بعد 32 عاما على انطلاقتها.. حكايات من انتفاضة الحجارة

حسن العدم
بعد انقضاء 32 عاما على انطلاقتها، ما زالت انتفاضة الحجارة الفلسطينية تلهب حماس الشعب المتعطش للحرية والاستقلال، وما زالت أدبياتها تلهم خيال المفكرين والسياسيين والأدباء بأفكار النصر وأوراق الضغط على المحتل المغتصب، لإجباره على التخلي عن عقلية العنجهية والاستكبار، وتعيده تحت مظلة القانون الدولي.
وقد عرضت الجزيرة ضمن سلسلة “فلسطين تحت المجهر”، حلقتين بعنوان “حكايات من انتفاضة الحجارة”، سجلت عبرهما يوميات الانتفاضة الفلسطينية، وإرهاصات انطلاقتها، ومآلات نتائجها، وسلطت الضوء على تجاوزات جيش الاحتلال، وانتهاكاته الفاضحة لحقوق الإنسان الفلسطيني.
حروف العطف العشرينية.. النكبة ثم النكسة فالانتفاضة
منذ ولادة هذا الكيان التوسعي المسمى “دولة إسرائيل” عام 1948، شرع في التمدد السرطاني المحموم على حساب الأرض والإنسان الفلسطيني، وصار يسابق الزمن في محو كل ما هو فلسطيني وعربي من الذاكرة الكونية، وسانده صمت مريب من المجتمع الدولي، وتواطؤ مفضوح من القوى العالمية الفاعلة، على تشريع خطواته الاستيطانية والعنصرية، في مقابل شيطنة أي فعلٍ مقاوِمٍ يصدر عن أصحاب الأرض ومالكي الحقوق الأصليين.
أسفرت حرب الأيام الستة في العام 1967 عن الوجه التوسعي القبيح لإسرائيل، وبعد أن أحكمت سيطرتها على الضفة الغربية وقطاع غزة شرعت في مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، ورسَمَ قانون الإدارة العسكرية الذي صاغه الجنرالات الصهاينة من 2000 بند شكل العلاقة بين المحتل وأصحاب الأرض، وصارت زراعة شجرة مثمرة تحتاج إلى تصريح، والدخول والخروج من وإلى المدن والبلدات الفلسطينية يحتاج إلى تصريح، وصارت بنود القانون العسكري تتدخل في كل شؤون الفلسطينيين اليومية والمصيرية.
ولأن الاستيلاء على الأرض كان جوهر الصراع، فقد عملت دولة الاحتلال كل ما في وسعها من أجل إضعاف العلاقة بين الفلسطيني وأرضه، فصارت تتحكم في مفاصل الاقتصاد الفلسطيني، وعزلته بحزم عن محيطه العربي، وصارت الفلاحة والعناية بالأشجار المثمرة شغل كبار السن فقط، أما الشباب فاصطفوا في طوابير للعمل داخل الكيان الصهيوني.
أما سياسة هدم المنازل وتشريد أصحابها، فكانت في ظاهرها إجراءات عقابية بحق كل من يؤوي فدائيا أو يصدر عنه أي فعل احتجاجي على سياسات العدو المحتل، أما حقيقتها فهي الطرد والإبعاد، ومن ثم المصادرة بغطاء قانوني، تتباهى به دولة الاحتلال أمام العالم.
ولم يكن ما داخل الخط الأخضر بأحسن حالا من الضفة والقطاع، فقد استمرت مصادرة الأراضي وإخلاء القرى من أصحابها الفلسطينيين في ممارسات تطهيرية كشفت عقلية عنصرية لهذا الكيان، وأسفر الضغط والتنكيل عن خروج مظاهرات ومسيرات حاشدة قام بها الفلسطينيون في أواخر مارس/آذار من عام 1976، واستشهد على أثرها ستة من فلسطينيي الداخل، لتعم بعدها المظاهرات مناطق الضفة والقطاع، وليعرف بعدها يوم الثلاثين من مارس/آذار عالميا بيوم الأرض.
كامب ديفيد.. سقف منخفض للحلم الفلسطيني
كان عام 1976 مقدمة للانتفاضة الشعبية في الثمانينيات؛ فقد استشهد فيه 48 فلسطينيا، وسادت حالة من الروح الوطنية العالية جموع الفلسطينيين في كل مكان، بل وصارت قوائم ووجوه المنظمات الفلسطينية حاضرة وبقوة في انتخابات البلديات والجامعات، وفي التجمعات الوطنية بأشكالها المتعددة، فما كان من إسرائيل إلا أن تفتقت ذهنيتها عن شكل موازٍ للحالة الوطنية تمثل في إنشاء ما يسمى روابط القرى، على غرار نظام المخاتير الذي ابتدعه الانتداب البريطاني.
كانت نظرة الفلسطينيين لروابط القرى على أنها ذراع للكيان الصهيوني، فقابلوها بالعصيان والتمرد، بل واغتيال بعض رموزها أحيانا في رسالة واضحة لإسرائيل التي قابلت هذه الخطوة بإبعاد رؤساء البلديات الذين انتخبهم الشعب الفلسطيني، ومحاولة اغتيال ثلاثة من أبرزهم، وهم بسام الشكعة وإبراهيم الطويل وكريم خلف، ولكن المحاولات فشلت وشكلت فضيحة أمنية وسياسية لإسرائيل.
حملت بدايات الثمانينيات من القرن الماضي بروز حركة الجهاد الإسلامي بطرحها الديني الوطني، منتقدة على منظمة التحرير الفلسطينية تَراجُعَ خطابها النضالي المقاوِم، وتوجهها نحو الحلول السلمية التي كانت تسوّق في المنطقة بعد كامب ديفيد، واصطبغت كثير من الواجهات السياسية الفلسطينية بالصبغة الإسلامية الجهادية، ولتتماهى بذلك مع الصحوة الإسلامية التي تبلورت في العالمين العربي والإسلامي أواخر السبعينيات والثمانينيات.
ولادة “حماس”.. الإسلاميون على خط المواجهة
وفي الثمانينيات كذلك تململ مارد الإخوان المسلمين، إثر مقتل اثنين من أعضاء الجماعة خلال مظاهرة شعبية في جامعة بيرزيت، وكان ذلك إيذانا بمولد حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وإن كانت قد أجَّلت إظهار نفسها رسميا وإصدار ميثاقها التأسيسي إلى أواسط ديسمبر/كانون الأول من عام 1987 بعد أيام من انطلاق شرارة انتفاضة الحجارة الأولى.
حمل العام 1987 إرهاصات ثورة شعبية قادمة، فالداخل الفلسطيني مفعم بالدم اليومي، وآلة القتل اليهودية لم تعد تفرق بين مقاوم وشيخ وفتاة، بل إن سكان المستوطنات صاروا يزاحمون الجيش والشرطة في مهامهم القذرة.
أما المحيط الرسمي العربي فلم تعد فلسطين من ضمن قائمة أولوياته، ولا أدلَ على ذلك من مؤتمر القمة العربية الذي عُقد في عمان في نوفمبر/تشرين الثاني، والتي خلا بيانها الختامي تقريبا من ذكر مأساة الفلسطينيين، فكان لابد في هذه الحالة أن يأخذ الفلسطينيون بزمام المبادرة، ويرفعوا أصواتهم بالطريقة التي تلائم آذان العالم الصماء.
كانت الشرارة الحقيقية للانتفاضة قد انطلقت صباح الثامن من ديسمبر/كانون الأول 1987، حين اصطدمت ناقلة مدرعات إسرائيلية وبشكل متعمد، مع مجموعة من سيارات الفلسطينيين في مدخل غزة، وأسفر الحادث عن مقتل أربعة فلسطينيين، وإصابة سبعة آخرين.
أثار هذا الحادث الأليم غضب الشارع الفلسطيني، وانطلق الشباب وطلاب المدارس يحاصرون عربات الجيش، ويغلقون الشوارع بالإطارات المشتعلة، ويقتحمون مراكز الشرطة، وقابلهم اليهود بالرصاص الحي وقنابل الدخان، وارتقت مجموعة أخرى من الشهداء، كان منهم حاتم السيسي أول شهداء الانتفاضة، والذي ما زال ميدانٌ في غزة يخلد ذكراه.
وفي منتصف ديسمبر/كانون الأول 1987، وانطلاقا من الجامعة الإسلامية في غزة، أعلنت حماس عن نفسها كلاعب رئيسي على الساحة الفلسطينية، وساعدها في ذلك الإرث التنظيمي المؤثل الذي ورثته عن الجماعة الأم “الإخوان المسلمون”، وكذلك العاطفة الدينية الجياشة التي تدين بها الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني، والمساجد التي كانت حاضنة الجماهير ومنطلق معظم الفعاليات النضالية، حتى أن مصطلح “ثورة المساجد” كان يطغى كثيرا على فعاليات الانتفاضة، على أن كل هذا لا يقلل من مساهمة القوى الليبرالية والعلمانية والمسيحية في إضفاء المسحة الوطنية الفلسطينية بكل ألوانها وأطيافها.
القيادة الموحدة.. الفعل النضالي الراشد
تشكلت غرفة قيادة موحدة للانتفاضة من تنظيمات فتح والجبهتين الديمقراطية والشعبية، وانضم إليهم لاحقا التنظيم الشيوعي، وعلى الرغم من أن حركة الجهاد الإسلامي لم تكن عضوا في القيادة الموحدة، فإنها كانت تدفع بشكل كبير للتنسيق معهم من أجل إبقاء جذوة الانتفاضة مشتعلة، وكان التدين طاغيا على هذا الحراك الشعبي، لدرجة أن كثيرا من القادة الشيوعيين والعلمانيين كانوا يحضرون إلى المساجد مع جموع المصلين قبل انطلاق المسيرات والمظاهرات.
ولم تكن الضفة بمعزل عن الحدث الغزّي، فسرعان ما ثارت مخيمات اللاجئين هناك، وكان لمخيم بلاطة في نابلس السبق، وقدّم في أول صباحات الانتفاضة سحر الجرمي (17 عاما) مع ثلاثة شهداء آخرين، وعددا من الجرحى يتقدمهم “حسام خضر”، أحد أعضاء القيادة الموحدة للانتفاضة.
منذ اليوم الأول للانتفاضة ساهم الوعي العالي للشعب الفلسطيني في إضفاء الرشد والتصعيد الممنهج للفعاليات، وشكَّل الزخم الشعبي في غزة مع النخبة السياسية والنقابية في الضفة جناحَيْ الثورة الشعبية التي ما لبثت أن طارت إلى عنان السماء، وكانت مشاركة كل قطاعات الشعب الفلسطيني من طلاب وشباب وشيوخ ونساء، وفي كل مناطق سكناهم، من المخيمات إلى القرى والمدن؛ مفاجِئةً ومربِكةً للسياسيين والعسكريين الصهاينة، والذين أدت سياستهم الخائفة المتخبطة إلى قتل 26 شهيدا فلسطينيا حتى نهاية ديسمبر/كانون الأول 1987.
كان الصهاينة يراهنون على العامل الاقتصادي، وحاجة العرب للعمل في الداخل الإسرائيلي، وكانوا يتندرون على الدول العربية بمدى التعايش والتلاحم الذي يعيشه الفلسطينيون مع اليهود في الأراضي المحتلة، ولكن الأيام الأولى للانتفاضة كشفت كل ذلك الزيف.
كان العمّال الفلسطينيون هم الجذوة التي لا تخمد للانتفاضة، وساندتهم المرأة الفلسطينية بشكل لافت، وفي وقتٍ لم تكن فيه وسائل التواصل ولا الإنترنت أو الهاتف المحمول؛ كانت طباعة المنشورات والبيانات الثورية، وتوزيعها ليلا على كل البيوت والأزقة والمساجد، بمثابة الروح التي تسري في الجسد الفلسطيني بكل قطاعاته.
تكسير الأطراف لا يعني كسر العزائم
كان الجيش الإسرائيلي من جانبه ينكّل بالشباب المنتفض، فمشهد القتل اليومي لا يتخلف، إضافة إلى الإصابات التي لا يرجى شفاؤها والعاهات المستديمة، وسياسة تكسير الأطراف التي ابتدعها “إسحاق رابين” كانت على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام العالمية، وزادت وتيرة الاعتقالات بشكل خيالي، وأُطلقت أيدي المستوطنين تطلق أيديهم ليعيثوا في الأرض فسادا وليهلكوا الحرث والنسل، ويسرقوا المواشي والمحاصيل الزراعية، أما ما كان يحدث في السجون من تعذيب نفسي وجسدي فهذا مما يعجز عنه الوصف، وتتضاءل أمام هوله الكلمات.
وكان من السهل على الجيش والمستوطنين تلفيق أية تهمة بحق أي فلسطيني، ومن ثم عقاب القرية كلها بهذه التهمة المزورة، وما حدث في قرية “بيتا” في نابلس خير شاهد على ذلك، فقد قام مستوطن بقتل يهودية مستوطِنة مثله في مزارع القرية، وتم إلصاق التهمة بأحد الفلسطينيين.
وعلى الرغم من أن تشريح الجثة أثبت أن الرصاصة كانت من بندقية مستوطن فإن هذا لم يمنع الجيش الإسرائيلي من هدم 14 منزلا، واعتقال 200 شاب من القرية وإبعاد ثمانية نشطاء إلى خارج الضفة.
خلال سنوات الانتفاضة الثلاثة الأولى تم هدم 240 منزلا فلسطينيا، وتلك سياسة ورثها الاحتلال الصهيوني عن سلفه الانتداب البريطاني، والهدف منها هو العقاب الجماعي للعائلات التي يثبت تورط أبنائها في عمليات مقاومة المحتل، لردع كل من تسول له نفسه القيام بأعمال “عدائية” على حد تعبير أحد قادة الجيش الإسرائيلي.
منظمة التحرير.. القيادة عن بُعد
أخذ دور القيادة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي كانت حينها في تونس، يتزايد مع دخول الانتفاضة عامها الثاني، وكان الدعم المالي هو أكثر ما يهم المنتفضين في الداخل، وبرز إلى الواجهة خليل الوزير (أبو جهاد)، الرجل الأول في حركة فتح، كمدير لعمليات الانتفاضة من الخارج، وكان ينسق بشكل يومي مع اللجان الشعبية في القرى والمخيمات، لكن إسرائيل لم تمهله طويلا، وتم اغتياله في منزله في تونس يوم 16 أبريل/نيسان 1988.
وبعد نفيه من الضفة الغربية، أصبح حسام خضر على تواصل وثيق مع القيادة السياسية للمنظمة في تونس، وفي هذا الصدد يشير حسام إلى حجم الفساد الهائل في هياكل المنظمة المختلفة، وكيف أن الدعم المرسل إلى الداخل الفلسطيني كانت تتم “قصقصته” أثناء مروره بالهرم التنظيمي، حتى ما يصل إلى الداخل إلا الفُتات، ولو كان الدعم يصل بالحجم الذي بدأ به لتغيرت المعادلة كليا على الأرض.
دخلت الانتفاضة والقضية الفلسطينية برمّتها منعطفا سياسيا مهما في يوليو/تموز عام 1988؛ يوم أعلن الملك حسين ملك الأردن فك الارتباط بين الضفة الغربية والأردن، بعد وحدةٍ استمرت منذ 1950، لتكون الضفة منذ هذا اليوم تحت مسؤولية منظمة التحرير، ثم جاء ياسر عرفات زعيم المنظمة ليعلن في نفس العام قبوله بالقرار الأممي 242، والذي يتضمن في طياته القبول بدولة إسرائيل واقعا على أراضي فلسطين 48، على أن تكون الضفة الغربية وقطاع غزة دولة فلسطينية معترفا بها دوليا.
بيت ساحور.. عزيمة فلسطينية لا تُثنى
تطورت أساليب رفض الفلسطينيين للممارسات الإسرائيلية الجائرة، فمن رفضٍ لدفع الضرائب كما فعل أبناء مدينة بيت ساحور، المدينة ذات الغالبية المسيحية التي قدمت عدة شهداء، وقامت بالمظاهرات والمسيرات، وتعرضت لأبشع أنواع العقاب الاقتصادي والاجتماعي، فقد كان الجيش يصادر ممتلكات البيوت والمتاجر والمصانع، لكل من يرفض دفع الضريبة.
أما الهوية الشخصية التي وزعها الجيش على المواطنين وتحمل رقما محفوظا في مراكز الإدارة العسكرية، فقد مزقها الفلسطينيون وألقوها في وجوه الجنود الذين وزعوها، وكان هذا سببا كافيا ليصب الجيش جام حنقه وغضبه على الفلسطينيين الذين باتوا يشعرون بنوع من الاستعلاء والعزة والكرامة التي افتقدوا الشعور بها لسنين خلت قبل هذه الثورة.
التجهيل الممنهج.. جريمة طويلة المدى
ومن وسائل العقاب الجماعية التي مارسها الصهاينة بحق الفلسطينيين إغلاق المدارس والجامعات، وتلك سياسة عدائية كان لها أهداف قريبة وبعيدة، فمن جهةٍ هي منعٌ للتجمهر والتظاهر، ومن جهةٍ استراتيجيةٍ فالمحتل يريد شعبا جاهلا غير متعلم، غير واعٍ لما يُحاك وراء كواليس السياسة من مؤامرات تستهدف وجوده.
لكن المواطنين تنبهوا مبكرا لهذه النوايا الخبيثة وفتحوا بيوتهم الضيقة كمدارس ومعاهد، واشتغلت الفتيات والنساء في تدريس الطلاب والطالبات بانتظام وكأنهم في مدارسهم، كما أن السجون والمنافي فتحت زنازينها كقاعات للمحاضرات الجامعية، وتخرج منها حملة الشهادات الجامعية بمختلف درجاتها.
في السنوات الثلاث الأولى للانتفاضة تم اعتقال 120 ألف فلسطيني، غير أن آلافا أخرى كذلك من الفلسطينيين لم يذعنوا لطلبات الاحتلال بتسليم أنفسهم، وبهذا كانوا ملاحقين ومطاردين من قوات الاحتلال، ولم يكن الجيش المحتل يتورع عن هدم البيوت على ساكنيها إذا توفرت لديه معلومات ولو غير مؤكدة عن وجود مطاردين فيها، وكذلك كان يقصف سيارات براكبيها إذا توفرت لديه شبهة أن ملاحقا يستقل هذه السيارة.
وظَّف الفلسطينيون الأناشيد الإسلامية والأغاني الوطنية، والفن والثقافة بشكل عام أحسن توظيف في مساندة الانتفاضة ودعم صمود الشعب الفلسطيني، وتخليد ذكرى الشهداء والاحتفاء بهم، وكان هذا يغيظ الجيش المحتل أيما غيظ، لدرجة أنهم كانوا يصادرون السيارات التي تنطلق من سمّاعاتها أناشيد أو أغانٍ ثورية.
كان الجيش المحتل يغلي حنقا عند رؤية أي مظهر يدل على الهوية الفلسطينية، وكان القناصة لا يترددون في قنص الذين يحملون الأعلام الفلسطينية على الأعمدة والمآذن.
الوجه القبيح لواحة الديمقراطية في الشرق
برزت جريمة أخرى من جرائم الاحتلال تضاف إلى القتل والاعتقال، فقد وثّقت منظمات وجِهات صحية ومواطنون سرقة الأعضاء الداخلية لعدد من الشهداء قبل تسليمهم إلى ذويهم، وقد كانوا يجبرون أهالي الشهداء على دفنهم في منتصف الليل، وفي مقابر لبلدات أخرى غير بلدته الأصلية، وكانوا يطلبون من خمسة فقط من ذويه أن يدفنوه فور تسلمه.
أما ما يحدث داخل السجون من تنكيل وتعذيب، على أيدي الأمن الداخلي (الشاباك)، فكان مما لا يوصف لهوله، يكفي أن تعرف أن عشرة مسجونين على الأقل قد قضوا تحت التعذيب في الزنازين، والمئات خرجوا من السجون مشوهين بندوب وجروح لا تندمل مدى الحياة، إضافة إلى الحالات المرضية النفسية التي خرج بها كثير من هؤلاء المعتقلين.
بيد أنهم صمدوا، بل وكانوا مصدر توجيه وإدارة للفعاليات خارج السجن، وكانت الرسائل تتبادل من وإلى السجناء بواسطة كبسولات يدوية الصنع، يبتلعها الزائر ريثما يخرج من حواجز التفتيش، ثم يقوم بتوصيلها للمعنيين، حتى إن الحاجّة “عزيزة الظاهر” لوحدها كانت تمرر رسائل بين القيادة في غزة، وأربعة سجون على الأقل، وهي سجن نفحة وشطة والمجدل والرملة.
لم تقتصر جرائم الاحتلال على ردود الأفعال تجاه المقاومين، ولكن تعدتها إلى مجازر مروعة ارتكبتها بدم بارد وبحقد دفين معتق، بحق مدنيين عُزّل لم يشتركوا في أي عمل مقاوم. ففي 20 مايو/أيار1990 وعند باب مستوطنة ريشون ليتسيون، أقدم جندي من جيش الاحتلال على فتح النار على مجموعة من العمال العرب، الذين كانوا يستعدون لدخول المستوطنة، فقتل منهم سبعة شهداء وجرح العشرات، في مجزرة هزت الضفة والقطاع والمحيط العربي.
وفي الثامن من أكتوبر/تشرين الأول في العام نفسه اقتحمت مجموعة من أمناء الهيكل باحات المسجد الأقصى، واشتبكوا مع المصلين المسلمين الذين أمطروهم بوابل من الحجارة، فما كان من الجيش إلا أن أطلق النار بغزارة تجاه المصلين الفلسطينيين وقتل منهم عشرين شخصا، وجرح حوالي 120 آخرين، في مجزرة مروعة اهتز لها العالم بأسره.
العملاء.. عرّابو المهمات القذرة
خلال سنوات الانتفاضة الخمس قام النشطاء بتصفية أكثر من 800 عميل من الشعب الفلسطيني، كانوا يعملون لصالح أجهزة المخابرات الصهيونية. وقد صدر تقرير عن منظمة “بيت سيلم” الإسرائيلية الحقوقية، يفيد بأن ما نسبته 45 إلى 50% من هؤلاء المقتولين كانوا بالفعل يتقاضون راتبا شهريا من الحكومة الإسرائيلية أو إحدى وكالاتها، ولا يخفي “عبد القادر الرجوب” حقيقة كونه عمل لصالح المخابرات الإسرائيلية منذ 1986، ويفتخر بذلك، ويجاهر بأنه قدّم معلومات مهمة عن عدد كبير من نشطاء الانتفاضة ومجاهدي
التنظيمات الفلسطينية.
ويتابع “الرجوب” الذي يعيش حياة التقاعد في مدينة عسقلان، أنه في الوقت الذي كان يعمل لصالح المخابرات الإسرائيلية طوعا أو كرها، فإن قيادات السلطة الفلسطينية مثل محمود عباس “أبو مازن” ومحمد دحلان، يعملان في التنسيق الأمني مع جيش الاحتلال تحت تهديد السلاح.
الانتفاضة.. حلقة في سلسلة لم تنته
بعد غزو الكويت، وتدخل الولايات المتحدة ودول التحالف الدولي لإخراج العراق من الكويت، تداعت أطراف دولية إلى مؤتمر سلام في مدريد من أجل إيجاد حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وجُلب إليه العرب والفلسطينيون تحت مظلة الوفد الأردني، وخلال سنة المؤتمر تحديدا قتل الجيش الإسرائيلي أكثر من 130 شهيدا، واعتقل المئات، وهدم 50 منزلا فلسطينيا.
ومع دخول الانتفاضة عامها الثالث، تولدت عند الفصائل الفلسطينية وخاصة “حماس”، فكرة التحول بالانتفاضة من النهج السلمي المدني إلى النهج المسلح العسكري، وكانت هنالك عمليات نوعية أسفرت عن موت أعداد لا بأس بها من الجنود الصهاينة، وجاء الرد الإسرائيلي بإبعاد 415 قياديا من خيرة رجال حماس والجهاد الإسلامي إلى منطقة مرج الزهور في جنوب لبنان.
ولعل شعور إسرائيل بجدية التحول الجذري في الشارع الفلسطيني هو ما دفع بها باتجاه أوسلو ليتم توقيع الاتفاقية في سبتمبر/أيلول 1993، ولتكون بذلك رصاصة الرحمة على الانتفاضة الأولى.
لم تُغير أوسلو كثيرا من العقلية الصهيونية في إلغاء الآخر، بل إنها أضرت بالفلسطينيين أكثر مما نفعتهم، فلا السلطة صارت دولة، ولا المستوطنات أزيلت، ولا التنسيق الأمني جلب حقوقا، وها هو الجدار العازل يلتف حول القرى والبلدات العربية كالثعبان، حتى أن انسحاب الجيش من غزة إنما كان انسحابا أحادي الجانب تحت وطأة ضربات المقاومة، وصارت الضفة وغزة سجنا كبيرا لأكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني.
ولكن هل ستبقى الأمور بهذا الوضع غير المتوازن؟
لقد علّمنا التاريخ أن الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني لا تنسى حقوقها، وأن الظلم والقهر لا يستمران طويلا ضد الشعوب الحيّة، وأن الدماء المراقة اليوم، هي وقود قناديل الغد المشرق.