حالِمون.. مخرجون بلا هوية
الوثائقية-خاص
لا أدري لماذا خطر لي أن أبدأ العرض الكتابي لهذا الفيلم الوثائقي “حالمون.. مخرجون بلا هوية” من إنتاج الجزيرة الوثائقية بجملتين كنت قرأتهما في إحدى روايات الروائي البرازيلي العظيم “باولو كويلو” يقول فيهما:
“حارب من أجل أحلامك؛ وأحلامك ستحارب من أجلك.. تأكد وأنت تدفع ثمن أحلامك بأنك تسير في الطريق الصحيح”.
ولعل الذي دفعني لأبدأ بهذه الطريقة هي تلك الحروب الشرسة مع الحياة والظروف الصعبة التي خاضها ودفع ثمنها جهدا وسهرا وغربة ودموعا خمسة نماذج من الشباب الحالم الطموح الذين يتناول الفيلم قصصهم بشفافية وإحساس عال وعن قرب، مما يدفع المتابع الموضوعي لأن يتعاطف معهم لأبعد ما يمكن. أما المتابع الحسّاس الرهيف فلا يملك في بعض دقائق الفيلم إلا أن يشارك أبطاله بعض إحباطهم وكثيرا من دموعهم.
إسماعيل الوالي.. أحب السينما كما تحبون أولادكم
فهذا “إسماعيل الوالي” من مدينة “وزّان” المغربية يبحث عن ذاته في مجال الفن مقتنعا تماما بأن الفن يولد مع الإنسان، فيترك مدينته ويرحل إلى الرباط حيث الفرصة متاحة أكثر لممارسة هوايته في عالم السينما.
إسماعيل الذي لم يحصل على شهادة البكالوريا لظروف صعبة -كان بالنسبة لأسرته ذلك الفتى الصغير المحتاج للرعاية دائما- يترك أسرته ويرحل من أجل السينما، في الوقت الذي كان فيه مجرد الحديث عن السينما عيبا فادحا مثله مثل التدخين أو تناول الكحول.
وعلى الرغم من أن أسرة إسماعيل لم تتقبل الفكرة وخاصة والدته، إلا أنه كان يعتقد تمام الاعتقاد أنه سيصل يوما إلى حُلمه وهدفه مثل الفنانين الكبار الذين عشقهم، خصوصا مَثله الأعلى الفنان المغربي “رشيد الوالي”، فلطالما واظب وبشكل كبير على متابعته ومشاهدة أفلامه، وحتى تقليده في لباسه والتواصل معه على منصات التواصل الاجتماعي، بل وتعدى الأمر إلى أن كنّى نفسه بكُنيته “الوالي”، الأمر الذي رفضه الأب وجميع أفراد العائلة.
لم يثن ذلك إسماعيل عن نيّته وعزمه في البحث عن بطله الملهِم، فارتحل إلى الرباط وبدأ بحثه بطريقة تقليدية عبر السؤال هنا وهناك عن ضالته، واضطره ذلك لأن ينام عشر ليال في حديقة عامة ويتابع بحثه في النهار، إلى أن دفعه العطش يوما أن يدخل محل حلاقة ليطلب شربة ماء، فاستغلها فرصة وعرض على صاحب المحل أن يعمل عنده حلاقا لأنه سبق ومارس هذه المهنة، فجاءت الموافقة على الفور بل والسماح له بالنوم أيضا داخل المحل.
تابع إسماعيل العمل في المحل وتطور أكثر فأكثر، وجمع من النقود ما مكّنه من افتتاح محل حلاقة خاص به، لكنه ظل يتابع بحثه عن بطله المحبوب رشيد الوالي عن طريق الإنترنت دون كلل أو ملل، إلى أن أتيحت له فرصة حضور مهرجان سينمائي كان رشيد الوالي حاضرا فيه، فشاهده بشكل مباشر لأول مرّة وزاد به إعجابا ومحبة، ليصبح ذلك الحدث بداية تحقيق أحلامه.
وعلى الرغم من أن إسماعيل لم يكن على دراية حتى بأبجديات الإخراج، فإنه صوّر فيلمه الأول حين استعان بشركة لتصوير الأعراس مقابل أجر، لكن أحدا من الذين شاهدوا فيلمه لم يعترف به فيلما، مما دفع إسماعيل إلى تعلم مبادئ التصوير والإخراج بشكل ذاتي، لاستحالة الالتحاق بأي معهد يدرّس الإخراج أو السيناريو، فصوّر فيلمه الثاني بإمكانيات وأدوات بسيطة ومحدودة، وعرض جزءا منها في المكان الذي يقضي معظم وقته فيه، ويعتبر إسماعيل أن تصوير فيلم بهذه الإمكانات المحدودة جدا يدل على أنه محترف وقادر على أن يكون كما يريد.
يقول إسماعيل إن فيلمه الثالث بعنوان “خسارة” جاهز وسيتقدم به إلى بعض المهرجانات، وإنه ينظر إلى نفسه على أنه فنان كبير ولا ينقصه سوى البطاقة المهنية ليعترف به من حوله.
“أنا أحب السينما كما تحبون أولادكم”.. يقول إسماعيل ذلك وتجري من عينه دمعة ساخنة تلخص كل ما قال وفعل من أجل حلمه.
محمد ومحمود.. من حصار غزة إلى رحابة الدنيا في المغرب
وهذه غزة المحاصرة الصامدة، فكما أنها تنجب الأبطال والشهداء تنجب أيضا الموهوبين والفنّانين. فالغَزّيان محمد قاسم ومحمود عفانة صديقان جمعتهما المعاناة والظروف الصعبة كما جمعهما الفن والموهبة.
كان والد محمد –وهو كاتبُ السيناريو في إذاعة “صوت الحرية”- السبب في اكتشاف موهبته عندما أَسند إليه دورا في مسرحية وهو في الثامنة من عمره، أما محمود فقد بدأ مشواره في تعلم الموسيقى ثم أتاح له طلب أستاذه منه مشاركته في عمل مسرحي أن يحب التمثيل والمسرح. ومع غياب العنصر النسوي للتمثيل في غزة، كان محمد يكتب مشاهد مسرحية قصيرة فيما محمود يقوم بالدور النسوي ليشكلا فريقا مسرحيا مع مجموعة أخرى من الأصدقاء عرف باسم “فريق المركب للمسرح والفنون”.
وقد حالت ظروف الحصار في غزة بين محمد قاسم وحُلمه بدراسة السيناريو في أي معهد عال، حيث لا سينما ولا مسارح هناك سوى “مسرح المسحال” الذي تعرّض للقصف مؤخرا من قبل العدو المحتل.
يتحدث الصديقان بأسى عن تجربتهما المريرة في إنتاج فيلم “ذاكرة انفعالية” الذي كتبه محمد قاسم على مدى عامين وعرضه على كثير من الكتّاب والنقاد الفلسطينيين ليستمزج آراءهم بشأنه، إلى أن أصبح جاهزا للتصوير. ثم بدأت رحلة البحث عن منتجين ولكن دون طائل، فقد طرقوا كل الأبواب حتى أبواب الشركات الخاصة، إلى أن أتاح لهم القدر تصويره في المغرب بحكم التواصل الذي كان يقوم به محمد عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع فنانين وأصدقاء من المغرب أحبّوه ووثقوا به.
وعند محمد ومحمود عروض مسرحية كثيرة يشاركان بها في أي مهرجان تمكّنهم فيه الظروف أن يصلوه. فقد حصلا على 3 تأشيرات للمشاركة في مهرجانات بالمغرب، لكنهما لم يتمكنا من حضور أي منها بسبب إغلاق معبر رفح منفذ الغزيّين الوحيد إلى العالم الخارجي، حتى نجحا في المرة الرابعة بعد أن تمت دعوتهم من قبل “مهرجان الرواد الدولي للمسرح” في مدينة “خريبكا” المغربية، وبعد عناء وجهد ومرض وانتظار لثلاثة أيام على المعبر وجلب العديد من التصاريح والكتب الرسمية من شتى الوزارات في غزة، سمح لهما بالخروج، وطارت الطائرة بجسدَيهما، لكن روحَيهما كانتا تطيران على أجنحة من الفرح والسعادة انتهت بالرقص والغناء في مطار الملك محمد الخامس.
انتهى المهرجان الذي تضمن عرضا مسرحيا لهما حاز إعجاب الجمهور، وحصلا من خلاله على شهادة شكر وتقدير، ليبدآ بعدها الاستعداد للعودة إلى الوطن، غير أن معبر رفح المغلق لأسابيع حال دون تلك العودة.
وببقائهما في بالمغرب شاركا في عرض مسرحي في مدينة “آسفي”، لكن تواصل إغلاق المعبر اضطرهما إلى مغادرة “خريبكا” إلى الرباط والنزول عند أحد الأصدقاء، وكانا مضطرين للتعايش مع المغاربة على صعوبة لهجتهم وسرعتها، وكان لا بد من عمل يعتاشان منه فافتتحا محلا لبيع الحلويات -المهنة التي كانا يتقنانها تماما- على أمل أن تسوى أوضاعهما هناك فيحصلان على البطاقة المغربية، فقد أحبهما المغاربة وساعدوهما.
يقول محمد ومحمود إنهما لم يشعرا أبدا بالغربة، فكأنهما في وطنهما وأكثر. وبحشرجة ودمعة يتذكر محمود عفانة وصية والده التي دفعته كلما تذكرها للتمسك أكثر بتحقيق حلمه: “يابا.. إذا بِدّك ترجع من الغربة ارجع وبإيدك إشي.. وإلا موت هناك أحسن”.
ويعِد أستاذه وأمه بالرجوع إلى غزة مرفوع الرأس محققاً حلمه. وبصوته الجميل يثبت محمد قاسم أنه ليس في غربة، بل بين أهله وأحبته في المغرب وسيحقق حلمه لا محالة، ويشدو بموال من التراث الفلسطيني العريق:
يا ابني اسمع حكمة هالزمان
حكمة ورثتها من جدي وعلمتها لابني وبنتي
حب الوطن إيمان.. حب الإيمان أوطان.
يوسف بن قدّور.. على خُطا شاروخان
أما النموذج الرابع من هؤلاء الموهوبين الحالمين فهو المغربي يوسف بن قدّور الذي يعمل حارس أمن خاص، فقد عشق التمثيل منذ الصغر، وكان مولعا بالممثل الهندي الشهير “شاروخان” وشديد التأثر به لدرجة أنه يقلده في اللباس والمشي على طريقته وتصرفاته، الأمر الذي دفعه في أحد الأيام أن يعتلي المنصة على الشاطئ ويأخذ الميكروفون من المذيعة ويبدأ بالغناء أمام الناس المجتمعين كما يغني شاروخان، فنال إعجاب الجميع هناك.
كان يوسف شغوفا بمشاهدة الأفلام الهندية لدرجة أنه كان يشاهد 6 أفلام في اليوم الواحد، وقد خسر مبالغ كبيرة على شرائها. فحلمه أن يصبح ممثلا جعله يجتاز الكثير من تجارب الأداء في هذا المجال حتى اختير يوما كمشارك في عمل تلفزيوني في القناة الثانية المغربية، وكانت فرحته يومها لا توصف. لكن لم يُعرض عليه بعد ذلك أي عمل، مما دعاه لأن يتبنّى الحكمة القائلة “الحاجة أم الاختراع”، فخطرت له فكرة أن يكتب سيناريو يفرض فيه نفسه على المجتمع الفني، وفعلا بدأ يبحث في الإنترنت عن كيفية كتابة السيناريوهات وعن فنون الإخراج وتقنيات التصوير، حتى خرج بفكرة كتبها وعرضها على عائلته وأصدقائه ولقيت إعجابا منهم واستحسانا، فراح يدّخر المال ليصوّر فكرته كما تخيلها هو، وبدعم من عائلته التي رأت فيه موهبة تستحق الدعم، بدأ بصناعة فيلم بسيط غير مكلف نال إعجاب من حوله، ليكون الكاتب والمخرج الذي أخرج حلمه كما يراه على أرض الواقع.
ثم قدّم يوسف فيلمه “ليلى” للعديد من المهرجانات، لكن لم يُقبل رغم قناعته الشخصية بأن فيلمه يرقى إلى المستوى الاحترافي، وقد أثر هذا الرفض تأثيرا كبيرا في نفسيته، إلى أن جاءت الفرصة السعيدة يوم وصلته رسالة إلكترونية تفيد بقبول فيلمه هذا للمشاركة في أحد المهرجانات السينمائية في الهند، ثم فرحته العظمى حين علم أن فيلمه حاز على جائزة أحسن فيلم اجتماعي في ذلك المهرجان؛ فكادت الفرحة تقفز من عينيه وهو يتحدث في هذا الفيلم عن تلك الجائزة التي استلمتها نيابة عنه شقيقته لعدم تمكنه من الحضور بسبب الضائقة المالية التي كان يمر بها وعدم توفر أي دعم له من الجهات المعنية في المغرب مثل وزارة الثقافة أو المركز السينمائي، مع أن فيلمه قد مثّل المغرب خير تمثيل في الهند من بين 74 فيلما عالميا وعربيا.
لقد حزّ ذلك في نفسه؛ أن يفوز فيلمه ولا يستلم جائزته بنفسه. يقول يوسف: صحيح أني لا أحمل بطاقة مخرج، لكن المخرج يكمن في قلبي، وأنا المخرج الوحيد في السينما المغربية الذي أوصل ثقافة وفن المغرب ورفع راية بلاده ونافس أفلاما عالمية في بوليود.
ويتابع وعيناه اغرورقت بالدموع: أنا لا أطلب المستحيل، أطلب فقط بطاقة مخرج تسمح لي بالتصوير بأريحية والمشاركة في المهرجانات السينمائية.
ويُنهي كلامه بكل ثقة وأمل أنه سيصبح مخرجا كبيرا وسيحقق حلمه يوما ما.
عزيز أوبييه.. عصفوري في الجنة
ملاحقته هو وصديقه لفتاتَين أثناء عودتهما من المدرسة كان السبب بالتحاق “عزيز أوبييه” (من حي العكاري العريق في المغرب) بدار الشباب المغربي العربي لتبدأ من هناك شرارة حب الفن عنده.
كان حلمه أن يصبح فنانا مشهورا وأن يلتحق بالمعهد العالي للمسرح، لكن وفاة والده حالت دون ذلك بحكم أنه الابن الأكبر وعليه أن يتحمل المسؤولية، ثم بسبب زواجه وولادة طفليه وسفره لجنوب المغرب للعمل، فبات من المؤكد أنه بعيد جدا عن طريق الفن والمسرح.
وكانت إصابة ابنه “محمد يزيد” بسرطان الدم عام 2013 ثم وقوف مجموعة من الفنانين والمخرجين المغربيين إلى جانبه في محنته بمثابة نقطة تحول في حياة أوبييه. وبإقامته شبه الدائمة مع ابنه في المستشفى صار مضطرا للتدرب على تقليد بعض الممثلين مثل “اللمبي” تلبية لرغبة ابنه ومن أجل أن يدخل السرور والبهجة إلى قلبه، فتلك اللحظات ورغم ألمها كانت تشكل عنده قمة السعادة وقمة الامتنان والشكر للفن الذي استطاع من خلاله أن يسعد قلب ولده الصغير المريض.
وبعد وفاة ولده “محمد يزيد”، يقول أوبييه بحسرة وألم أنه كان يرى ابنه في المنام يحفّزه ويدعوه ليصبح ممثلا أو مخرجا، لذلك خطر له أن يؤلف كتابا يقص فيه أحداث سنوات العلاج التي قضاها مع ابنه سمّاه “عصفوري في الجنة”، لكن أحد أصدقائه أقنعه بأن يحوّله إلى سيناريو فيلم؛ ففعل وقدمه لأحد أصدقائه المخرجين، لكن صديقة هذا خانه وسرق جزءا من فكرة الفيلم وعرضها في فيلم قصير له، فكانت صدمة أوبييه بذلك كبيرة جدا، لكنها كانت نقطة تحوّل إيجابية دعته لأن يتعلم الإخراج بنفسه ويخرج فيلمه القصير الأول بعنوان “الرسالة”.
إصرار أوبييه كأَب مسؤول فقَد قطعة من قلبه -عصفوره الصغير محمد يزيد- وفنانٍ يمارس هوايته؛ جعله يتمسك أكثر بالدفاع عن فيلمه “عصفوري في الجنة” على الرغم من عدم حصوله على بطاقة مخرج ولا على أي دعم لإنجاز هذا العمل.
يقول أوبييه وتلمع في عينه نظرة أمل وفي الأخرى نظرة ألم: سأخرج فيلم “عصفوري في الجنة” إلى النور وسأدافع عنه بشتى الوسائل وسأكتفي لو شاهده 10 أشخاص أو حتى عائلتي فقط لأثبت أنني مخرج شاب هاو وطموح وبدون بطاقة مهنية.
هذه خمسة نماذج طموحة حالمة مرّت في هذا الفيلم الوثائقي الرائع؛ حاربت ولا تزال من أجل أحلامها لتثبت مقولة “روبرت شولر” التي ابتدأ بها مُعدّ الفيلم: المكان الوحيد الذي تصبح فيه أحلامك مستحيلة هو داخل أفكارك أنت شخصيا.