمحافظة عدن، ليصبح بذلك أول فيلم يمني مطوّل يُعرض للجمهور اليمني بعد محاولات أولى قصيرة جرت منذ العام 2004، واقتصر عرضها على العاصمة اليمنية صنعاء.
وفي أول دورة لمهرجان “أوسكار” العالمي للسينما، رفع فريق الفيلم سقف أحلامهم عاليا وشاركوا به في المسابقة، ورغم أنه لم يفز فإنه دخل لائحة الأفلام المتنافسة على جائزة أحسن فيلم غير ناطق باللغة الإنجليزية، ليكون بذلك أول فيلم يمني يصل إلى هذه الدرجة من العالمية.
لم تكن تلك إلا بداية رحلة طويلة تجوّل خلالها الفيلم بين صالات مهرجانات ذائعة الصيت عالميا، كمهرجان الفيلم العربي بمدينة “سان دييغو” الأمريكية، ومهرجاني “بونا” و”جايبور” الهنديين، ومهرجان الفيلم العربي بالدار البيضاء المغربية، كما سارعت إلى عرضه قاعات سينما راقية كتلك الموجودة في “دبي مول” الإماراتي.