موظفون لكن سعداء.. عندما يُهدم الهرم الوظيفي التقليدي
خاص- الوثائقية
يسألني الناس يوميا: كيف تتحكم بكل تلك المصانع المنتشرة حول العالم؟ فأضحك وأقول: في الواقع لا أتحكم بها. هكذا يعترف مدير شركة عالمية عملاقة بأنه لا يتابع أداء الموظفين، وإنما منحهم الحرية في طريقة العمل، فانعكس ذلك بشكل إيجابي على إنتاجهم وسعادتهم.
وعندما استُدعي رجل أعمال بلجيكي لإدارة شركة تواجه الانهيار في جنوب فرنسا، اجتمع بالموظفين، وقال لهم: من الآن ليس لكم مدير ولا مشرف ولا مراقب، اعملوا بالطريقة التي تناسبكم ويعود لكم وحدكم تنظيم جدول العمل والإجازات.
تشير الأرقام إلى أن نسبة الموظفين الذين يستيقظون وهم سعداء ومتحمسون لا تتجاوز 10% في فرنسا. أما الموظفون الذين يعملون من أجل الراتب ولا يقومون بأي مبادرات فتبلغ نسبتهم 58% في ألمانيا و61% في فرنسا. وهناك فئة ثالثة: أناس يشعرون بالتعاسة في وظائفهم ويذهبون كل يوم إلى العمل كي يظهروا تعاستهم وهؤلاء يتعرضون للدمار النفسي.
قررت بعض الشركات تغيير الأنظمة جذريا واتخاذ نماذج جديدة في العمل، ولكن السؤال المطروح هو: هل من الممكن ترك الموظفين يأخذون زمام المبادرة ويعيدون ترتيب الأمور الخاصة بهم؟
وتحت عنوان “موظفون ولكن سعداء”، تروي الجزيرة الوثائقية تجارب شركات ناجحة تعتمد مبدأ “الإدارة الحرة”، وتلغي التراتبية الوظيفية، مما يمنح العمال السعادة والشعور بالثقة، ويؤدي في ذات الوقت لزيادة المداخيل والإنتاج. هذه الشركات تقع مراكزها في ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وبلجيكا والهند، وجميعها تتحدى الأفكار التقليدية لأنظمة العمل.
القائد الحقيقي.. متعة ومرح بنكهة العنب
ينطلق الفيلم من الشوارع الفسيحة والأراضي السخية في كاليفورنيا حيث تقع شركة “سي سموك سيلارز” التي يملكها “بوب ديفيدز” الذي عمل من قبل مديرا لشركات متعددة الجنسيات، وهو يطبق مقولة “لاوتسو” (فيلسوف صيني قديم): “القائد الحقيقي لا يتدخل في العمل”، ولذلك فقد تعاقد مع المديرين والموظفين والعمال وتركهم وشأنهم، وحذّرهم من التواصل معه أو استشارته في اتخاذ القرارات.
يقول “ديفيز”: القائد الناجح لا يعطي إجابات.. عليك طرح الأسئلة إلى أن يجد لها الناس إجابات ويعطوك إياها. عليك ألا تنخرط في مشاكل الآخرين.
بدأت الفكرة قبل 20 عاما عندما اشترى “بوب ديفيدز” أرضا لزراعة كروم العنب، وأسس شركة صغيرة يريدها أن تكون محطته الأخيرة قبل التقاعد. ويوضح أنه أسس شركات من قبل وكانت الواحدة منها تضم ما يقارب 8 آلاف موظف، وأدرك أن ثمة تناسبا عكسيا بين عدد الموظفين والمتعة في العمل لذا أردت شركة تضم القليل من الموظفين وتركز على المتعة والمرح.
“فيكتور غاليغوس” المدير العام لشركة “سي سموك سيلارز” يقول إن المالك “بوب ديفيدز” كان يهدف لزراعة أفضل عنب أسود في الولايات المتحدة أو حتى في العالم. ويحرص “غاليغوس” على عدم أخذ أي قرار من دون استشارة زملائه، أما المالك فلا يتدخل في عملهم بتاتا، العمل كله منوط بهم وإن قاموا به بطريقة خاطئة.
الحرية والثقة.. لم تعد لديكم حجة
في عام 2003 واجهت الشركة وضعا سيئا خلال موسم تفتّح الأزهار، ونتجت عن ذلك مشاكل جمّة اقتضت أن يتصل “غاليغوس” بالمالك الذي تقاعد معهم وذهب للعيش في جزر الباهاماس، ليخبره بأنهم يواجهون طقسا سيئا في الربيع وعليهم إلقاء ما قيمته مليون دولار من الثمار في القمامة، فرد عليه المالك قائلا: “لم تتصل بي؟ إنني لست مستعدا لأن أتحمل عنك أعباء مسؤوليتك”، وأغلق الهاتف في وجهه.
وتعلق مديرة المبيعات “كاتي لوتجي”: مع “بوب ديفيدز” الأمر سيف ذو حدين، لقد منحنا كل الحرية والثقة للقيام بالعمل على أكمل وجه، ولذا يتوجب علينا القيام به، فليست لدينا حجة بعد ذلك.
هذا النمط من الحرية أكسب مسؤولي الشركة ثقة كبيرة، وجعلها تحقق أرباحا هائلة. وكل عام تقوم “كاتي لوتجي” ببيع نحو 150 ألف زجاجة مشروب من خلال الإنترنت بمتوسط سعر يبلغ 60 يورو. ولكن هل يمكن تطبيق تجربة هذه الشركة الصغيرة على الشركات الكبرى؟ الجواب هناك في جنوب فرنسا، حيث تقع شركة “بولت” التي أسسها “إيميل بولت” عام 1883، لتصبح لاحقا لاعبا رئيسيا في صناعة البسكويت.
“نيكول بوسكي” تعمل في الشركة منذ 30 عاما، وقد التحقت بها عندما كانت الشركة تتبنى طرق الإنتاج التقليدية. تقول “نيكول”: كان النظام تراتبيا بحتا، وكان لدينا مدير للمصنع وآخر للموظفين وكبير للعمال، ومديرون لخطوط الإنتاج، إنها ثقافة تراتبية صارمة تقتضي تبعية المرؤوسين لمديريهم، بل ويرسلوننا إلى مكتب المدير إذا أخطأنا.
كذلك يقدم العامل رضوان بوزيدي رواية مطابقة: كنا مثل الجنود أو الرجال الآليين وعلينا فعل ما نؤمر دون طرح أسئلة.
كل شيء تحت تصرفكم.. الحل العبقري
وفي حقبة التراتبية، كان “فلوران كوربيلا” مديرا لأحد خطوط الإنتاج، وكان عليه حل مشاكل العمال وترتيب إجازاتهم وضمان أن كل شيء يسير على ما يرام. لكن الشركة واجهت أوضاعا صعبة عام 2001، فجاء رجل الأعمال البلجيكي “كارلوس فيريكيرين” لإنقاذها، وقرر قلب الأمور رأسا على عقب ووضع نهجا جديدا.
انطلق “فيريكيرين” من أن إغلاق المصانع وطرد العمال وخفض التكاليف أمور لا تحتاج لقدر كبير من الخبرة، ولذلك لم يقم بأي من هذه الإجراءات. وفي عام 2006 جمع كل عمال الشركة والمصنع في جلسة عصف ذهني، وطلب من كل شخص طرح أفكار جديدة بغض النظر عن منصبه وموقعه. تروي العاملة “بوسكي”: وُجهت إلينا الدعوة لنكون جزءا من قرار هذه المؤسسة، وطرحوا علينا أسئلة من قبيل: كيف تتخيل المصنع في المستقبل، وكيف يمكن تحسين الأمور؟
بعد عدة اجتماعات، تقرر التخلص من النظام التراتبي وأدرك العمال أن بإمكانهم مواصلة الإنتاج دون أن يراقبهم أحد. في بداية المرحلة حدث بعض الصدام، ومعظم المديرين السابقين تركوا العمل لشعورهم بأن فقدانهم لأوصافهم كمديرين يقلل من قيمتهم أمام الناس، وحتى أن بعض الموظفين لم يتحمسوا للأمر في البداية، واعتقدوا أن الشركة تتجه إلى الهاوية.
يقول “كارلوس فيريكيرين”: الأمر أسهل حين تتلقى الأوامر، لكننا حين أخبرْنا الموظفين بأن القرارات ستعود لهم، أصبح ذلك صعبا عليهم، مما تطلب المزيد من الوقت والجهد، ولكن كان عليهم التعامل مع الأمر. والآن لا يوجد أي مدير أو مشرف يلقون اللوم عليه. وقد اكتسب العاملون مهارات جديدة، فهم يضعون الخطط وجدول العمل الأسبوعي، ويحددون مواعيد الإجازات وغير ذلك من المهمات التي كان المديرون يقومون بها.
ولقد فوجئ الجميع بنجاح الخطة، وعادت الشركة لتحقيق الأرباح وتوظيف أناس جدد، وعمدت شركات أخرى لإرسال موظفيها للتدرب لدى شركة “بولت” لتعلم سر منهجيتها. وردّا على هذا الانبهار، يعلق “كارلوس” قائلا: يظنون أننا من المريخ.. نحن من المريخ في نظرهم.
الشركة المتحررة.. إليك زمام المبادرة
باتت شركة “بولت” نموذجا لما يسمى “الشركات المتحررة”، وهو مصطلح وضعه الإداريان “براين كارني” و”ايزاك غيتز” في كتابهما “حرية الشركات”، فـ”غيتز” أستاذ في الإدارة والابتكار وقد درَس وضعيات أكثر من 200 شركة حول العالم قبل الخروج بتصوره.
يتحدث “غيتز” في الفيلم قائلا: نُعرّف الشركة المتحررة بأنها تلك التي لدى موظفيها الحرية الكاملة لتولي المسؤولية وأخذ زمام المبادرة بأنفسهم دون إشراف أو سير وفق إجراءات محددة.
لكن تحرير الشركة على هذا النحو ينطوي على مخاطرات، لأن كل مجال يضم نسبة من المديرين الصغار. فوفق “جون فرانسو زوبريست” الذي يُعتبر رائد الشركات المتحررة، فإن ثمة مديرين زائدين عن الحاجة. فـ3% من الموظفين يضيّعون الوقت، وبسببهم وُضعت هيكلية لإدارة الـ97 % الباقين، ويتعرض العاملون للاستبداد جراء هذه الهيكلية، وينخفض إنتاجهم بسبب ذلك إلى النصف”.
وليس العمال وحدهم من يعاني من هذه الهيكلية، فخلال الأعوام الثلاثين الأخيرة ومع ظهور تكنولوجيا المعلومات، طُبقت معايير الإدارة الصناعية على كل المهن، وتضاعفت أعداد المناصب الاستشارية والإدارية والإشرافية، وهذا ما خنق الموظفين وجعل الفرد يشعر بالضيق في عمله.
الوظائف العبثية.. إعادة ضبط البوصلة
أما الأستاذ بكلية لندن للاقتصاد الأميركي ديفيد غريبير فلديه تفسير آخر يُلقي فيه باللوم على الزيادة الهائلة في ما يسميه “الوظائف العبثية”، فيقول: ثمة قاعدة عامة؛ كلما كان عملك مفيدا للآخرين، دفعوا لك راتبا أقل، باستثناء الأطباء والطيارين، فهم يقومون بعمل ضروري ويجنون في الوقت نفسه مالا وفيرا، وهو ما لا ينطبق على الوظائف الأخرى التي لها فوائد اجتماعية واضحة وجلية مثل الممرضين وعمال النظافة.
ويتابع قائلا: لو لم يكن لدينا عمال نظافة لحصلت كارثة، ولكن غياب مستشاري الموارد البشرية لن يشكل فارقا، ولو غاب محامو الشركات والمستشارون الماليون فلربما كان العالم أفضل.
ويشدد “غريبير” على أن ثمة مناصب معينة ظهرت في المؤسسات البيروقراطية، من ضمنها الشركات التي لا يصنع أصحابها سوى مراكمة العمل على أناس آخرين. وفي نظره، يقتصر عمل هؤلاء على إضافة أنماط جديدة من تدقيق الحسابات، وتقييم الموظفين الذين يقيّمون الناس. وعندما تواجه الشركات مصاعب مالية، فإن جُل ما تقوم به هو تخفيض عدد العمال الذين يصنعون ويصلِحون وينقلون ويقومون بكل شيء، وفي المقابل يخلقون المزيد من الوظائف الإدارية التي لا يفعل أصحابها شيئا.
ويشير “جون فرانسو زوبريست” إلى أن الشركات التقليدية عندما تواجه أية محنة تقوم بتسريح الطواقم الإنتاجية ومندوبي المبيعات وتحملهم الأخطاء، ثم تعيّن أناسا غير منتجين. ويذكّر بأن العمال هم من يطعمون العالم ويطعمون المديرين والإداريين، فالمديرون لا يُضربون، أما حين يضرب العمال فستكون هناك مشكلة”.
الموظف صالح بطبعه
لكن “فرانسو زوبريست” لم يقبل بوجود الموظفين العبثيين في شركة “فافي” بشمال فرنسا عندما كان مديرا لها. الشركة تنتج “شوكة مبدّل سرعات السيارة”، وخلال العقدين الأخيرين أصبحت من أهم مورّدي قطع الغيار في أوروبا، وبلغت حدا كبيرا من النجاح حتى أصبحت تصدّر منتجاتها إلى الصين التي لا تستورد عادة القطع الصناعية من فرنسا.
تولى “زوبريست” إدارة هذه الشركة العائلية عام 1983 وكان عمّالها آنذاك يعانون من الإحباط، وما أن طبق عليها أفكاره الجديدة حتى تحولت إلى نموذج للشركة ذات الحلول المبتكرة، وقد لاقت هذه الطريقة نجاحا باهرا بدليل أن الناس يتقاتلون الآن كي يعملوا في هذه الشركة، على حد قول “زوبريست”.
وتقول “إيميلي ليغريس”: أنا سعيدة إلى درجة أنهم حين أخبروني بأني حصلت على وظيفة، بكيت من الفرحة. وحاليا، يبلغ عدد عمال الشركة 400 عاملا، وهم راضون عن أوضاعهم إلى حد أنهم لم يفكروا في تشكيل نقابة.
ويرى “زوبريست” أن الإنسان بطبعه صالح، ولا يحتاج إلى من يشرف عليه، ويقول إنه يثق في العمال ومندوبي المبيعات، ويمكنهم تنظيم أنفسهم وهذا يسعدهم. وقد خفض “زوبريست” السلم الوظيفي إلى الحد الأدنى، وأنشأ فِرقا مستقلة تتولى كل منها معملا مصغرا وتتعامل مع زبون معين، مما قاد لهيكلية جديدة أثبتت فاعليتها ومكنت الشركة من جني أرباح هائلة أوصلتها في بعض السنوات إلى منح الموظفين علاوات بقيمة راتب ثلاثة أشهر.
الموظف الكسول.. اجتثاث المشاكل من جذورها
إن الثقة تعطي نتائج أكبر من المراقبة، وإن كلفة الرقابة والإشراف كبيرة جدا، فالمشاكل الناجمة عن غياب الرقابة تكلف أقل بكثير من وجودها. ولكن كيف نواجه مشكلة وجود موظف كسول في ظل غياب أي مسؤول؟
هذا السؤال يجيب عنه “دومينيك فيرلانت” المدير الحالي لشركة “فافي”: إذا تأخر أحدهم عن العمل، فهذا يعني أن لديه مشكلة من نوع ما، وإذا تكرر الأمر نحاول في البداية حل الأمر داخل المعمل المصغّر، فـ90% من المشاكل تجد طريقها للحل بسرعة.
يقول “مايكل باريده” وهو أحد المسؤولين في الشركة إنه في مثل هذه الحالة يتحدث للعامل حتى يفهم منه ما إذا كان يواجه مشاكل ويشعر بعدم الراحة، أو يرغب في الانتقال لقسم آخر. ويضيف: في عام 2004 ذهبنا الى اليابان لزيارة بعض الشركات هناك، فالثقافة اليابانية مختلفة، وبالنسبة لهم مصلحة الشركة قبل العائلة، إنهم يعيشون من أجل الشركة، وهذه ليست الحال هنا.
من اليابان أخذوا فكرة “التطور المستمر” وطبقوها على شركة “فافي”، وعلقوا صندوقا في المدخل يضع فيه كل شخص الفكرة التي يراها مناسبة للتطبيق. وفي كل شهر تجتمع لجنة لفرز مقترحات الصندوق، وتمنح جائزتين لصاحبي أفضل فكرتين، قيمة الأولى 1000 يورو، والثانية 500 يورو.
الإدارة الرشيقة ونظام الدوائر.. ديناميكية التطور
مرة أخرى يعود مخرج الفيلم إلى “إيزاك غيتز” الذي يقول إن اليابانيين لديهم العديد من الأفكار الجديدة، وجميعها تتمحور حول أنه: لا أحد أجدر بحل مشاكل العمال من العمال أنفسهم، ومن يعمل يعرف أكثر، وهي الديناميكية التي أعانت اليابان على التطور بشكل مذهل ومكنت من وصول منتجاتها الجيدة إلى مختلف الأسواق العالمية، وهو ما أزعج المنافسين في الغرب.
وعند هذه النقطة يعود فريق الفيلم من جديد إلى الولايات المتحدة ليتحدث إلى “ريتش تيرلينك” المدير التنفيذي السابق لشركة “هارلي ديفيدسون” التي واجهت خسائر فادحة إثر وصول الدراجات النارية اليابانية للسوق الأميركية في السبعينيات.
يقول “تيرلينك” إنه استُدعي لإدارة الشركة المتورطة في الديون، وكان لزاما عليه الاقتباس من أسلوب الإدارة الرشيقة لدى اليابانيين، فغيّر من الهيكلة الإدارية، وبدلا من البيروقراطية الراسخة في مستويات مختلفة ابتدع “نظام الدوائر” الذي أزال كثيرا من الحواجز بين العمال والإدارة والنقابات.
وعن هذا التحول يقول “روبرت سكوت” وهو مدير سابق لخدمات التجزئة في الشركة: تأقلم الموظفون مع التطورات بسرعة كبيرة، وباتوا يشعرون أن بوسعهم الحديث إلى المديرين دون أن يُطردوا فأبواب المديرين مفتوحة، ومع هذا الجو الجديد خرج الموظفون المتحررون بعدد من الابتكارات فارتفعت المبيعات والرواتب والمعاشات التقاعدية.
وفي عام 1997 تقاعد “ريتش تيرلينك” فبكاه الموظفون، ولاحقا تأثرت الشركة بغيابه، فبدأ نظام الدوائر يتداعى، وعادت التراتبية الوظيفية من جديد.
تقييم القادة.. لا لعودة البيروقراطية
إذن كما هو واضح فمن الممكن تطبيق فكرة الإدارة المتحررة أو الرشيقة على الشركات الكبيرة، ولكن ماذا عن الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات؟
خلال الخمسينيات من القرن الماضي كانت لدى “بيل غور” أفكار مبتكرة للغاية، وكان يعمل خبيرا كيميائيا في شركة “دي بون”، لكنه كان دوما يلقى الرفض من رؤسائه، فأصيب بالإحباط وترك العمل وأسس شركة “دبليو. إل. غور” عام 1958. ثم اخترع ابنه مادة الغورتيكس الجديدة التي استخدمت في ملابس رجال الإطفاء والمغامرين الجوّالين. وقد اعتمد “بيل غور” على فلسفة “اكسب المال وأنت تستمتع بذلك”. تضم الشركة الآن أكثر من 10 آلاف عامل منتشرين في خمس قارات، وتجني 3 مليارات دولار سنويا، وتمنح موظفيها قدرا كبيرا من الحرية.
وفي لقطة قديمة يظهر “غور” قائلا: يسألني الناس يوميا: “كيف تتحكم بكل تلك المصانع المنتشرة حول العالم؟ فأضحك وأقول: في الواقع لا أتحكم بها”. لكن، حتى بعد رحيل مؤسسها عام 1986، واصلت الشركة تلك المسيرة باستمرار.
وقد شاركت في هذا الوثائقي الرئيسة الحالية “تيري كيلي” فتحدثت عن بساطة “غور” واستقباله للموظفين في بيته، ولا يعني غياب التراتبية في الشركة حصول الفوضى. تقول المسؤولة “كارتسا غوتزي”: في الحالات المثالية يتضح مباشرة من يمكن أن يكون القائد، حيث يحب الزملاء العمل مع شخص معين، لأنه يتمتع بالكفاءة والرؤية ولأنه قائد بالفطرة. ولكن أحيانا لا يكون ذلك واضحا، وبالتالي تنظم الشركة جلسات تقيّم من خلالها القادة، ويمكن للزملاء اقتراح أشخاص يرونهم مؤهلين للقيادة.
في شركة “دبليو.أل.غور” لا يتم التوظيف بناء على المؤهلات العلمية، وإنما للمقدرة على التطور وتقديم الأفكار الجديدة. ومنذ فترة قبلت الشركة موظفا كان يعمل جزارا، ولكنهم أدركوا أنه سريع البديهة، والآن يعمل قائدا في قسم التصنيع بفضل ذكائه وحماسه، وليست لديه أية شهادات علمية ولا مؤهلات تقنية.
الموظف أولا.. والزبون ثانيا
في الهند تجربة أخرى بطلها “فينيت نايار” المدير التنفيذي السابق لشركة “اتش. سي.ال”، الذي ضاعف عدد الموظفين من 30 إلى 90 ألفا ، واتبع مبدأ “الموظف أولا والزبون ثانيا”.
يقول “فينيت نايار”: في المنزل تحولت عملية توجيه الأوامر إلى التعاون المشترك؛ الأبوان دورهما أصبح إرشاديا٬ وعليهما مساعدة الأطفال للوصول إلى ما يريدون، وينبغي أن يصل هذا التغيير إلى العمل أيضا، فالثقافة التعاونية تساعد الشركات على رفع الإنتاج.
وفي ضواحي سان فرانسيسكو، يتسع وادي السيلكون لمقرات الشركات الرقمية الكبيرة مثل “غوغل” و”آبل” و”مايركوسوفت” و”ياهو” و”فيسبوك”. وتشتهر هذه الشركات بأنها أماكن مميزة للعمل. وقد درس “إيزاك غيتز” الامتيازات والعلاوات التي تقدمها للموظفين، ويرى أنه من السهل على الموظف الحصول على راتب أفضل وترك الشركة التي يعمل فيها، لذلك من المهم لنا معرفة طرق الحفاظ على الموظفين.
من بين هذه الطرق، المطعم المجاني في العمل، وصالونات التدليك وقاعات ممارسة اليوغا، وتأمين المواصلات ذهابا وإيابا، فإن توفرت تلك الأشياء أو بعضها فسوف يحب الناس العمل، ولكن ليس إلى درجة الحالة في الشركات المتحررة التي يشعر موظفوها بأنهم موضع ثقة وتقدير.
ويشير “فينيت نايار” إلى أهمية الرواتب والمزايا، “ولكن 70% من سعادة الموظف تأتي من الثقة ومنحه حرية الاختيار.
أما عالم الكومبيوتر “جارون لانير” فيضيق ذرعا بالتطورات التقنية، ويتصور بأنه عندما يتحرر الناس من تراتبية القرن التاسع عشر، ويُنقلون إلى تراتبية القرن الـ21 فإن الأمر يكون أسوأ، فالشبكات الرقمية تتيح للشخص الواحد الثروة والنفوذ، وهذا يعيدنا إلى زمن الباشوات والملكيات المطلقة، وكأننا نعود للوراء كثيرا، فأنا أجد أن الأمر أسوأ من القرن التاسع عشر.
ويقول: انظر إلى فيسبوك الذي يبدو مفتوحا ويوصل الجميع بالجميع، ولكنه مملوك لشخص واحد، ويتحكم فيه شخص واحد، وهذا أمر مذهل.
اعمل من منزلك واختر قائدك.. طرق مبتكرة
في بلجيكا استدعي “فرانك فان مساينهوف” إلى وزارة الضمان الاجتماعي، وأوكلت له مهمة إصلاحها بينما كانت في حالة احتضار. يقول “مساينهوف”: كانت وزارة تقليدية، وكانت مشكلتنا في الحصول على الموظفين الذين نحتاجهم؛ لأن الناس يشعرون بأننا جامدون ومملون.
فكّر الرجل في استقطاب مواليد ما بعد 1984، ونفّذ دراسة حول ثقافتهم وأفكارهم. يقول: أردنا تحويل المؤسسة لتكون ملائمة لثقافاتهم، لا لثقافتنا نحن. بعد ذلك أتاح للموظفين فرصة العمل من منازلهم ثلاثة أيام في الأسبوع، وهو أمر رائع بالنسبة لأب لديه ابن في الثامنة من عمره. ومع النظام الجديد، تحسن مستوى العمل في الوزارة خلال وقت قصير جدا، ففي منتصف الأسبوع، تبدو الوزارة غير مزدحمة، لأن معظم موظفيها البالغ عددهم 5 آلاف أصبحوا يعملون من منازلهم.
وقد أدى هذا الأسلوب إلى تخفيض الحاجة لمساحات ومبان كبيرة، وإلى توفير الكثير من المال لتطوير المكاتب، وإلى تجنّب بعض المشاكل التقنية. كما أتاحت الوزارة للموظفين تقييم المديرين، واستغنت عن أولئك الذين حصلوا على درجات سيئة.
ومن بلجيكا، يعود مخرج الفيلم إلى المدير الهندي “فينيت نايار” الذي يتلقى دعوات من كُبريات الشركات لشرح أفكاره التطويرية. ويتحدث “نايار” عن أهمية مصداقية المدير في نظر الموظفين، وعن انهيار الحواجز المعرفية بين القادة والموظفين في العصر الرقمي.
أما “غريبر” فيتأسف لأن المنظومة كلها تتداعى، فيقول: “لدينا مشكلة ديون وغياب عدالة ومشكلة بيئية ومشاكل أخرى”، فيما يلاحظ “كارلوس” أن معظم الشركات لا تقوم بالتغيير والابتكار.