سجن “ميامي ديد”.. جولة على شاطئ “ميامي” الآخر

عبر أربع قارات وستة سجون مختلفة؛ تفتح الجزيرة الوثائقية ملف “أعتى السجون في العالم”، فتذهب إلى ما وراء البوابات والجدران وقضبان النوافذ، إلى عالم مجهول نعلم بوجوده لكننا لا نريد التفكير فيه، إنها من أقسى السجون في العالم، حتى إن زعماء العصابات والقتلة يجربون فيها معنى الخوف. تدخل كل حلقة من حلقات السلسلة إلى عالم السجناء، ترصد حياة القدامى منهم والجدد الذين يقضون ليلتهم الأولى في الزنزانة، والأمهات اللواتي يتعين عليهن تربية أطفالهن خلف القضبان، والمجرمين الذين ينتظرون مصيرهم. وهذه الحلقة من السلسلة تتناول سجن “ميامي ديد” في ولاية ميامي الأمريكية.
حسن العدم
عندما تسمع اسم “ميامي” فإن أول ما يتبادر إلى ذهنك هو الشواطئ الذهبية البراقة، وقد تداعب خيالك فكرة أن تلتقي بأحد المشاهير من أهل الفن أو الرياضة أو المال، لكن الوجه الآخر لحقيقة ميامي هو أسوأ من ذلك بكثير، فهذه المدينة تعتبر ثاني أفقر تجمع سكاني في الولايات المتحدة الأمريكية، وعندما تسمع عن الفقر فمتلازمة العنف والجريمة ستقفز إلى عقلك فورا بالضرورة.
في نهاية كل أسبوع ينهمك رجال الشرطة في جميع أقسام ميامي في جمع أولئك المجرمين ومثيري العنف، ويرسلونهم على دفعات إلى مركز الاحتجاز السابق للمحاكمة، والمعروف اختصارا باسم “سجن دي سي”. وهذا المجمع المخيف ذو السمعة السيئة يستوعب 1700 سجين.
يتم فرز السجناء الجدد حسب أعمارهم، ليتم إرسال الفئة العمرية بين 14 و24 عاما إلى ما يسمى “معسكر ميامي ديد التأهيلي”، بينما يرسل الباقون إلى المحكمة، ثم إلى سجن مقاطعة ميامي ديد.
هذه المراحل جميعها سجلتها الكاميرا بالتفصيل، وقدمتها الجزيرة الوثائقية في حلقة بعنوان “سجن ميامي ديد- فلوريدا” ضمن سلسلة “أعتى سجون العالم”.
“إفراغ الكأس قبل إعادة ملئه”.. الاستقبال الترحيبي
هذه حافلةٌ تدخل فناء معسكر التأهيل حاملة على متنها 37 سجينا شابا، بينهم “روبرت” و”أوسمان”، يستقبلهم الحراس بسلسلة متواصلة من الصراخ الشديد والشتائم المقذعة، “هيا انزلوا من الحافلة، هيا بسرعة”، وقد يعيدونهم إلى الحافلة لتكرار العملية عدة مرات، إذا لم تكن استجابتهم سريعة ومرضية لغرور الحراس الأشداء، ثم -وبدون مقدمات- تبدأ حلقة الضغط الجماعي على الأرض، كل ذلك وسط صراخ ورعب متواصلَيْن من الحراس.
يقول الحراس إن الهدف من هذه الطقوس هو كسر هيبة السجناء وتحطيم معنوياتهم.
“يتوجب علينا إفراغ الكأس قبل إعادة ملئه”، هكذا يقول المدرب “جولز وودن” في إشارة إلى إفراغ السجناء من كل عناصر القوة والعزة والغرور الذي دفعهم إلى ارتكاب جرائمهم، ثم إعادة ملئهم بمقومات الحياة السوية والنظر إلى المستقبل بعين الجد والتفاؤل.
“قل أجل سيدي، هيا بصوت أعلى، قل أجل سيدي، لا لا يعجبني هذا، أريدك أن تنظر إلى عيني وأنت تقول أجل سيدي”، إنها حالة من الذهول والارتباك والصدمة وعدم التركيز تنتاب السجناء الشبان وهم يستمعون إلى هذا السيل الجارف الهدّار من الصراخ والتهديد والوعيد.
هل تعتقدون أن الأمر سيتوقف عند هذا الحد؟
كلا، فهذا روتين يومي يستمر على مدى 24 ساعة في اليوم، فحتى في وقت النوم القليل الذي يحصلون عليه، تلاحقهم صرخات الحراس في كوابيسهم المزعجة. ناهيك عن قَصَّة الشعر المميزة التي أعدها الحراس للمساجين الجدد.

معسكر التأهيل.. أنت على مفترق طرق
في هذا الروتين بالغ القسوة الذي يستمر 16 شهرا متواصلا، قد ينهار بعض السجناء في أول أسبوع، إنهم أولئك الذين لا تساعدهم قدراتهم الجسدية على تحمل البرنامج البدني العنيف، أو الذين لا تخضع نفوسهم إلى هذا القهر والإذلال المُمنهج، فهؤلاء سيفشلون ويجدون أنفسهم مرة أخرى أمام القاضي ليحكم عليهم بسنوات طويلة خلف قضبان سجن مقاطعة ميامي ديد، التي قد تستنزف ما بقي من سنوات حياتهم.
أما المقبلون على التغيير، والراغبون في حياة جديدة بعيدة عن العنف والجريمة، فسوف يقبلون التحدي، وينصاعون للأوامر، ويتفوقون بعزيمتهم الحديدية على قدراتهم الجسدية، وسيفجرون مكامن طاقاتهم الخلّاقة، ثم في النهاية سينجحون في الإفلات من ظلمات السجن الرهيب.
طقوس الإزعاج.. العلاج النفسي العنيف
في الأيام الأولى استطاع المدربون أن يكوِّنوا فكرة عن ضيوفهم الجدد، “روبرت” شاب عنيد وأحمق، يظن أنه لن ينكسر، لا بد من معاملته بعناية أكثر، لا مكان هنا للمتكبرين. أما المسكين “جوسيبي” فجسده منهار وقواه خائرة، يبدو أن المخدرات قد نالت منه كثيرا، ولكن لا بأس، فسيهتمون بلياقته البدنية. بينما يمثل “أوسمان” قصة أخرى، فهو يعاني من جرحٍ نفسيٍ بليغ.
يقول الحراس: نحن لا نعدكم أن نكون أطباء نفسيين حتى نخرجه من أزمته التي يعاني منها، نحن فقط سنجعله ينسى أنه كان يعاني من شيء ما قبل أن يأتي إلى هنا، لن تشفع له دموعه المنهمرة، لا نحب منظر الدموع في أعين الشباب.
أما الطعام الذي يفترض أن يكون فترة النقاهة الوحيدة، فإنه لا يبدو كذلك، فالوجبات لها طقوسها المزعجة كذلك، فكل حركة لها بروتوكولها الخاص، وعلى الجميع التقيد بذلك، وإلا فالحرمان من الطعام مصيرهم، ناهيك عن الكمية القليلة التي لا تكاد تسد الجوع، والنوعية الرديئة التي لا تعجب أحدا من النزلاء، والأبشع من ذلك هو الدقائق الثمانية المحدودة لإنهاء الوجبة.

الوحوش الشرسة.. رجال على حافة الإعدام
سنعود إلى روبرت والشباب الآخرين مرة أخرى، ولكن دعونا الآن نذهب في جولة إلى سجن الكبار، لنرافق الضابط “إيفوري ويليامز” الذي يتعامل مع أخطر المجرمين والقتلة واللصوص من المحكومين بالإعدام والمؤبد والسنوات الطويلة.
يقول ويليامز: في مثل هذا المكان عليك أن تتوخى الحذر الشديد، معظم الناس هنا لا أمل لهم في الخروج، وبالتالي ليس لديهم ما يخسرونه، وقد يتصرفون بحماقة لا تتوقعها.
هنالك 400 سجين ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام بحقهم في أية لحظة، ويتوزعون على زنازين تحتوي على 8 إلى 16 سجينا خطرا في كل زنزانة، لتكون فلوريدا بذلك ثاني أكبر ولاية تنفذ فيها أحكام الإعدام.
ويجيب ويليامز عن سؤال ما إذا كان يشعر بنوع من التعاطف أو الشفقة تجاههم، فيقول: في الحقيقة لا، لا أتعاطف معهم، إنها ليست مهمتي هنا، أنا أعرف أن بعضهم لا يستحق الحكم الذي صدر بحقه، ولكن طبيعة عملي تقتضي أن أتعامل مع الجميع هنا بالقوة والحزم والحذر المطلوب.

سجن المقاطعة.. البقاء للأقوى
في الزنزانة الضيقة، هنالك متسع من الوقت لصناعة العنف، إن أي احتكاك بسيط بين السجناء كافٍ لإشعال فتيل معركة عنيفة، كما أن الوقت اللامتناهي المتاح للسجناء داخل زنازينهم يحفز طاقات الابتكار لديهم لصنع الأسلحة اليدوية المؤذية.
كل الجرائم يمكن أن ترتكب في الداخل، من الاشتباك بالأيدي إلى الطعن بواسطة الأسلحة اليدوية، إلى الاغتصاب والعنف الجنسي، والنتيجة مزيد من السجناء داخل الزنازين الانفرادية.
“تورانس” 45 عاما، هو فيلسوف سجن مقاطعة ميامي ديد، وهو أيضا حكيم السجناء في وقتٍ قد لا تنفع فيه الحكمة المتأخرة، إذ يقضي عقوبة بالسجن مدى الحياة لقاء جرائم قتل وعنف مسلح، وقد أمضى ما يقارب ثلاثين سنة من محكوميته بعد أن دخل السجن وهو ابن 16 عاما، وإذ هو ما يزال يتمتع بالحياة حتى هذه اللحظة، فهو يعتبر أنه قد حقق إنجازا عظيما بتجاوز كل العقبات ومحاولة الإيقاع به وتهديد حياته من السجناء الآخرين.
إن البقاء على قيد الحياة في هذا الخضم العنيف، يعطيه جرعات من الأمل أنه سينجو، وسيُفرج عنه، ما زال يتشبث بالحياة.

إنهاك وضغط نفسي.. البقاء للأصلح
مضى أسبوع على “روبرت” ورفاقه في المعسكر، ولكن ما زالت النتائج مبكرة، فما زالوا بحاجة إلى ضغط أكبر وتحطيم أعنف، وما زالت بقايا المخدرات والكحول تسري في دمائهم، رغم أنهم نزفوا كثيرا منها مع العرَق، وهذا كفيل بأن يساهم في تحسن لياقتهم، ولكن “جوسيبي” ما زال يعاني، كما أن “روبرت” ما زال يكابر “إنهم يعاملوننا كالآلات”، ولكنه من جهة أخرى يضغط على نفسه ويحاول السيطرة عليها حتى يحظى بفرصة الحرية، وعدم التعرض للسجن.
الحصة التدريبية الأولى تبدأ في الخامسة فجرا، بطونٌ خاوية وجفون ناعسة لم تشبع من النوم أبدا، إزعاج مستمر، وإذلال متواصل، وتمارين قاسية ما بين الضغط وتمارين المعدة، والركض بوضعية القرفصاء، والجري لمسافات طويلة داخل الفناء، إلى أن يصل الإنهاك مداه عند الجميع، بل إن بعض حالات الوفاة يمكن أن تحصل نتيجة الإنهاك الشديد والضغط النفسي المتواصل، والعنوان الوحيد لهذه المرحلة وجميع الأوقات “الانضباط التام، والانصياع للأوامر”.
هناك استراحة قصيرة بعد ساعة ونصف من التدريب العنيف، يشربون فيها 200 ملليلتر من الماء، ثم يواصلون من جديد.

المعاناة بصمت.. لا أحد يحفل بك
النوم أيضا بأوامر هنا، حتى التقلب أثناء النوم ليس اختياريا، النزيل مراقب طول الوقت، والكاميرات في كل مكان، أي تصرف خارج نطاق المجموعة ستكون له عواقبه التي لن يحبها “أوسمان” ابن الثامنة عشرة. مزيد من التقريع والتوبيخ وتمارين الضغط، إنهم لا يراعون الحالة النفسية التي يمر بها، لقد ترك زوجته وطفلته التي لم تبلغ الشهر الثاني من عمرها، لا توجد امتيازات خاصة هنا.
إن إظهار الضعف لا يشفع لصاحبه، بل قد يزيد وضعه سوءا، والأفضل هو المعاناة بصمت والتفوق على آلامك، لأنه لا أحد يحفل بك.
أما حكيم معسكر التأهيل “روبرت”، فهو غير نادم على الجرائم العديدة التي فعلها، وأشدها الشروع بالقتل، “لأن الندم لن يغير شيئا مما مضى” كما يقول، ولكنه يحاول أن يركز في حياته الجديدة الآن، وألا يرتكب مزيدا من الأخطاء والحماقات حتى تنقضي فترة سجنه، وأن يتطلع بأمل نحو مستقبل نظيف، خالٍ من الجرائم.
إن غسيل الدماغ والتمارين البدنية القاسية، هي الروتين اليومي في هذا المكان، وفرص النجاح محدودة للغاية في تجاوز مدة التدريب، وتشير الإحصائيات إلى أن 10% من الشباب يفقدون الفرصة في النجاة في الأسبوع الأول من المدة، فالتحدي كبير للغاية، وخصوصا بالنسبة لشباب لم يتحمل المسؤولية قط سابقا، ولم تكن له أهداف في بداية حياته.

يوم التفتيش.. ليست كل مفاجأة سارّة
لا يجب أن يترك السجناء في سجن المقاطعة دون تفتيش، فهم خلّاقون في ابتكار الأسلحة المؤذية، ويستعد الحراس ليوم تفتيشهم استعدادات خاصة وعلى رأسها عنصر المفاجأة، فتقوم مجموعة كبيرة من خيرة الحراس باقتحام الزنازين واحدة تلو الأخرى، يفتشون النزلاء خارج الزنزانة ثم يدخلون، لا يتركون ثقب إبرة دون تفتيش، وفي كل مرة يفتشون يجدون كل شيء من الممنوعات من مخدرات وسجائر وأسلحة يدوية وهواتف محمولة.
في هذه المرة وجدوا مصنعا مبسطا للخمور، لقد تمكن السجناء في إحدى الزنازين من تحويل عصير الفواكه إلى مادة مسكرة بعد تخميره بواسطة مواد كيميائية مهربة.
لقد قلنا في السابق إن الفراغ الطويل والحاجة الملحة تدعوان السجناء للابتكار الخلاق، ولكن هذا الابتكار لن يمر دون عقاب، فستكون هنالك جلسة استماع تأديبية، وبعدها يقرَّر شكل العقوبة، وفي كل الأحوال فالزنزانة الانفرادية في الانتظار.
ولكن كيف يحصلون على المواد المهربة؟
قد يكون ذلك عن طريق الزائرين، وهو الأكثر شيوعا، ولكن هناك أيضا بعض الضباط والمحامين المتواطئين، وكل شيء له ثمن، ومن كل فئات الناس هناك من يقبل العمل بثمن.

الفرصة باقية.. والأمل مستمر
لم ييأس فيلسوف سجن المقاطعة “تورانس” يوما من أن يكون خارج القضبان، فيقول: من حقي أن أحلم بالحرية ما دمت أتنفس، لأن القوانين تتغير كل يوم.
أما صاحبه “تيركل” فيقول: سأحاول أن أكون جيدا، أريد أن ينتهي هذا الكابوس، وأخرج للحياة من جديد؛ سوف أكمل دراستي، وأتزوج وأبني بيتا ملؤه الحب والمسؤولية.
وفيما نزلاء معسكر التأهيل ما زالوا يلهثون من شدة الإعياء، فإن أكثرهم يطمح بإنهاء فترة التدريب بنجاح دون الحاجة إلى مواجهة القاضي مرة أخرى، خشية أن يقذف بهم وراء القضبان، ساعتها فقط سيندمون حين لا ينفع الندم.