“ذاكرة شنقيط”.. قصة المساجد والإبل والنخيل

حط أربعة رجال رحالهم بمنطقة خالية، وعلى الفور شيدوا مسجدا وبنوا لكل واحد منهم دارا في محيطه ثم تقاطر عليهم الناس، ومن هذه اللحظة وُلدت مدينة في عمق الصحراء وصارت قصة تروى، فتحدث عنها الركبان والحجيج، وخرج منها التجار والعلماء إلى مشارق الأرض ومغاربها.
الزمان: عام 660 هـ.
والمكان: شنقيط (شنگيطي) الواقعة شرق ولاية آدرار بشمال موريتانيا.
والرجال هم: “محمد قلي” و”يحيي العلوي” و”إديج” و”أعمر”.
هذه القصة ترويها الجزيرة الوثائقية في فيلم بعنوان “شنقيط: ذاكرة موريتانيا”، ويتحدث فيه مؤرخون ورجال ملثمون يحرسون كنوز المعرفة أمام تقلب الزمن وزحف الرمال.
يقول أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي الدكتور السيد ولد اباه إن شنقيط كانت تسمى “المدينة التاسعة في الإسلام وهذه تسمية لا نعلم مصدرها، ولكنها دليل على شأوها وشهرتها”.
ويوضح المؤرخ الدكتور حماه الله ولد السالم أن “شنقيط” مفردة صنهاجية وتعني “عيون الخيل”، ومن المتوافق عليه أن المدينة أسسها رجلان، محمد قلي ويحيى العلوي.
أما يرب ولد أحمد محمود وهو صاحب محظرة (مدرسة تقليدية) بشنقيط فيقول إن المدنية أسسها أربعة رجال، محمد قلي وهو جد قبيلة لقلال، وثلاثة من قبيلة العلويين (إدواعلي) ، وكان هذا المسجد هو أول بنيان شيدوه. وعندما اكتمل بناء المسجد بنوا لكل واحد منهم دارا في محيطه، وتأسست مدينة شنقيط التي بلغت شهرتها الآفاق، وطغى اسمها على بلاد موريتانيا كلها، وصار كل من ينتمي إليها يُسمى ويتسمى بالشنقيطي.
وبينما يشير شيخ المحظرة إلى مئذنة المسجد، ينطلق النداء: أشهد أن لا إله إلا الله.. للتأكيد على أن الأوائل بدأوا عهد مدينتهم بالصلاة والقيام على شأن الدين.
لكن المسجد حينها لم يكن مكانا للصلاة فقط، وإنما كان يقوم بوظائف ومهام عديدة لخدمة المجتمع من قبيل، بث العلم وإدارة شؤون الحياة في المدينة. وحتى الحين ما تزال أرضية المسجد محصبة، وذلك تأسيا بمسجد النبي عليه الصلاة والسلام.
وقد تجولت كاميرا الجزيرة الوثائقية في سوق المدينة العتيقة، وتبدو في المشهد لقطات من وادي النخيل الذي ميز شنقيط على مر القرون. كما يظهر في الصور صِبْية ترتسم الحيرة على وجوههم، وشِيب تروي تجاعيدهم جانبا من تطاول الزمن وقسوة الصحراء.
عمران إسلامي.. بقايا من تراث الأندلس
يشرح المؤرخ “حماه الله” في حديثه بالوثائقي، خصائص العمران في شنقيط، وكيف تأثر بالتراث الإسلامي. يقول حماه الله: لكنه معقد في خصائصه وتشكيلاته، فالمآذن مثلا تشبه المآذن في بلاد “الميزاب” في الجزائر والجنوبيْن التونسي والليبي، وبعضها يشبه المآذن الأندلسية مع فوارق في الإمكانات المادية.
أما بناء المسجد وأقواسه فتشير إلى التأثر بالعمران المغربي الأندلسي، وهذه التقاليد وفدت إلى شنقيط عن طريق التجارة في الصحراء، وعن طريق البنّائين المغاربة والأندلسيين الذين استقروا في مدينة شنقيط وبعضهم أقام لفترة ونقلوا معارفهم لآخرين، وفي القديم كانت مباني المدينة كلها خليطا من الحجارة والطين. ويرى حماه الله أن البناء الإسمنتي الجديد في شنقيط يمثل القبح الذي يشوه جمال الحضارة والتاريخ والمعمار الإسلامي.

وفي لقطة بالفيديو ينهمك بناؤون في تشييد مبنى من الحجارة في طرف من المدينة، التي يعود عمرها لنحو 900 عام.
وفي الدور القديمة أدراج وتجويفات في الجدران، كان الشنقيطيون وما يزالون يرصّون فيها الكتب.
ومن مميزات المخططات العمرانية للمدينة أن الدار كانت تتكون من بيت للصيف وآخر للشتاء وثالث للنساء، بينما يقع في الجانب العلوي بيت الضيوف، وفي الوسط بئر تُحفظ فيها مياه الأمطار.
كنوز تعبق برائحة التاريخ
تزخر المكتبات القديمة في شنقيط بمخطوطات نفيسة تنبعث منها رائحة التاريخ، وتسرد قصص القوافل وأسرار الحياة في الصحراء. ويتحدث أحمد محمود سيف الإسلام عن تاريخ مكتبة أهل أحمد محمود، التي يزورها السياح والباحثون عن كنوز الثقافة والتاريخ.
وفي هذا المحور، يوضح “حماه الله” أن مكتبات المدينة كانت في العهد الأول ذات طابع فردي وأسري، فلكل عالم مكتبته الخاصة التي قد تصل إلى 200 مخطوط وحتى إلى ألف، وفي العادة فإن أهل المدن يحافظون على المخطوطات بحكم استقرارهم، وعلى العكس من ذلك فإن الكثير من المكتبات الصحراوية ضاعت مخطوطاتها، لأن أهلها كانوا يتنقلون بحكم عدم الاستقرار في نمط الحياة البدوية.

ولقرون عديدة كانت مكتبات شنقيط تزخر بالمخطوطات النفيسة، وكان العرف السائد يقتضي أن الأعيان والعلماء يعودون من رحلات الحج بمكتبات ضخمة.
أحد هؤلاء سيدي محمد ابن حبت القلاوي الذي عاد من رحلة الحج بمكتبة كبيرة، جلبها من الحجاز والقاهرة والمغرب في القرن الثامن عشر الميلادي. واليوم، تفرد لهذه المكتبة دار خاصة وتسمى بمكتبة “أهل حبت”.
ويقول “محمد ولد غلام” وهو من القيّمين على شأن المكتبة: ابن حبت اشترى مجموعة كبيرة من الكتب من مدن عربية وإسلامية أثناء عودته من الحج، وأتى بها إلى شنقيط.
كتب لا يعرف أين مكانها.. لكنها في شنقيط
ويُعرض في مكتبة أهل حبت مخطوط مرصّع بماء الذهب، ويعود لتاريخ 607 للهجرة، وهو مؤلّف حول التوحيد للفيلسوف المسلم أبو نصر محمد الفارابي، وفيها أيضا مخطوط يعود لعام 84 للهجرة ويتناول تفسير القرآن، وقد حرص أهل المكتبة على نسخه لأن ورقه أضعفه الزمن، ولم يعد ممكنا تصفحه.
وتضم المكتبات مصنفات حول علوم الفلك والرياضيات والطب، مما يعكس تأثر المدينة بالحركة العلمية في الأندلس ومصر وآسيا الوسطى، وبعض هذه الكتب وصل إلى شنقيط عبر الحجيج وقوافل التجارة والإهداءات. وهناك مخطوطات تذكر في المصادر المشرقية والمغربية ولا يعرف أين مكانها، ولكنها في شنقيط.

الوزير السابق العقيد “دحان ولد أحمد محمود” تحدث في الفيلم عن مخطوطات نفيسة في مكتبات شنقيط مثل “كتاب الفروق للقرافي”، والنسخة الأصلية من شرح الزرقاني لمختصر الشيخ خليل بخط المؤلف.
ويرى أن وجود النسخة بخط مؤلفها المصري في هذه المدنية الصحراوية الموريتانية “دليل على عمق الترابط حينها بين مختلف الحواضر العلمية في العالم الإسلامي”.
السياحة الثقافية
في إحدى مكتبات المدينة يصغي سياح غربيون لشرح حول طريقة صناعة الأقلام الخشبية والمعدنية التي كان القدماء يخطون بها الكتب، وآلية الفهرسة، وكيف يظهر الفن الإسلامي في صفحات هذه المخطوطات.
ويروي القائمون على المكتبات أن السياح الثقافيين غالبا ما يتأثرون بشكل بالغ عندما يطّلعون على الكتب المهددة بالضياع، ويتساءلون عن ما إذا كان لدى المدينة علاقات بمنظمات تساعدها في صيانة الكتب، وإصلاح ما لحق بها من ضرر.
وفي شروحه للغربيين يقول أحد أمناء المكتبات بشنقيط “لدينا علماء في مجال الفلك الذي يدرس مفهوم توازن الكواكب. المسلمون والعرب اكتشفوا قديما كروية الأرض وكان ذلك قبل غاليليو”.

وفي الفيلم الوثائقي تتحدث سيدة غربية قائلة: اطلعنا على مخطوطات قديمة جدا تعرفنا عبرها على العديد من العلماء. وإلى جانب الثقافة المتعلقة بالقرآن هناك علم الفلك والطب ومجالات أخرى. فعلا، إنه إرث علمي مهم جدا”.
أما مسيّر الرحلات السياحية “أحمد ولد ونان” فتناول علاقة السياح بشنقيطي، قائلا: أكثر ما يعجبهم فيها جغرافيتها كونها وسط بحر من الرمال، وكذلك التراث والثقافة من حيث المخطوطات والعمران والصناعة التقليدية.
وفي مشهد من الفيلم يظهر وفد غربي يتفيأ ظل جدار من الحجارة قبل أن يدلفوا إلى الداخل حيث أسدل الزمن ستاره على المخطوطات، بينما يستقبلهم أمين المكتبة مرحبا:
لو علمنا مجيئكم لفرشنا مهجة القلب أو سواد العيون
وجعلنا بين الجفون طريقا كي يكون المرور بين الجفون
ومن الكتب المتوارية في أدراج القرون، تنتقل الكاميرا إلى المقبرة حيث يرقد بناة المدينة وأبناؤهم وأحفادهم والكثير من العلماء والفقهاء والشخصيات التي أثّرت في سيرورة التاريخ بمدينة شنقيط.
الكتب والإبل والنخيل.. رحلات العلم والتجارة
تظهر في الفيلم لقطات لجِمال تجتاز بطحاء المدينة قادمة من السوق، في مشهد يعكس جانبا من ملامح النشاط التجاري في شنقيط في الحقب الماضية.
“محمد ولد أبنو” وهو أحد أعيان شنقيط، يقول إن سكانها أهل حَضر، وكانوا يصدّرون بضائعهم للمغرب ومالي والسنغال، ويجلبون في عودتهم بضائع أخرى من هذه المناطق.
لقد كانوا ينقلون الملح والتمور إلى جنوب مالي، ويسوقون الجمال إلى المغرب لبيعها هناك، ويجلبون الجلود والثياب والخشب، وينقلون التمور إلى السنغال ويعودون منها بمختلف البضائع. تلك هي سردية الحياة في شنقيط، فطوال العام يعيشون على ثمرات النخيل والمواشي والعلم والقوافل.

وقد كانت القوافل تلقى عنتا شديدا بفعل بُعد المسافة وقطع الطرق الذي كانت تقوم به قبائل بني هلال وسليم التي جاءت في القرن الخامس الهجري، بعد أن كانت متمركزة في الشمال الشرقي الليبي.
يقول المؤرخ حماه الله ولد السالم: بعض القبائل كان يحترم الحجاج وبعضها كان يُغير عليهم.
هذه المعاناة يلخّصها شاعر أندلسي في بيتين:
دون الحجاز ودون الغرب قاطعة من العوائق سدت دونها الطرق
عوف وزغب وديّاب وسالمها والهيّبون وروم البحر والغرق
الحج.. قافلة من ألف جمل
وعلى مر التاريخ كانت شنقيط نقطة لتجمع الحجاج في بلاد المرابطين ينطلقون منها، ويمرّون بالسودان ومصر، ثم يعودون بالبضائع والكتب والتجارب والقصص والحكايات.
العالم الأصولي الشيخ سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي أُهديت له فرس بمصر، وبدل الاستعانة بها في طريقه إلى الحج باعها واشترى بثمنها شرح الحطاب على مختصر خليل.

ويشير السيد ولد اباه إلى أن الرحلات التجارية كان لها دور كبير في تجديد ينابيع العلم والثقافة، والنخبة العلمية كانت تحج سنويا، فمنهم من يمكث ستة أشهر قبل العودة، ومنهم من يتـأخر لسنة أو اثنتين في العواصم العلمية لجمع الكتب والاستزادة من المعارف.
وتقول الحكايات إن قافلة الحج الشنقيطية كانت تتألف من ألف جمل تقضي ستة أشهر في الذهاب ومثلها في الإياب، وكانت الإبل تقوم بأعباء الحضارة والثقافة والدين.
العزلة والتصحر.. حضارة تبتلعها الرمال
لم تعد شنقيط كما كانت ملتقى تجاريا ولا مركزا لتجمع الحجيج، بل تعاني اليوم من العزلة بحكم بُعدها عن مناطق التأثّر والتأثير. وبينما يصبر رجال المكتبات وشيوخ المحاظر على نكد الزمان وقسوة المكان، فإن الناس البسطاء يعبّرون عن ضيقهم من المدينة التي فقدت حيويتها منذ عقود، وانحسر عنها الضوء بعد أن كانت مركز إشعاع.
ويروي الفيلم معاناة أناس تطاردهم الرمال يوميا. وما إن يحررّوا مساكنهم من زحفها حتى تكرّ عليهم وتبتلعها من جديد. أحد هؤلاء رجل بسيط بنى غرفة وسافر عنها لشهرين، وعندما عاد وجد الرمال ابتلعتها ولم يستطع أن يستعيد حاجياته بداخلها، فاكتفى ببناء خيمة إلى جوارها.

ويقول المؤرخ الدكتور “حماه الله ولد السالم” إن أكثر ما يهدد شنقيط هو التصحر الفكري والبشري لأن “أهلها من علماء وأعيان بدأوا يهجرونها”.
وعلى وقع أنغام الفنانة المعلومة بنت الميداح، يُختتم الفيلم بأمنيات بأن تعود شنقيط لسابق عهدها لتستعيد دَورها الحضاري والثقافي والأخلاقي، وكل شيء يرجع إلى أصله.